الشرعية الدولية أمام الاختبار الصعب
د. وفيق ريحان
تنتهي بتاريخ 26 فبراير- شباط 2024 مهلة الشهر التي منحتها محكمة العدل الدولية للكيان الإسرائيلي، من أجل تقديم تقرير شامل حول التدابير والإجراءات الآيلة إلى تنفيذ قرارها المعلن والملزم لدولة إسرائيل، والمتعلق بتطبيق “إتفاقية منع الإبادة الجماعية” بحق السكان المدنيين لقطاع غزة على أرض فلسطين، وذلك لجهة توفير الإحتياجات الإنسانية الضرورية وتسهيل مرور شاحنات المساعدات الغذائية والتموينية والطبية لهم، وتجنب كل ما يؤول الى قتل وتهجير أهالي غزة عن أراضيهم ومساكنهم، وتجويعهم والتنكيل بهم وقتل الأبرياء من المدنيين الذين لا علاقة لهم بالأعمال الحربية أو العسكرية، والكف عن ممارسة الضغوط المادية والنفسية وجرائم الإبادة الجماعية المنافية للقانون الدولي والإنساني ولاتفاقية الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان ولاتفاقيات جنيف ولشرعة حقوق الإنسان، ولقد وعدت دولة الاحتلال بتقديم تقريرها حول ذلك في نهاية اليوم الأخير من المهلة المحددة بصورة مقتضبة لجانب محكمة العدل الدولية.
عدم اِلتزام إسرائيل بقرار المحكمة الدولية
إلا أن الوقائع الميدانية والسياسية والعسكرية لم تشر الى اِلتزام دولة الاحتلال بتلك الإجراءات، بل على العكس من ذلك، فلقد تمادت إسرائيل بأعمال الإبادة من قتل وتدمير وتهجير للسكان، وتجميع أكثر من مليون ونصف مليون نازحاً في جنوب قطاع غزة بالقرب من معبر رفح وضواحي المدينة في خطة مسبقة كما يبدو لتهجير السكان نحو الأراضي المصرية، كما استمر منع شاحنات الإغاثة والمساعدات المقدرة بالمئات من عبور بوابات العبور نحو الداخل وعلى امتداد شهر كامل، مما ساهم في خلق أجواء من الرعب والخوف من المجاعة الحقيقية بين السكان، ومن انتشار الأوبئة لعدم وجود الأدوية والمياه النظيفة والأغذية اللازمة، عدا عن حالات الهلع والتأثيرات النفسية المخيفة، لا سيما على صعيد الأطفال والشيوخ والنساء، كما استمرت إسرائيل بمهاجمة المستشفيات وقتل عدد من المرضى والمسعفين والأطباء دون محاكمة، واعتقال العديد منهم، والمماطلة في الموافقة على إعلان الهدنة الإنسانية من وقت لآخر، أو تسهيل الموافقة على إبرام صفقات التبادل بين الطرفين، وفرض شروط قاسية وشبه مستحيلة للموافقة على تلك الصفقات رغم مناشدة المجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة على وقف الاعتداءات، والتمهيد لمفاوضات حول الحلول السياسية كبديل عن أعمال العنف والإبادة الجماعية وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية بحق أهالي غزة، حتى بات رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي ومجلسه الحربي يخشون من الموافقة على أية هدنة طويلة الأمد، خوفاً من انقلاب الشارع الإسرائيلي عليهم في ظل أجواء التهدئة المرتقبة بعد إستقرار الأوضاع الأمنية، لا سيما من قبل أهالي الرهائن والمعارضة السياسية الداخلية لحكومة نتنياهو. ومن الملاحظات السلبية أيضاً، أن الكنيست الإسرايلي الذي انعقد منذ عدة أيام لم يوافق هو أيضاً على وقف القتال أو السماح بوصول المساعدات الى أهالي قطاع غزة، مما ساهم في قتل وجرح أكثر من عشرة آلاف مواطن فلسطيني خلال مهلة الشهر الآنفة الذكر، كرد فعل سلبي على قرار محكمة العدل الدولية والإصرار على تنفيذ مخطط الإبادة والتهجير المعد له مسبقاً.
مخاطر عدم الاِلتزام بقرار محكمة العدل الدولية
أعلن رئيس مجلس حقوق الإنسان الدولي صباح يوم الاثنين في 26 فبراير- شباط 2024، التابع للأمم المتحدة، “بأن العالم يتجه حالياً نحو تعددية الأقطاب في السياسة الدولية، وذلك دون وجود مؤسسات فاعلة تضمن سياسة السلم العالمية وحقوق الإنسان من قبل الإستقطابات الحديثة، وأن إسرائيل قد تمادت كثيراً في عمليات الإبادة الجماعية وممارسة العقاب الجماعي على أهالي قطاع غزة بما يتعارض مع القوانين والاتفاقيات الدولية، بحيث أصبح القانون الدولي الإنساني شبه مهدد بالانهيار. ويتضح من خلال هذا التصريح، بأن مفهوم السلم والأمن العالميين لم يعد مقتصراً على أمن الدول بحد ذاتها، بل إمتد ليشمل أمن البشرية جمعاء في ظل مؤسسات ومنظمات الشرعية الدولية الضامنة لحقوق الإنسان، دون أي تمييز عنصري أو ديني أو إثني أو عرقي. وإن مواجهة هذا النوع الخطر من الجرائم ضد الإنسانية هو من ضمن الالتزامات الدولية من أجل الحفاظ على النظام العالمي الدولي، ولصالح الجماعة الدولية ذاتها في إطار سياسة السلم العالمي.
وحيث أن قرارات محكمة العدل الدولية رغم إلزاميتها بالنسبة للدول المنتمية لاتفاقية منع الإبادة الجماعية، إلا أنها لا تمتلك الوسائل التنفيذية في حال إمتناع إسرائيل عن الالتزام بالإجراءات المطلوبة منها وصولاً الى إمكانية محاكمة المرتكبين. وهنا تقع مسؤولية الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حول فرض تطبيق أحكام هذه الإتفاقية بالطرق القانونية والقضائية الرادعة والنافذة، وذلك من خلال عرض القضية على “محاكم جنائية خاصة” ذات طابع دولي ومتابعة تنفيذ تلك الإجراءات المطلوبة حتى النهاية، وصولاً الى محاكمة جميع المرتكبين وفقاً للمواد (3,4,5,6) من الاتفاقية الدولية وفرض العقوبات الاقتصادية عليها في حال وجوبها.
آلية المتابعة وإجراءات المحاسبة وفقاً للقانون الدولي
لقد بات واضحاً أمام المجتمع الدولي اكتمال جرائم الإبادة الجماعية التي تقوم بها دولة الاحتلال تجاه الشعب الفلسطيني عموماَ، وفي قطاع غزة بوجه خاص، والتكامل الجرمي من الناحيتين المادية والمعنوية، وخاصة لجهة إخضاع الجماعات السكانية في قطاع غزة عمداً لأحوال معيشية قاسية تؤدي حتماً إلى الهلاك الفعلي
كلياً أو جزياً، كحرمان تلك الجماعات من أبسط مقومات العيش الضرورية من ماء وغذاء وكهرباء وأدوية ومستلزمات طبية وخلاف ذلك، وإجبارهم على ترك منازلهم عنوة وتشتيتهم في أماكن مختلفة تمهيداً إلى تركهم لوطنهم وفرض الهجرة القسرية عليهم وتوسيع عمليات الاستيطان المحظورة منذ عشرات السنين.
لذلك، يبدو من الواضح أيضاً، أن تقرير دولة الاحتلال سيكون مخالفاً للحقيقة والواقع، وعليه يفترض بالمحكمة الدولية طلب استقصاء الوقائع الميدانية من خلال تشكيل لجنة خاصة بذلك، وإبلاغ مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة عن عدم الالتزام الكامل من قبل دولة الإحتلال بالإجراءات المطلوبة، وحيث قامت دولة إسرائيل بإبلاغ المحكمة تقريرها خلال الساعات الأخيرة من المهلة المحددة والتي أحالته بدورها الى دولة جنوب أفريقيا، وبالتالي ينبغي على مجلس الأمن الدولي العمل على إصدار قرار الإدانة لدولة إسرائيل بسبب عدم الالتزام بقرار المحكمة الذي قد تجد الولايات المتحدة الأميركية صعوبة في الاعتراض عليه أمام إصرار المجتمع الدولي على ذلك، أو أن يلجأ مجلس الأمن إلى طلب التوسع بالتحقيق من أجل تأكيد عدم اِلتزام إسرائيل بقرار المحكمة ليبنى على الشيء مقتضاه لاحقاً، وتشكيل المحكمة الجنائية الخاصة بهذه القضية ومتابعة تنفيذ الإجراءات المطلوبة لمحاكمة جميع المرتكبين وذلك وفقاً للمادة السادسة من اِتفاقية منع الإبادة الجماعية، وعلى الأطراف المتعاقدة أن تلتزم بتلبية تسليم المرتكبين وفقاً لقوانينها الخاصة ومعاهداتها النافذة.
فهل ستنجح محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة مجلس الأمن الدولي في تطبيق بنود هذه الاتفاقية الدولية على دولة إسرائيل؟ أم أن تداعيات الحروب بين الأقطاب المستجدة، سوف تعيد خلط الأوراق أمام إمكانية نفاذ مقررات الشرعية الدولية، والانتقال نحو عالم جديد وشرائع جديدة قد لا يمكن الولوج إليها إلا عبر الحروب الدامية في حال اِنهيار الشرائع والمنظمات الدولية الراهنة؟