محاولة انصهار ومخزون الذاكرة في رواية “كرمة الصبار”
أحمد لعيوني
ارتأيت أن أقدم بعض الانطباعات حول رواية “كرمة الصبار” للكاتب محمد عناني، الصادرة عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر. هذه الرواية تكاد توحي لقارئها منذ البداية بلغة متوسمة بالبساطة في ظاهرها، وأسلوب سلس تارة، ومركب، تارات أخرى، وبوعي عميق يمكن تأويل دواله وفق أوجه متعددة، حيث يجنح التعبير عنه في بعض الأحيان إلى الغموض والتجريد.
الرواية في تذويتها للغة تجنح إلى جنس السيرة الذاتية، سيما في سبرها لأغوار الذات ومخزون الذاكرة، لكنها ترسم مسافة فنية على تخوم الخصائص البانية لما هو “سيروائي”. حيث يحكي السارد (وهو ليس الكاتب بالضرورة) عن طفولته، ووضعه الصحي “فلأمض إذن في سرد أحداث هذه الرواية، بالرغم من المرض الجسدي والإنهاك النفسي”(ص.27). كما يمكن إدراجها في خانة الرواية التاريخية، لتطرقها لعدة مراحل مرت منها منطقة ” العلوة ” سواء من خلال ماحكاه له، عنها، جده، ذلك الشيخ الحكيم، الذي يرمز إلى حمولة ثقافية قد نتوارثها عن القدماء، فالجد رغم تعليمه البسيط، نهل الكثير من ثقافة وتجارب الحياة، وشارك أهل قبيلته في الدفاع عنها، ودافع عمن أحب. دافع عن القبيلة، ودافع عن الشرف متحملا المحن والشدائد. كما تحدث له عن زمن السيبة ودخول الاستعمار، والمقاومة وما عايشه شخصيا، بنفس الأسلوب الوجداني الذي كان يعبر من خلاله عن حالاته النفسية عندما يكون متكئا على كرمة الصبار.
في حديث الجد عن دخول الاستعمار يبين بطريقة نبهة الحيلة التي كان يلجأ إليها الفرنسيون لتبرير الاحتلال بادعائهم أنهم جاؤوا لتحديث وتغيير عقلية الأهالي التي ظلت جامدة لمدة قرون، فبرروا بذلك استحواذهم على أخصب الأراضي وحولوها إلى ضيعات تزخر بمنتوج لم يكن أصحابها يعرفونه فيما مضى.
وبعد تضحيات ملحمية ومقاومة باسلة رحل الاستعمار وذووه، فحل فجر جديد، طالما ارتقبه الناس بعيون حالمة، غير أن هذا الحلم تفتق عن سراب، فكان عليهم أن يقاوموا بشكل مختلف، وأن يقدموا ضحايا من جديد، ولكن الحلم المنشود سيظل دائما بعيد المنال الأمر الذي جعل الأهالي يعيشون غربة مزدوجة : غربة في أراضيهم التي طاولها التغيير، وغربة الاندماج في الثقافة الجديدة التي فرضت نفسها عليهم بقوة السلاح المتطور.
***
لا تخلو الرواية في مضمونها من مسحة فلسفية، بدءً من استيحاءات لأفلاطون (البحث عن المُثل العليا خاصة مثال الجمال) وصولا إلى نيتشه (الدعوة إلى إعادة النظر في القيم القائمة وإعطاء الجسد المكانة التي تليق به والتي غيبتها الثقافة وصرامة معايير العقل إلى ذلك الحين).
إن الرواية إلى جانب ذلك جاءت تمازج بين التفكير الروحاني والمادي، وبين الواقعي والخيالي وبين علم الكلام والتصوف الإسلامي بمختلف معانيه وأصحابه، حيث يطبع جوانب من الرواية في أكثر من مرحلة، وأكثر من موقف، ويفهم هذا من ترديد الكاتب للآية القرآنية بشكل لازمة “قل لو كان البحر مِدادا لكلمات ربي لنفِدَ البحر قبل أن تنفَدَ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مَدَدا”. تلك الدلالة على التطلع لإدراك المعرفة اللامتناهية في الأفق، وما تنطوي عليه من إيجابيات بالغة الأهمية في حياة البشرية، واستيعاب المعنى الحقيقي للوجود. فمهما تعددت المعاني والمفاهيم المعرفية، لا يسعها تأويل هذه الآية لعمق مغزاها في خلق الكون وسر الوجود بتعبير المؤلف نفسه.
ومن خلال فصول هذه الرواية نلاحظ التداخل الحاصل بين الواقع والحلم، بين السريالي والعقلاني، بين التقليدي والمحدث بين الحاضر والماضي. وهي لا تخلو من مسحة السخرية الهادفة التي تضفي عليها صبغة جمالية.
يحاول الكاتب مسترسلا في سرده، كشف المستور، والحديث بنوع من الصراحة عن “زمن الأخطاء” ) ليس بالجرأة التي كتب بها الروائي محمد شكري (1935-2003) تلك الأخطاء والخطايا التي تلازم حياة البشر، لكن أكثر الناس يتنكرون لها ويحاولون الظهور بمظهر الاستقامة، بينما حياة البشرية كلها تكاد لا تخلو من رواسب “… وبدون أدنى شك أيقنت أن جميع الناس مروا من هنا…” (ص228). وعلى الأخص في مرحلتي المراهقة والشباب، وضلوعهم في العديد من الغوايات، التي لم ينج إنسان من المرور بها، رغم محاولتهم إخفاءها كلما تقدم بهم العمر. الحياة ليست كلها براءة، والناس ليسوا كلهم أسوياء بينما يتظاهرون بذلك من وراء الأقنعة، وهو ما يطلق عليه علم النفس ” النفاق الاجتماعي”. لم تكن الطابوهات والممنوعات سوى قضايا اقتصادية واجتماعية وثقافية ألفنا التستر عليها، ونحاول إدراجها ضمن المسكوت عنه، لكن قد يكشفها الزمن مهما طال أمده، “.. أشخاص يظهرون غير ما يبطنون “ص.44.
تناقش الرواية من جهة أخرى مسألة الإيمان الحقيقي من منظور فلسفي ” كان جدي سرا. وكان الله سرا. وكان العالم سرا. وكنت أنا أغرب الأسرار .” (ص.46)
في مستهل سياقها، تأتي الرواية على ذكر العديد من ” شخصيات العلوة ” والذين رغم جنونهم كانوا حكماء بصراحتهم وعيشهم الحياة بدون أقنعة ولا يعرفون للنفاق سبيلا. “كم كان مجانين العلوة يضفون عليها من جمال فريد!” ص.195 منهم ؛ ” الشوكة “..كل عامين كانت تضع مولودا، و” بوعلي ” دائم التأنق في مظهره.. و ” با قاسم “المهووس بركوب الحافلات. و ” الزمار ” كان مهووسا بالماء…” (ص197 .) يأتي ذكر كل هؤلاء ليس للسخرية منهم، ولكن لإظهار التعارض بين الطبيعة والثقافة في حياة الإنسان. لقد استطاعت هاته الشخصيات ببساطتها وعفويتها، أن تتخلص من نير العقل ) العقل في اللغة مشتق من العِقال وهو الحبل الذي تقيد به الدابة( ، وأن تحيا الحياة كما ينبغي أن تعاش دون خضوع لمعايير الثقافة السائدة، التي تتبنى في مجملها معايير الخداع والنفاق. لقد قال الكاتب الإنجليزي جيلبرت كيث تشيستيرتون 1874 – 1936 G.K. Chesterton : “الأحمق ليس هو الإنسان الذي فقد عقله، ولكنه ذاك الذي فقد كل شيء إلا عقله”.
إن الرواية توضح سلوكات بعض أفراد المجتمع، يظهرون الورع والتدين ويقومون بممارسة الوعظ، لكن سرعان ما يكتشف أمرهم، وتظهر حقيقتهم على أنهم ليسوا سوى تجار دين، ويستغلون حداثة سن المستمعين إليهم فيقومون بحشو عقولهم بأفكار متطرفة لا تمت بصلة للدين في صفائه وسماحته. إن من بينهم من ليسوا شيوخ دعوة خالصة للدين ينبغي توقيرهم واحترامهم والأخذ عنهم، بل قد يكونون مجرد سماسرة يتاجرون بالدين كما هو حال الشيخ المسمع الذي “لا يلتمس من الدين غير الدنيا، وما هو إلا مأجور في بيت الله”. (ص.224)
إن “كرمة الصبار، بما هي اصطلاح، ” لها رمزية خاصة في المخيال الشعبي في العديد من مناطق المغرب. هذه الكرمة الهرمة لما مر عليها من أزمنة وعصور، بقيت شاهدة على الصراعات والتناحرات القبلية، ولم يُعرَف من غرسها، لكنها أصبحت تؤثث الفضاء الذي يعيش فيه جد الراوي، وتضفي عليه قدرا من الاحترام والوقار. كما ترمز إلى الصبر على قساوة الطبيعة والمناخ وتتحداه شامخة، وتوحي بالتشبث بالتقاليد، والتمسك بالأرض الموروثة عن الأجداد. كرمة الصبار معروفة في الثقافة الشعبية لما لثمارها من أهمية كمنتوج مجالي، لا يستغني أحد عن تناولها مهما كان وضعه الاجتماعي.
تتردد من خلال الحكي الكثير من المفاهيم والتعابير الفلسفية، ويعود ذلك إلى التكوين الفلسفي لمحمد عناني، مما يضفي على الرواية صور التأمل في العديد من القضايا المطروحة، وطريقة التعايش معها، أو أخذ موقف منها.
تنتهي الرواية بلحظات مفارقة الحياة والإقبال على العالم الآخر، عالم الخلود.
” ثم أخذ الوميض يخفت ويتلاشى”…(ص.237)، والخلود هنا ليس بالمعنى الديني فحسب، بل خلود المؤلف في الأثر الذي خلفه في الرواية، ما لم نقل خلود القارئ وهو يقرأها.