ريشات ساخرة أجنبية وعربية في الصحافة المغربية
بوشعيب الضبار
كان الكاريكاتير، وما زال، وسيظل دائما، فن النقد الاجتماعي والسياسي الساخر، هذه هي وظيفته، وهذا هو دوره، وهذا هو سحره كأسلوب بصري وخطاب بليغ، قوامه الفكرة والخط، يفهمه الجميع بدون قواميس..
قدر الكاريكاتير كسلاح أن يكون في الواجهة، بكتيبة فرسانه الفنانين المدججين بريشاتهم، التي تتحول إلى رماح في معارك النضال لنصرة حقوق الإنسان في كل مكان.
وبديهي أن يقترن تاريخ رساميه بالاحتجاج السياسي في التعبير عن غضب المجتمع، والاصطفاف إلى جانب الجماهير، رغم تعرضهم للتهديدات في حريتهم الفنية وحياتهم الشخصية.
بعيدا عن رسوم الجداريات الفرعونية القديمة بنسقها التعبيري والرمزي، تبقى مصر، تاريخيا، هي أول بلد عربي رائد في فن الكاريكاتير، بشكله الحديث، وجاء هذا السبق بفضل رسامين أجانب، هم الذين وضعوا النواة الأولى، في العشرينيات من القرن الماضي، وهذه بعض الأسماء:
يعقوب صنوع، المولود في مصر، من أب يهودي مهاجر، هو ناشر مجلة “أبو نظارة،” التي أطلقها في القاهرة لتكون أول صحيفة ساخرة، متضمنة لرسوم كاريكاتيرية لفنانين إيطاليين.
“جوان سانتيس”، فنان اسباني شارك في إنشاء مجلة “الكشكول” سنة 1921، وحمل لقب”أبو الكاريكاتير المصري”.
“الكسندر صاروخان”، لاجيء ارمني تألق في مجلة “روز اليوسف” القاهرية، إضافة إلى اسم الرسام التركي علي رفقي.
إدمون كيراز، فنان فرنسي، ولد في القاهرة، واحترف الكاريكاتير السياسي في صحفها، قبل أن يهاجر ويستقر في باريس، إلى حين مماته.
تلك الريشات الأجنبية المشاغبة، صالت وجالت، إلى أن حل عهد الأساطين الكبار للكاريكاتير المصري: محمد رخا، وعبد السميع، وطوغان، وزهدي، وأحمد حجازي، وصلاح جاهين، وجورج بهجوري، وبهجت عثمان، ورجائي ونيس.
وعلى غرار مصر، ومع اختلاف السياقات والظروف، قد يصح القول، إن نفس الحال ينطبق على المغرب، فقد كانت التوقيعات الأولى لرسامي الكاريكاتير في صحافته أجنبية، وفرنسية بالتحديد.
المرحوم مصطفى العلوي، مؤسس جريدة “أخبار الدنيا”، السباقة إلى الكاريكاتير، في الستينيات، قال لي يوما إنه تعامل مع فنان فرنسي في البداية، قبل إبراهيم لمهادي، والعربي بلقاضي، ومحمد الفيلالي، وحميد بوهالي، وغيرهم من الرواد الأوائل.
وبدورها استعانت مجلة “لاماليف” الشهرية، الصادرة بلغة موليير بالرباط، بالأعمال الفنية لثلاثة رسامين فرنسيين، هم “جورج فولنسكي”، و”جاك أرمان كاردون”، و”جان كورمولان”، في رسوم ذات أبعاد سياسية ومفاهيم توضيحية.
وفيما بعد، صدرت بعض أغلفتها مطرزة أحيانا بلوحات لفنانين تشكيليين مغاربة، ورسومات تعبيرية للفنان بغداد بنعاس، بشخوصه الفنية المتلفعة بالجلابيب، بما تعنية من دلالات اجتماعية..
زكية داود، واسمها الأصلي “جاكلين ديفيد،” التي أسست “لاماليف” سنة 1966، مع رفيق دربها محمد الغلام، خلال سنوات الاحتدام السياسي بين المعارضة والحكم، قالت ل”شبكة الصحافة العربية”، إن العدد الصادر من المجلة، عقب مظاهرات الدار البيضاء سنة 1981 تعرض للمصادرة “ليس بسبب مقال، بل بسبب رسم على الغلاف”، له علاقة بـ”انتفاضة الخبز”.
في كتابها “سنوات لاماليف”،حكت زكية داود بألم وحسرة، كيف تعرضت المجلة للضغوطات طيلة مسارها، واصفة إياه بأنه كان “دراما شكسبيرية”، وأجبرت في النهاية على التوقف سنة 1988.
وقبل “لاماليف”، تم حظر مجلة “أنفاس”، ذات التوجه اليساري بخطابه التقدمي، لمؤسسها ورئيس تحريرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، فقد أجهزت الحكومة على نبضاتها الأخيرة سنة 1972، بعد سبع سنوات من الصمود وسط حصار الرقابة.
من الرسامين الأجانب الذين سجلوا حضورهم في الصحافة المغربية، “باربوز”، واسمه الحقيقي دومينيك ميير، فنان فرنسي، عاش في المغرب مابين سنة 2002 و2005، واشتغل في مجلة “تيل كيل”، الصادرة بالفرنسية بالدار البيضاء، وشارك في معرض جماعي إلى جانب الفنانين المغاربة في معرض للكاريكاتير، حول مدونة الأسرة، نظمته كتابة الدولة المكلفة بالأسرة والطفولة، في عهد الوزيرة ياسمينة بادو، في المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء سنة 2005.
ومن فرنسا أيضا، جاءت الفنانة أتالي لوجي، كأستاذة لمادة التربية التشكيلية في مدرسة ليوطي بالعاصمة الاقتصادية، وتعاونت، في نفس الوقت، كرسامة كاريكاتير مع عدد من المجلات، ضمنها “سيتادين” و”نساء من المغرب”، وساهمت أتالي لوجي أيضا في نفس معرض “مدونة الأسرة.”
كارلوس لطوف، صاحب ريشة أجنبية أيضا في موقع ” le 360″ المغربي ، وهو رسام برازيلي، من أصول لبنانية، مناهض لتعسف السلطة في بلده، ومنحاز في رسومه للقضية الفلسطينية.
وعند اندلاع الثورة المصرية عام 2011، حمل الناشطون السياسيون الشباب في ساحة التحرير بالقاهرة، لافتات تضمنت رسوماته ذات النسق السياسي.
وبالنسبة للرسامين العرب الذين استطابوا المقام في المغرب، أو ترددوا عليه، ونسجوا علاقات وثيقة مع مثقفيه وفنانيه، هناك العديد منهم، ممن رصعوا بريشاتهم مساحات الكاريكاتير في صحافته.
برهان الدين كركوتلي، فنان تشكيلي سوري فلسطيني، كان يكتفي بحرف “ب” في توقيعه على رسومه الكاريكاتيرية بصحيفة “التحرير”، لسان الحزب اليساري، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، (1959ــ 1963)، وكان مسؤولا عن صفحتها الفنية، وأنجز دراسة رائدة حول الفن التشكيلي بالمغرب، وهاجر إلى ألمانيا و مكث فيها حتى وفاته عام 2003..
عبد الرحيم التوراني، المولع بالرسم الصحافي الساخر، والمهتم بتاريخه، هو من كشف عن هذه المعطيات، في مقالة مفصلة موسومة بـ” الكاريكاتير المغربي بين الحظر والمرارة اللذيذة!”، بمنصة “أصوات مغاربية”.
التوراني اشتغل في يومية “المحرر”، لسان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من سنة 1979 الى 1981، وفي سنة 2007 أصدر ت صحيفة “الانتهازي” التي لم تسلم بدورها من المضايقة والحجز، لنهجها أسلوب السخرية والتندر.
وهو مؤسس ورئيس تحرير مجلة “السؤال” السياسية والفكرية، وناشر الموقع الاليكتروني “السؤال الآن”.
وكان وراء طبع كتاب الرائد المرحوم ابراهيم لمهادي، “شهادات حول سنوات الرصاص والحبر والفحم والطباشير”، الصادر ضمن “منشورات “السؤال/ الملف”.
وعلاقة التوراني قديمة بالكاريكاتير، بحثا وممارسة، وسبق للمرحوم عبد الجبار السحيمي، رئيس تحرير “العلم”، أن نشر رسومات التوراني الفياضة بروح التفكه، على الصفحة الأولى لـ”الملحق الثقافي”، عقب اجتماع للأدباء العرب سنة 1985 بالدار البيضاء، تضمنت تعاليق طريفة حول مبدعي الأمة العربية، الحاضرين في جلسة “نشاط” خاصة جدا، على هامش إحدى الندوات الأدبية..!
عبد المجيد الوسلاتي، رسام تونسي، عرفته زميلا في صحيفة “الميثاق الوطني”، أواخر السبعينيات، لم يمتد به المقام طويلا في المغرب،”وتم ترحيله إلى بلده بسبب اتهامه بنشر رسوم كاريكاتيرية ساخرة مسيئة إلى العلاقات بين البلدين”، وفق كتاب “الكاريكاتير في المغرب”.
الوسلاتي لم يكن الرسام العربي الوحيد الذي استنشق هواء هذا البلد السعيد. كثيرون غيره، سبقوه وعادوا إلى بلدانهم، مخلفين وراءهم طيب الأثر، وجميل الصور.
أيت قاسي رشيد، واحد منهم، رسام جزائري أمضى صباه وشبابه في مدينة الجديدة، ولم يغادرها، رفقة أسرته، إلا بعد استقلال الجزائر سنة 1962، وهو ابن شقيق الزعيم السياسي الراحل علي يعته، وفق ما كتبه عنه مصطفى أجماهري، الكاتب والباحث، في موقع “مازاكان24”.
وفي تصريح أدلت به شقيقته فاطمة المقيمة بفرنسا، للأستاذ أجماهري، عقب دفنه في ضواحي باريس سنة 2016، أكدت أن قاسي كان لديه الكثير من الحب لمدينة الجديدة، التي أمضى فيها أفضل أعوامه، وفيها تفتقت موهبته في الرسم، وأول عرض تلقاه لانجاز ملصق فني كان من نادي الدفاع الحسني الجديدي لكرة القدم.
ووفاء لهذه الوشائج، رفض قاسي أن يسخر ريشته للنيل من وحدة المغرب الترابية، خلال اشتغاله بمجلة ” جون أفريك”، التي اقترحت عليه رسما سياسيا معينا حول قضية الصحراء، فما كان منه سوى “ترك العمل”، حسب تصريحه لموقع “قنطرة” الاليكتروني.
“سليم”، واسمه الشخصي على لمرابطين، من أكثر رسامي الكاريكاتير الجزائريين الرواد حبا للمغرب، ومشاركة في مهرجاناته، فهو حاضر في كل موعد فني للرسم الساخر والأشرطة المرسومة، في فاس وتطوان والدار البيضاء، كلما تلقى الدعوة.
يرتبط “سليم” بعلاقة وثيقة مع الفنان المغربي لحسن بختي، ويحن دائما إلى المغرب، بعد أن مكث فيه زمن التسعينيات رساما لمجلة “ضفاف”، الموجهة لمغاربة العالم في الخارج.
محمد حنكور، فنان جزائري أيضا، ازداد في مدينة أحفير المغربية، قال لي يوما، في حديث صحفي معه، سنة 1989 على هامش المهرجان المغاربي للأشرطة المرسومة والكاريكاتير في مدينة وهران :” ولدت في المغرب، وكبرت في الجزائر، واغتربت في أوروبا”.
بهجت عثمان، صاحب كتاب”جمهورية بهجاتيا العظمى”، الذي يسخر فيه بالكاريكاتير من الديكتاتورية، كان له أيضا نصيب من محبة المغرب، وله فيه أيضا العديد من الأصدقاء ، وضمنهم الشاعر محمد بنيس.
رسوماته وجدت طريقها نحو النشر في “المحرر”، صحيفة الاتحاد الاشتراكي بالدار البيضاء، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.
وأحيانا كان بهجت يفاجيء صحفيي جريدة ” العلم” في مقرها القديم بالرباط، بزيارته لصديقه الفنان العربي الصبان، ليخرجا معا إلى مقهى “مبروكة” القريبة، لارتشاف كأس شاي بالنعناع.
وفي كتابه “رفاق سلاح” خص بهجت صفحتين كاملتين للصبان، إلى جانب مشاهير الكاريكاتير في العالم والوطن العربي والإسلامي.
وللمرحوم “بهجاتوس”، كتاب بعنوان “حكومة وأهالي” يستهزيء فيه من السلطة في مصر، منتصرا للمواطن البسيط في كدحه اليومي.
بكرمه المعهود، استضافني بهجت ذات ليلة في بيته بالقاهرة، بحضور الرسام الذائع الصيت أحمد حجازي، وأطلعني على تذكارات مغربية، تشمل كتبا إبداعية، ولوحات تشكيلية، وأشرطة فنية متنوعة.
جورج بهجوري، جدارياته في موسم أصيلة الثقافي، ومعرضه حول الموسيقى الأندلسية، وعميدها عبد الكريم الرايس، بقاعة “نظر” بالدار البيضاء، سنة 1983، وزياراته المتكررة للمملكة، من المؤشرات القوية على شدة شغفه بالمغرب.
ولطالما تصدرت رسومات بهجوري السياسية أغلفة مجلة “روز اليوسف” في عصرها الذهبي، في الستينيات، وذات مرة تم التحقيق معه بسبب تطويله لأنف الرئيس جمال عبد الناصر.
ولأنه كان ضد سياسة الرئيس أنور السادات، بعد اتفاقية “كامب ديفيد”، أواخر السبعينيات، فقد هاجر بهجوري إلى باريس ليعمل رساما في مجلة”الوطن العربي” وغيرها، قبل أن يعود لاحقا إلى أرض النيل، مودعا ضفاف نهر السين.
واستعادة لكل هذه المحطات وغيرها، نشرت صحيفة “الصباح” المغربية مذكراته على أعمدتها بتوقيع الصديق الإعلامي نبيل درويش، أواخر سنة 2003.
في مكتبتي الصغيرة بالبيت، الذي شرفني بزيارتي فيه أكثر من مرة، ثمة ركن خاص بصديقي العزيز بهجوري، يتضمن كل مؤلفاته بدون استثناء، مهداة إلي بتوقيعه، وملفات عن معارضه، وكمية من المراسلات، والبطاقات البريدية، إضافة إلى بعض الرسومات و”البورتريهات” الشخصية.
حبيب حداد، رسام الكاريكاتير اللبناني المعروف، رسام مجلة “المستقبل” في باريس سابقا، وجريدة “الحياة”، دائم التردد على الدار البيضاء، وهو متزوج بسيدة مغربية من نفس المدينة، ويجيد التحدث بالدارجة، كأنه مزداد بدرب السلطان، وليس من مواليد طرابلس في لبنان عام 1945.
ومن ليبيا قدم إلى الرباط،المرحوم محمد الزواوي، محملا بلوحاته التي عرضها في بهو المسرح الوطني محمد الخامس الرباط، سنة 1988، وسط احتفاء الوسط الثقافي والإعلامي بفنه، كفنان ملتزم يجيد الغوص في التفاصيل.
وطيلة المدى الزمني لرحلته الفنية ظل الزواوي ممسكا بريشته، إلى أن أسلم الروح لباريها، سنة 2011 ، في طرابلس، خلال محاولة رسم جديد لم يمهله الموت المفاجيء لاستكماله، وفق مصدر عائلي.
ومن بين التجارب التي احتضنها المغرب، قبل إجهاضها، تم تنظيم معرض للكاريكاتير العربي، كان هو الأول من نوعه، شهر يوليوز 1981، تحت إشراف اتحاد الصحافيين العرب، وبتعاون مع النقابة الوطنية للصحافة المغربية، بالمركز الثقافي العراقي بالرباط، كان يومها حديث الصحافة المغربية.
انطلقت فكرة المعرض من معهد العالم العربي في باريس، بمشاركة أشهر رسامي الكاريكاتير العرب، بهدف أن يتنقل عبر مختلف عواصم العالم العربي، لتقريب المتلقي العربي من هذا الفن الذي يشكل عنوانا لحرية التعبير، لكن المبادرة ماتت في المهد، بامتناع الدول العربية عن استقباله بعد الرباط.
المرحوم محيي الدين اللباد، وهو رسام مصري سابق بمجلتي “روز اليوسف ” و”صباح الخير”، علق على الموقف بالقول :” هذا الرفض للمعرض، أقوى دلالة على مدى كراهية الأنظمة العربية لمباديء الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحق في النقد السياسي، والاختلاف في الرأي”.