فيليب سوليرز: مثلما هو أو ما يصبو إليه
ترجمة: سعيد بوخليط
بعد رواية فلسفية جدا، انصبَّ اهتمام سردها على رمزية هيغل، يعود سوليرز بروايته ”جمال”، عنوان أكثر حسِّية وموسيقية. تقول، بخصوص بطلة الرواية عازفة البيانو الإغريقية: “يشكِّل هذا الأمر نعمة وحيدة بين طيات مجتمع إنساني مجنون”.
لقد اندهشتَ دائما نحو الموسيقيين؛ وفي روايتكَ ”النساء” تعتبر الشخصية الأكثر إيجابية موسيقية، لكن للمرة الأولى تشغل موسيقية مجمل حيِّز البطولة. أعتقد، بأنَّ الموسيقى تجلَّت في هذا العمل بكيفية مدهشة للغاية.
يبدو جديرا بالاهتمام انحدار عازفة البيانو من الهوية الإغريقية. لكن نتيجة الوضع الكارثي الذي تكابده حاليا جزيرة لسبوس وبؤسها، أودُّ الحديث عن اليونان. حين إصغائي إلى بودلير، أسمعه يخبرني بأنَّ لسبوس جزيرة ”ألعاب لاتينية وملذَّات إغريقية”. قصيدة أدانتها العدالة الفرنسية. كيف انتهى مصير هذه الجزيرة؟ حاولتُ دائما تدبيج الإخراج الفني حول تناقضات صارخة. بالتالي، عازفة بيانو موهوبة، يعيش بلدها تجربة فعلية تحت وقع قصف من طرف البؤس. قضت طفولتها في جزيرة أجانطيس، وعزفت الموسيقى داخل معبد أثينا. أقصد سعيا نحو بعث سمات المذهِل ضمن ثنايا الحضارة القديمة. اجتازت الألعاب الاولمبية بمعية الشاعر بنداروس، عصورا كثيرة ثم وصل غاية حيث أنتَ قصد التغنِّي بالألعاب الاولمبية. ما إن يحدث استحضار اليونان، يشغلني تبيان كل شيء خلال الآن ذاته. هناك ظهرت الديمقراطية، والتي يتهدَّدها الخطر. إذن تبدأ الرواية لحظة تواجد السارد في أثينا رفقة صديقته. أثينا،مدينة ملوَّثة غاية الموت، لكنها تنطوي على أكبر الجماليات.
جوزيان سافينو: لايتعلق الأمر فقط بالشاعر بنداروس، بل أيضا كتَّاب آخرين…
فيليب سوليرز: من الذي تمثَّل اليونان بكيفية عميقة للغاية،ضمن مسار الثقافة الغربية؟، خلال لحظة يتركَّز السعي نحو تخليص المنظومة التعليمية من اللاتينية واللغة الإغريقية،موقف رجعي للغاية، لذلك أنحاز إلى الطرف المناقض لأنه من خلال استبعاد دراسة الإغريقية، يكمن تطلُّع نحو استبعاد الديمقراطية، أو يتم اقتراح صيغة مزيَّفة. من الذي اهتم بالإغريق؟ حتما الفلاسفة، لكن في المقام الأول الشاعر الألماني هولدرلين، بالتالي دوره وموقعه بين صفحات هذا العمل.يلزم ذِكر اسم الفاعل اللعين،أقصد هيدغر الذي امتثل باستمرار لسعي من هذا القبيل، واهتمامه كثيرا بهولدرلين. عندما وصل الأخير إلى مدينة بوردو، فقد ظنَّ بأنَّه اكتشف الإغريق. بالتالي،نَظَمَ قصيدته الرائعة” تذكار”. تغنَّى هولدرلين بالهوية العميقة في الجنوب الغربي لفرنسا أكثر من كل شاعر فرنسي. لقد مرَّ من هنا سنة 1802 :”وحدهم الشعراء يؤسِّسون الرَّاسخ”، هكذا جاء آخر مقطع شعري من تلك القصيدة. تمثِّل حيثياته موضوع أطروحتي الأساسية.
جوزيان سافينو: يوجد أيضا كتَّاب تحبُّهم،جورج باتاي، فرديناند سيلين، جيمس جويس، جان جينيه
فيليب سوليرز: حين تسليط الضوء على الأساسي، يغدو الجميع راهنا، فالكلّ حاضر. ذلك ما تطلعت إلى القيام به عبر متون جلّ كتبي. إذا تم حظر هؤلاء الكتَّاب ينبغي قراءتهم. وحدها اللغة الفرنسية أنجبت على نطاق واسع كتَّابا متناقضين جدا. يعتبر نيتشه الأول الذي أكَّد على تبلور المعجزة الإغريقية من جديد بواسطة المعجزة الفرنسية. جيمس جويس، المحظور في مكان ثان، احتضنته باريس من خلال الإصدار والنشر.
جوزيان سافينو: يطرح في روايتكَ ”جمال”، سؤال الحبّ ونصادف هذه الجملة: ”يمكننا تسمية الحب بمثابة إلغاء للحظة المسافات”.
فيليب سوليرز: بالإحالة على الموسيقى ”الموسيقى غذاء الحبّ”، يقول شكسبير. الموسيقيون من يغذُّون العشق.
جوزيان سافينو: تضمَّنت هذه الرواية أسماء الموسيقيين الذين رافقوك باستمرار، يوهان باخ، جوزيف هايدن، أماديوس موزارت، أنتون فيبرن.
فيليب سوليرز: يعكس ذلك الحالة الأكثر إذهالا و تراجيدية. وجب الإصغاء وكذا تأمل التشكُّلات الموسيقية التي يعزفها هربرت غولد على آلة بيانو. معطى استغرق خمسة دقائق واثنتي عشر ثانية .إبداع تقدِّمه عازفة البيانو بين صفحات رواية ”جمال” خلال حفلات موسيقية. أنتون فيبرن موصول كليا مع يوهان باخ. استشهد فيبرن أثناء مناسبات عديدة بهولدرلين لاسيما هذه الجملة: ”أن تحيا، يعني الدفاع عن حالة”. طبعا اعتبره النازيون منحطّا. من سمات تراجيدية التاريخ، هناك حيث التجأ هاربا صحبة زوجته، قُتِلَ خطأ من طرف جندي أمريكي، عندما خرج لتدخين سيجارة.
جوزيان سافينو: قلتَ بخصوص التجربة: ”ترتكز التجربة على رؤية كل شيء للمرة الأولى”.
فيليب سوليرز : خلاصة كلمة موسيقيِّ لكن هذا ربما ينسب إلى كاتب، وموسيقيِّ كلمات.
جوزيان سافينو : حينما نبدأ، يتحقَّق الأمر باستمرار كما لو يحدث للمرة الأولى، حتى بعد إصداركَ لخمس وسبعين كتابا؟
فيليب سوليرز : حتما. مثلما دائما. تتجلى هنا حمولة فلسفية : أن تحيا كي يتبلور السعي للمرة الأولى.
جوزيان سافينو: مع أنَّ عازفة البيانو جمعتها بالسارد علاقة مكشوفة للعلن، رغم ذلك جسَّدت رواية “جمال”أنشودة للسرِّية.
فيليب سوليرز: مرة أخرى.أضحى كل شيء استعراضا: ”فلتكن سعيدا وأنت تعيش متواريا ”، قلتُ ذلك منذ زمن،أستعيد مقولة، طوت دائما كتاباتي. يمقت المجتمع الحبّ.
جوزيان سافينو : هناك خاتمة صغيرة، عنوانها”اللانهائي ”تتعلَّق بجلِّ ماكتبتَه، حول إشكاليتي الكمِّي والنوعي.
فيليب سوليرز: صحيح. بقدر نمو الكمِّي، يتباين النوعي.
جوزيان سافينو: شيء ثان. سنة 2016، قاربَ عمركَ ثمانين سنة.
فيليب سوليرز: أفضِّل قول اثنين وأربعين مليون دقيقة وثلاث وأربعين مليار ومائتي مليون نبضة قلب، غير ذلك مجرد لوحة جنائزية.
جوزيان سافينو: رفضتَ لقاءات احتفالية، من بينها برنامج مركز جورج بومبيدو. لقد اخترتَ إصدار كتاب لدى مؤسسة غراسي شمل حوارات أجراها معكَ فرانك نوشي، صحفي جريدة لوموند، تحت عنوان ”هجوم مضاد”، كتاب ميَّزته الطاقة والحيوية. لماذا؟
فيليب سوليرز: اتَّضح لي دائما تعرُّض ماهيتي ثم مختلف ماأعشقه لهجوم من طرف المجتمع الذي نعيش داخله الأكثر رجعية قياسا لكل ماسبق، إذن أحاول إثارة الانتباه صوب مختلف تلك التراجعات.
جوزيان سافينو : أشار فرانك نوشي إلى مقالة صدرت سنة 1999، تحت عنوان ”فرنسا المهترئة”، أثارت حينها سجالا.
فيليب سوليرز: تنبغي إعادة قراءتها. لكن فرنسا الحالية أساسا متهالكة.
جوزيان سافينو: مع ذلك ليس بكتاب يصبُّ وجهة الانحدار.
فيليب سوليرز: لا، يعتبر كتاب ثقة وأمل.
جوزيان سافينو: تستحضر مقولة جاك لاكان: ”لاشيء نأمله من اللاأمل”.
فيليب سوليرز: لاحظ لاكان فوق أريكة التحليل، أشخاصا يأملون عبر اللاأمل.
جوزيان سافينو: إذن الأمل؟
فيليب سوليرز: يُستوعب الأمل فقط ضمن مايستمر. لذلك يكمن الحبّ هنا قصد تحقيق المتوخى.
مرجع الحوار:
L’Orient littéraire ;numéro 166 .Avril 2020.