عن الجِلبَاب والبَلْغَة والشّرْبِيل والطّربُوش المغربيّ
د. محمد محمد خطّابي
إلى الأديب المصريّ الصّديق الدكتور خالد سالم
الصّديق الدكتور خالد سالم الضلّيع فى لسان سيرفانتيس، الأديب الأريب، والمترجم اللبيب، والمثقف الحصيف، المواطن المصري الأصيل، الذي كانت لي حظوة التعرّف عليه فى العاصمة الإسبانية مدريد خلال عملي بسفارة المغرب في الثمانينات من القرن الفارط، عندما وقع نظري على صورته البهيّة على الفيْسْ وهو يرتدي جلباباً مغربياً جميلاً في ريف مصر الجميل الذي قال عنه الشّاعر على لسان فلاّح مصري ماهر، ومتمرّس: (أنا الفلاّحُ في مِصرَا / أردّ تُرَابَها تِبْرَا).. قلتُ له في نفسي: أنيق عليك هذا الجلباب والله يا أبا النّصر، بسّ فاضل البلغة والطربوش يا السّي خالد!..
مع أنيس منصور وحديث عن البلغة
إنّها “البلغة” المغربية الأصيلة إيّاها التي سألني عنها ذات يومٍ من أيّام الله الخوالي أوائل السّبعينيات من القرن المنصرم خلال تواجدي فى القاهرة السّاحرة الصّديق الكاتب المصريّ الكبير الرّاحل المشمول برحمة الله الاستاذ أنيس منصور عندما أجريتُ معه استجواباً مُطوّلاً عن (أزمة القراءة والكتابة والنّشر فى العالم العرب) نُشر هذا الاستجواب إبّانئذٍ فى الصّحافة المصرية، والمغربية، والدولية تحت عنوان: (هل نكتب أكثر ممّا نقرأ..؟ البراعم الشابّة والأبواب الحديدية) جرى هذا الاستجواب عندما كان أنيس منصور مسؤولاً كبيراً فى دار جريدة (أخبار اليوم) الغرّاء، كان يقول لي حينها عندما نلتقي: (صديقي السيّ محمد: لاَ بَاسْ.. لاَ بَاسْ.. أنا مُشتاق لبلدكُو بزّاف..)!.. هكذا كان يبادر دائماً بالحديث من لطفه ومرحه وهزله معي عندما يسألني عن أحوالي، وصحّتي، وبلدي، ولا غرو، ولا عجب فأهل ” المنصورة ” الفيحاء مشهورون بخفة دمهم. قال لي ذات يومٍ من باب فضوله المعتاد فى اقتفاء الأخبار، واكتساب العلوم، وسبْر المعارف التي كان مهووساً في إلتقاطها في كلّ حين من كل صَوْبٍ وحَدب، قال لي سائلاً مستفسراً: لماذا سُمّيت “البلغة” المغربية بالبلغة؟ ومن حُسن الحظ كان الجواب حاضراً ببداهة عندي قابعاً في طرف لساني لأنني كنت أحفظ بيتاً من الشّعر عن ظهر قلب عنها، فقلتُ له على الفور: سمّيت البلغة كذلك (لتبليغها المُضطرُّ تُدعىَ ببلغةٍ / وإنْ قِستَ بالتشبيه سَمّيتها نعلاَ…)!. ذلك ما قاله أحد شعراء الأندلس في البلغة، في قصيدةٍ يمدح فيها المأمون المُوحّدي، وأضفت قائلاً له: وتعدّ “البلغة” التي هي مقصورة على الرجال نظير “الشربيل” الخاص بالنساء، ويقال كذلك في أصل تسمية البلغة لأنها الحذاء الذي يُمكِّن الرّجل من بلوغ غايته، وتحقيق مأربه. واستعمال البلغة تقليد متّبع عند الرّجال في المغرب منذ عصور قديمة. و”البَلغة” المغربية كما هو معروف هي حذاء جلدي، والكلمة كانت معروفة في الأندلس كذلك، ويظهر من مادّة الكلمة أنها عربية الأثل، فهي تُبلِغ صاحبَها من مكانٍ إلى آخر، ويجمعونها على “بلاغي”. واشتهرت الكلمة في المغرب، وربما في بلدان عربية أخرى، وكانت تُصنع قديماً من مادّة نباتية وهي الحلفاء. وقد أصبحت البلغة ومعها الشرييل تُصنعان اليوم للنساء والرّجال على حدٍّ سواء بإتقانٍ مُبهر من جلود الحيوانات بعد صبغها بمهارة فائقة، وفيها اللون الأبيض، والأصفر، والأسود، والرّمادي، ولون الجلد الطبيعي، وقد أصبح الصنّاع التقليديّون المَهرة في مختلف المدن المغربية يتفنّنون في صُنعها، ويرتديها الناسُ في مختلف المناسبات الدينية،وفى الأعياد، وفى الأفراح، بل وفى بعض المناسبات الرّسمية كذلك.
بابلو بيكاسُو والبلغة
وهناك معلومة تاريخية فنية طريفة من مستوىً رفيع، إذ يُقال (والقول مُعزّز بالصّور والوثائق): أنّ الفنان الاسباني العالمي المالقي الشهير بابلو بيكاسو، كان عندما يخلد للرّسم، والتشكيل، والنّحت، والإبداع، عند رسمه للوحاته فى خلوته بمرسمه، كان دائماً يرتدي (بَلْغَة) كان قد إقتناها في مدينة مرّاكش، لأنه كان يجدها مريحةً جداً، وخفيفة على الرِّجليْن، يكاد لا يشعر بوجودها فى قدميْه، لا تلهيه عن إلهامه، ولا تشغله عن شطحات خياله، ولا عن ريشته وإزميله، فضلاً أنها تمنح القدميْن تهوية جيّدة ومريحة.. وهناك صورة مشهورة له فى هذا القبيل توثق ما يُحكىَ (بضمّ الياء) عنه فى هذا القبيل..
الشّربيل..”بلْغَة” بتاء التأنيث!
والشربيل هو النعل النسائي التقليدي، المقابل للبلغة عند الرّجال، إلاّ أنه يختلف عنها في الألوان والتطريزات، حيث أن “الشربيل” هو أكثر زخرفة، وتنميقاً، ورونقا، وتطريزاً، إضافة إلى تزيينه بالعقيق وبعض الأحجار الكريمة والخيوط اللجينية أو الإبريزية. وهو يتميّز بألوانه المذهّبة والمفضّضة الزاهية المتماشية والمتناسقة مع فساتين المرأة ولياسها التقليدي المتوارث. كالقفطان، والتكشيطة، والجلباب النسوي الأنيق، والجابادُور، والسّلهام، والجلباب، والعباية عند الرجال.
وتشير الأستاذة “نوال بلحسين” الباحثة المغربية بالتراث الإسلامي والميثولوجيا الأمازيغية وفنّ العيش، في بحثٍ طريف لها عن البلغة والشربيل، منشور في موقع (كريتيك) المغربي: “إنّ مجلة المُوضة “فرويندين” الألمانية صنّفت في مقال لها عن الشربيل المغربي على عرش موضة الأحذية النسائية. وتشير هذه المجلة الشّهيرة: “إنّ الشربيل المغربي يمنح الأقدام تهوية جيّدة وإحساساً بالراحة في ظلّ ارتفاع درجات الحرارة. وعن سبب اختيار الشربيل المغربي لموضة العالم لعام 2020 أوضحت مجلة “فرويندين” لقرّائها أن “البابوش المغربي” هو شبشب مسطّح، يمتاز بمقدمة مدبّبة، وهو مصنوع من الجلد الناعم. وتضيف المجلة الألمانية المعنية والمتخصّصة في الموضة العالمية والجمال: أن “الشربيل المغربي” يزهو بألوان جذابة منه البنفسجي والفضيّ إلى جانب الألوان الكلاسيكية الأكثر إستعمالاً كالأسود والأبيض، كما يزدان الشربيل بتطريزات ذات أشكال جذابة، مثل التيجان، والأناناس، والنخيل. وتضيف المجلة في تعداد مزايا وجماليات “الشربيل” أنه لا يصلح فقط لاستعماله داخل المنزل، بل يمكن ارتداءه بالخارج كذلك، حيث إنه مثلما يتناغم مع الأردية التقلية، فإنه ينسجم أيضاً مع الألبسة الحديثة، مثل الجينز، والتنّورة، والفستان والتنورة بقصة السروال”.. وتجدر الإشارة في هذا القبيل أنّ البلغة الرجالية، والشّربيل النسوي ما فتئا مأثوريْن لدى الرّجال والنساء، وقد تخطّيا الحدود المغربية ليخطفا أنظارَ السيّاح وإعجابهم من مختلف أنحاء العالم، وهكذا فإنه لا يخلو سوق شعبي أو عصري بمختلف المدن المغربية، من محلاّت متخصّصة في بيع “البلاغي” و”الشرابيل”، بل هناك أحياء توجد بها أسواق لا تبيع سوى هاذيْن المنتوجيْن التقليدييْن، وتعرف أو تُنعت هذه الأحياء بـ “أسواق السبّاط”.
الطربُوش تراث مشترك
أمّا الطربوش الوطني الأحمر الذي استخدم في مصر، وفى والبلدان المغاربية، وتركيا، يشير المؤرّخون أنّ اسمَ كلمة الطربوش يرجع لأصولٍ فارسية، وهو لفظ مركّب من كلمتيْن وهما (سربوش) ومعناهما (غطاء الرأس) فـ”سر” معناها رأس، و”بوش” معناها غطاء، ومع مرور الزّمن قلبت السيّن الى طاء في هذه البلدان، فلا داعي أن نعود إلى المغرب لنحكي عنه، ففي أرض الكنانة مصر الغالية أمثلة حيّة مشهورة عنه، أنظر فقط صور الأدباء العمالقة الكبار من فرسان البيان، واليراع، والإبداع، والإشعاع، والإمتاع في هذا البلد الجميل، وقد وُضِعت الطرابيش الأنيقة بعناية فائقة، وأناقة بالغة على رؤوسهم، أمثال: عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وصاحب “من وحي القلم” مصطفى صادق الرافعي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، و صاحب الكتب الشهيرة “ضحى الإسلام” و”فجر الإسلام” وسواهما، الدكتور أحمد أمين وغيرهم وهم كُثُر.
على فكرة أخي السّي خالد، بقي أن أقول لك أنه فى عُهدتي (بلغة) جميلة لك – كما وعدتك- على مقاسك، متناسقة مع جلبابك الجميل عند لقائنا بحول الله فى مستقبلٍ قريبٍ فى بلدك الثاني المغرب، أو في مصر المحروسة، إنها بلغة (على شاكلة بلغة الفنّان بابلو بيكاسّو إيّاها) المُريحة، فأنت كذلك فنّان مبدع بحقّ وحقيق، بحثاً، ونقداً، وكتابةً، وتأليفاً، وترجمةً وإبداعاً وعطاءً خصباً لا يتضبّ معينُه، ولا يفترّ نبعُه فى مجال الدراسات الاسبانية والعربية الرّصينة على حدّ سواء من مستوىً رفيع.