ذكرى التحرير.. وذاكرة المكان..!
محمود القيسي
هنا على صدوركم
باقون كالجدار…
نجوع؛ نعرى؛ نتحدى
ننشد الأشعار…
ونصنع الأطفال جيلا ثائرا..
وراء جيل…
كأننا عشرون مستحيل…
*توفيق زياد
ذكرى تحرير مدينة القلاع من غول الصهيونية العالمية و وديعتها الاسرائيلية المسخ.. صيدا، المدينة التي أحرقت نفسها أكثر من مرة في وجه الغزاة الهكسوس والمغول والتتار القدماء والجدد ولم تتنازل قيد انملة عن حجر واحد – واحد فقط من بحر الاسكندر المقدوني المهزوم بين صيدا وصور.. مدينة الأبواب الفوقا والتحتا التاريخية، الأبواب المُشرّعة والمشروعة أمام القريب والبعيد والغريب والمحتاج.. والتي لسان حالها يقول دائما: “يا غريب الدار إنها أقدار كل ما في الكون مقدار وأيام له إلا الهوى ما يومه يوم…. ولا مقداره مقدار.. لا تسل عني لماذا جنتي في النار.. جنتي في النار فالهوى أسرار والذي يُغضي على جمر الغضى أسرار.. يا الذي تُخفي الهوى. بالصّبر.. يا بالله يا بالله… كيف النار تخفي النار؟…. نعم، مدينة الأبواب الموصدة والعصية على كل محتل غاشم جاء من الشرق أو جاء من الغرب أو الشمال أو الجنوب.. مدينة الأنبياء والقديسين والأولياء والصالحين والصابرين والمجاهدين في الحق ضد الباطل.
المدينة الوطنية باِمتياز وأوسمة ونياشين ودروع وطنية تليق بصدرها الرحب والقلب الشجاع.. نعم، المدينة التي قاومت كل أنواع الظلم والفساد والاضطهاد والحروب من التدمير إلى التجويع إلى الأمراض… المدينة التي سجد التاريخ على أبوابها وركع.. المدينة التاريخية تاريخيًا التي أُهملت تاريخيا لمواقفها التاريخية الوطنية والعربية والعروبية والقومية والأممية في محطات وتواريخ تبدا مما قبل صمودها الأسطوري في وجه جحافل ارتحششتا وصولًا إلى صمودها في وجه الصهيونية القديمة الجديدة وما بينهما وما قبلهما وما بعدهما.. مدينة “صيدون بن كنعان بن حام بن نوح”… صيدا المدينة التي يليق ويفتخر بها التاريخ والجغرافيا والكيمياء والفيزياء والحسب والنسب… واللغة العربية وجميع مفرداتها وبحورها وأنهارها وإعرابها وإشاراتها من الشدة الى السكون..!
المدينة العنقاء التي قاومت واحترقت وقامت.. وقاومت واحترقت وقامت.. واحترقت وقامت… حتى لا يتحول لبنان الـ 10452 كلم مربع إلى مجرد غرفة صغيرة ملحقة في هذا العالم.. غرفة مكتظة بالقمامة والنفايات مقطوعة عن الحياة والهواء والكهرباء والمياه والطحين والدواء.. غرفة محكومة بطبقة سياسية غير نظيفة تفيض بالروائح الكريهة الفاسدة.. غرفة لا تدخلها الشمس.. مجرد أسراب من الصراصير لنشكوا لها همومنا… حتى لا نعيش ونموت في الماضي البعيد والامس القريب والخوف من الحاضر والخوف من المستقبل..
حتى لا تتحول قصص حياتنا إلى ذكريات مرعبة ومضحكة، كالأقنعة التي يرتديها الأطفال في الهالويين متنقلين من باب إلى باب ماسكين الصغار من أيديهم في حَيٍّ تهدّم أو وطن تهدّم في حروب الهوية – وهوية الحروب منذ زمن بعيد.. حتى لا نتحول إلى مواطنين يأكلون عشاءهم الأخير في صمت غاضب وصراخ صامت.. أو يتشاجرون بصوت مرتفع حين تأتي طرقة على الباب، طرقة ناعمة يطرقها ولدٌ خجول يرتدي البذلة التي خاطتها أمّه له في يومًا من الأيام كي يرتدها في (أول أيام العيد).. (عيد التحرير)… ما الذي ترتديه، يا ولد؟ ومن أين لك بذلك القناع؟! بسبب ذلك ضحك الجميع هنا فيما وقفتَ محدّقًا فينا، كما لو عرفتَ للتوّ بأننا كنّا من زمن مضى.. كما لو عرفت ان الولدٌ الخجول هو أنا من زمن مضى.. كما لو عرفت ان القناع على وجه الولدٌ الخجول هو وجهي أنا.. ووجه كلّ الاطفال في بلادنا… من صيدا البطلة إلى غزة العزة… الى كل مدن العالم….!
“هنا باقون.. كأننا عشرون مستحيل… هنا على صدوركم باقون كالجدار.. وفي حلوقكم كقطعة الزجاج كالصبار.. وفي عيونكم زوبعة من نار.. هنا على صدوركم باقون كالجدار نجوع؛ نعرى؛ نتحدى ننشد الأشعار ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات ونملأ السجون كبرياء ونصنع الأطفال جيلا ثائرا وراء جيل كأننا عشرون مستحيل…. إنا هنا باقون فلتشربوا البحرا.. نحرس ظل التين والزيتون ونزرع الأفكار كالخمير في العجين.. برودة الجليد في أعصابنا وفي قلوبنا جهنم حمرا.. إذا عطشنا نعصر الصخرا ونأكل التراب إن جعنا.. ولا نرحل وبالدم الزكي لا نبخل؛ لا نبخل؛ لا نبخل.. هنا لنا ماض وحاضر ومستقبل كأننا عشرون مستحيل… يا جذرنا الحي تشبث واضربي في القاع يا أصول.. أفضل أن يراجع المضطهد الحساب من قبل أن ينفتل الدولاب.. لكل فعل رد فعل: إقرأوا ما جاء في الكتاب…”!