هل الدولة العربية ماضيةٌ في الطريق لتصبح دولةً إسرائيلية؟
عبد السلام بنعيسي
ما معنى عدم إقدام النظام الرسمي العربي على أي مبادرة جدية ملموسة وفاعلة، لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني على جزء من أبناء الأمة العربية، الذين هم أهل فلسطين في قطاع غزة والضفة؟ من المستحيل أن يكون الأمر ناجما عن عجز متَّصلٍ بنقصٍ في الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية. العالم العربي لديه من الإمكانيات والطاقات والعناصر التي إذا تم توظيفها بحزمٍ وبجدية، فإنها كفيلة بإجبار الكيان الصهيوني وداعميه على وقف هذه المذبحة الرهيبة التي تدور فصولها أمام مرأى ومسمع العالم أجمع.
يا ليت الأمر يتوقف عند حدود عدم تحرُّك النظام الرسمي العربي من أجل نجدة إخوان لنا وهم يذبحون ويقطعون أطرافا، ويرمون بالقصف، أشلاء في العراء، ويتعرضون للموت بالتجويع، إن الأمر يتعدى هذا التفرُّج فيما يقع، ويتجاوز التصرف بعدم اللامبالاة إزاءه، فنحن نشاهد مشاركة، بصيغ مختلفة، في هذه الجرائم المقترفة ضد الشعب الفلسطيني.
إن فتح معبر بري لتزويد الكيان الصهيوني بحاجياته، عبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن، بعد أن فرضت حركة أنصار الله حصارا خانقا على سفنه في بحر العرب والبحر الأحمر وباب المندب، لا يعدو كونه إلا اصطفافا صريحا وواضحا إلى جانب الدولة العبرية، وتقديما لدعمٍ مباشر لقواتها العسكرية في حملة إبادتها الجماعية لأبناء الشعب الفلسطيني.
إذا لم يكن رفع الحصار على الكيان الصهيوني، في هذه اللحظة التي يفتك فيها بالفلسطينيين، إسهاما مهما في المجازر والمذابح التي يقترفها ضدهم، فماذا يمكن تسميته؟ لا يمكن أن يكون رفعُ الحصار هذا، فعلا مجانيا، وقرارا اتُّخذ هكذا، بشكلٍ اعتباطي، وفي غفلة من متخذيه. إنه قرار مدروس، ومخطط له، ومُتَّفق على نطاقٍ واسع حوله، وفي إدراك كامل، لكل تبعاته..
وعندما تنطلق التصريحات الأمريكية من قلب الرياض، التي تفيد بأن مسلسل التفاوض من أجل التطبيع بين المملكة العربية السعودية ودولة الاحتلال لا يزال ساريا، وأنه يحقق تقدما، وأن التطبيع حاصلٌ، بشكل أكيد، بعد وقف الحرب، فإن ذلك يعني أن ما يتعرض له الفلسطينيون من إبادة، ليس فقط عديم المفعول السلبي على مشروع التطبيع كما يتبلور، بوساطة أمريكية، بين الرياض وتل أبيب، وإنما تصبح حرب الإبادة في غزة، وكأنها المقدمة الضرورية لحصول هذا التطبيع المنشود، سعوديا وإسرائيليا..
وما يزكي هذا الاستنتاج ويؤكده هو الهجوم الكاسح على المقاومة والدعاء ضدها الذي يقوم به بعض الدعاة السعوديين، ومن منابر داخل المملكة. فمن المعروف أن هؤلاء الدعاة لا ينطقون عن الهوى، ولا يتكلمون من تلقاء ذواتهم، إنهم يعبرون عن صوت الدولة العميقة في السعودية، وهم جزء من جهازها الإيديولوجي الذي يُجلي، في شكل خطب دينية تتدثر بالوعظ والإرشاد، قرارات ومواقف السياسة الخارجية للرياض، ولمزيدٍ من التيقُّن من هذا الأمر، يكفي إلقاء نظرة سريعة على التحامل الذي يطال المقاومة واللمز فيها، من جانب الإعلام السعودي الرسمي وشبه الرسمي، سواء المكتوب منه والصادر في لندن، أو المسموع والمرئي في داخل المملكة وخارجها…
يصعب تصور أن مصر بكل تاريخها القديم والأصيل، وثقلها البشري بشعبها العظيم، وجيشها القوي والمقتدر، عاجزة عن فتح معبر رفح لإمداد الشعب الفلسطيني بما يسد رمقه، ويدفعه عنه حرب التجويع التي تخوضها ضده الدولة العبرية. إذا هددت القاهرة ولوحت بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، أو بمجرد تجميدها، وإذا رفعت الصوت حقا، بأنها ستتحرك لإنقاذ أشقائها في القطاع المجاور لها، فإن تحركها سيكون له صداه وتأثيره الفاعل، وقد يغيِّر مجريات الأحداث.
عندما تبادر الدول الأوروبية حاليا وتفتح خزائن بنوكها لتقديم الدعم المالي للدولة المصرية، بسخاء كبير، وتتصرف على أساس أنها مهمومة بإخراج مصر من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية، ألا يتمُّ تحرُّك أوروبا بتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي مع دولة الاحتلال؟ ألا يمكن قراءة هذا الدعم، في هذا التوقيت بالذات، أنه بمثابة إرشاء للدولة المصرية لكي تسكت عما يقع من فظاعات للشعب الفلسطيني؟ وتبعا لذلك، ألا يكون سكوت القاهرة عما يجري في قطاع غزة وكأنه تزكية للعدوان الذي يتعرض له أبناء القطاع؟
إنه لأمر غريب أن يتناول، في هذه اللحظة بعينها، رئيس المخابرات المصرية وجبة الفطور في شهر رمضان، مع نظيره رئيس جهاز الاستخبارات في إسرائيل، وأن يُعلَن عن ذلك في وسائل الإعلام من الطرفين، وكأنه أمر عادي وطبيعي، ونلاحظ أن المساعي لوقف العدوان لا تفضي إلى أي نتيجة بعد اللقاء، بل نعاين أن حدة القصف لا تنخفض، وحجم المجازر لا يقلُّ، بل إن القتل الجماعي يكبر، والتدمير يزدهر، مع توالي اللقاءات وتعدُّدها بين الوسطاء العرب مع نظرائهم الصهاينة…
أشياء مريبة كثيرة تجري في منطقتنا العربية في هذه الحقبة السوداء. قد تبدو هذه الأشياء متفرقة ولا صلة بينها، ولكن إذا تأملناها جيدا وجمعناها ووضعناها جنبا إلى جنب، نجد أن لها نفس الغاية. الهجوم على القيم الإسلامية، في الأفلام والمسلسلات، وفي مشاريع تزعم أن الهدف منها إصلاح مدونات الأسرة العربية، والاحتفالات الراقصة والماجنة التي أضحت موضة في أرض الحجاز، والدور الهدام والمخرب الذي بات يلعبه الإعلام الرسمي العربي بنشره ثقافة الميوعة والانحلال والتفلت من جميع الضوابط الأخلاقية التي تربت عليها المجتمعات العربية..
كل هذه العوامل وغيرها تتظافر بينها، وإذا ربطناها بما يجري من تواطؤ عربي رسمي مع الكيان الصهيوني حول ما يقع في قطاع غزة، يمكننا أن نستخلص أن الدولة في العالم العربي، تحثُّ الخطى بشكل حثيت، لكي لا تبقى دولة عربية كما عهدنها، وكنا نعرفها في السابق، إنها ماضية في الطريق السيار السريع، لتصبح دولة إسرائيلية بالكامل، تُنفِّذُ مشاريع الدولة العبرية في المنطقة العربية وتتقيد بها، وتمشي وفقا لإملاءاتها..
الجهة الوحيدة التي تعرقل هذا التحول وتمنعه لحد الساعة، هي المقاومة في فلسطين، ومحورها في لبنان، واليمن، والعراق، وسوريا، ولذلك نرى هذا التآمر العربي الرسمي على غزة ومقاومتها، وهذا التدمير الذي يطالها، إنهم يريد التخلص من المقاومة، حتى يتم تهويد المنطقة وأسرلتها.
لكنهم يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. فدائما المشاريع التي يضعونها على الورق الأنيق لمنطقتنا، بمعية أقطاب النظام الرسمي العربي، وعندما يريدون بلورتها إلى حيز الواقع، يكون مصيرها الفشل الذريع، ولا يجنون منها إلا الخيبة. أثبتت أمتنا العربية الإسلامية، دائما، أنها قادرة على إسقاطها..