التدين الشعبي و”العلمنة الزاحفة”

محمد امباركي

       في تقديري الشخصي، أرى أنه ليس هناك أي تناقض أو تمزق في المجتمع، بين مشهد يكون فيه المسجد ممتلئا عن آخره وحانة هي أيضا ممتلئة عن آخرها… وقد تكون نسبة مهمة من مرتادي المسجد هم أنفسهم زبناء للحانة والعكس صحيح… بين انتشار الأحجبة وسراويل “الجينز” الممزقة في بعض الأطراف، وقد تجد نساء كثر يجمعن بين اللباسين معا وكذلك الرجال… ومن الممكن أن نحيل هنا على المفهوم النظري المتميز الذي أبدعه السوسيولوجي المغربي الراحل “بول باسكون”، والمتعلق بـ”المجتمع المركب”، والذي “يتأسس على التجاور والتداخل لمجتمعات عدة في المجتمع الواحد، بحيث تصير أنماط العيش والسلوك والثقافات متجاورة فيما بينها على الرغم من التناقض الصارخ الذي يبصم ثنائياتها المحتملة، فالمقدس والمدنس، والأسطوري والواقعي والعلمي واللاعلمي والتقليدي والحديث، وما إلى ذلك من ثنائيات المجتمع المزيج تجد نفسها حاضرة في نفس اللحظة ومؤطرة لها، ودون أن يثير هذا الحضور المركب أي إشكال على مستوى سيرورة الحياة الاجتماعية، بل إن هذا التركيب يستحيل مع الوقت شرطا وجوديا لاستمرارية المجتمع”. (1).

    من هنا، فإن هذا المشهد الذي يبدو لدعاة “الإسلام السياسي” غير متجانس ويجب تأديبه أوتهذيبه ولو بالسلطان المادي والرمزي، هو في الواقع صورة من صور الهوية المركبة والمتعددة للمجتمع، وتعبير عن دينامية اجتماعية لسلوك سوسيوديني يجمع بين الدنيا والآخرة والذي يترجمه مثل شعبي دارجي يقول “شوي لربي شوي لعبدو”… وكما يقول الروائي والناقد الأدب سعيد بنكراد: “كان الناس يعبدون الله خارج السياسة والأديولوجيا والتعصب المذهبي، فنحن لم ندرك ما يفرق بين السنة والشيعة، إلا عندما احترق العراق والمشرق العربي كله بالتعصب الطائفي، وتوزع الناس على عباءات سوداء وأخرى بيضاء…(2).

    وفي اعتقادي هذه هي الأرضية الموضوعية التي حالت دون هيمنة  “الإسلاموية ” كتيار ” متمذهب ” و”اديولوجي” في البنيات العميقة للمجتمع المغربي “المزيج”، وذلك على الرغم من المحاولات الحثيثة لهذا التيار على فرض طقوسه البالية في مختلف مناحي الحياة، بما فيها بعص التفاصيل الصغيرة المتعلقة بآداب السلام،  الجلوس والأكل والوضوء والصلاة والجماع، وتخمة في إنتاج شفهي لثنائية حلال/حرام…الخ، بالشكل الذي يبدو فيه هذا التيار كأنه يملك المجتمع… ومن المنطقي القول إن هيمنة هذه الأشكال الاستعراضية للتدين الصوري هي هيمنة خادعة، ولا تعكس بالضرورة انخراطا اديولوجيا أو تنظيميا للمجتمع برمته، أو مقبولية اجتماعية واسعة، بقدرما تترجم استراتيجية مدروسة لتسويق بعض “الرموز الأديوسياسية ” كشكل من أشكال الظهور بمظهر القوي والمتمكن والمهيمن.

شخصيا، ومن موقع دفاعي عن علمانية خرجت من رحم الإصلاح الديني وشكلت فضاء حقوقيا، قانونيا وقيميا للتعايش وحماية الحريات الفردية والجماعية، ومنها حرية الممارسة الدينية من عدم ممارستها، أفترض أن علمنة “عملية وحياتية” تكتسح أعماق المجتمع المغربي بشكل موضوعي، وتعبر عن نفسها على الأقل على مستوى قيم وأنماط العيش والحضور القوي للمرأة بالفضاء العام وتعاظم سلطتها الاقتصادية والرمزية بالفضاء الخاص، وهي سلطة  قد تكون غير مرئية، أو يراد لها أن تظل لامرئية، طالما أنها تخيف مواقع ذكورية عدة تختفي داخلها سلطات سائدة، بما فيها سلطة الفقهاء، مع العلم أن الفقه هو تاريخيا، منتوج ذكوري بامتياز…

    من هنا، لا يمكن تصور أي مشروع بديل للقطع مع التخلف الاجتماعي والثقافي، إلا على قاعدة هزيمة مجتمعية لمشروع الأصولية المخزنية والدينية… بعبارة أخرى، إن الثورة الثقافية والاجتماعية هي الكفيلة بالصناعة الموضوعية لمجتمع الديمقراطية والحداثة… وهكذا فالمجتمع من خلال نمط عيش جزء كبير من فئاته، بما فيها غير المحظوظة اجتماعيا، ودينامياته الاحتجاجية وتطلعات الأسر، يعيش “علمنة زاحفة”، والتي لا تتناقض بتاتا مع تنامي ممارسة التدين… وهذا الواقع هو الذي تعجز “الذهنية الأصولية الماضوية” عن استيعابه وإدراك منطقيات اشتغاله… وهو العجز البنيوي الذي يقود إلى “رفضوية ” لا ينتج عنها غير  تطرف أعمى يؤطره شعار  “معزة ولو طارت”!، أو “من بعدي الطوفان!”.

هوامش:

(1) عبد الرحيم العطري، بول باسكون الراحل خطأ: عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه، الحوار المتمدن-العدد:1475 – 2006 / 2 / 28.

(2) سعيد بنكراد. وتحملني حيرتي وظنوني، سيرة التكوين”، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى 2021 ، الدار البيضاء، المغرب، ص: 28

Visited 136 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد امباركي