مأدبة غذاء عراقية على شرف “محامي الشيطان” Jacques Vergès
جورج الراسي
كان أسبوعا ربيعيا مشمسا في باريس يوم اتصل بي ذات صباح “أبو رافد”، وقال لي: لقد دعوت Jacques Vergès على الغداء غدا، وأتمنى أن تنضم إلينا… وكان الجواب على الفور: أكيد سأنضم إليكم… وهل أفوت هكذا فرصة مع مالئ الدنيا وشاغل الناس…؟
أصلا ” ابو رافد” بحد ذاته رواية تستحق التوقف عندها …
هو عبد القادر العياش، عراقي، وكيف يمكن أن يكون غير ذلك إذا نظرنا إلى الاسم الذي أعطاه لوحيده… متعاطف مع الشيوعيين سابقا. قرر مغادرة العراق حين بدأوا يتعرضون لمضايقات، بصحبة القبيلة كلها: الابن والزوجة والإخوة والأقارب، وأكاد أقول “المعارف”، واستقروا منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي في ضاحية Montreuil التي كانت دائما معقلا للحزب الشيوعي الفرنسي، تدير شؤونها بلدية شيوعية، وحيث لا أثر فيها للعنصرية المعادية للمهاجرين، وبخاصة العرب منهم…
يعني جاء مع القبيلة كاملة بكامل فروعها وفخوذها ليستقر في فرنسا بفضل ما تمتع به من بعد نظر وصفاء الرؤية…!
لكن مرجعيته السياسية طرأ عليها بعض التحول منذ ذلك الحين… فلم تعد لينين وستالين، بل أصبحت أحمد الشلبي الذي لعب دورا فيما بعد، في ظل الاحتلال الأميركي للعراق، ثم استقر في الأردن يتعاطى الشؤون المصرفية…
للظروف أحكامها
المهم أن “أبو رافد” أسس أول مطبعة عربية في ضواحي باريس في تلك الأيام، وكنت أنا أحد زبائنه، أطبع عنده المجلات التي كنت أصدرها في باريس.
استقر مع العائلة الموسعة في بيت فسيح، تتوسطه باحة واسعة وبركة مياه، على مرمى بحصة من المطبعة. ونقل معه كل عادات العراق وطبخات العراق وسهرات العراق… يعني واحة شرقية في محيط محبط وكئيب…
أما كيف وصل إلى Vergès فهذه حكاية أخرى…
المحروس رافد اصطاد مريم ابنة Jacques في ظروف غامضة. ويبدو أن الأمر كان مقدمة لطبخة أكبر، وكانت مأدبة الغداء إحدى محطاتها المتقدمة…
لم توفر “أم رافد” شيئا إلا ووضعته على الطاولة، مستخدمة عبقريتها في نقل المطبخ العراقي إلى باريس…
لم أحفظ سوى اسم طبق واحد، بدا لي سرياليا، وهو “الظلمة”! (يا من يشرحه لي)…
لم يكن ينقص سوى “المسقوف”… ولسبب واضح: ليس هنالك من رافد لنهر دجلة في العاصمة الفرنسية.
وحده صدام حسين أمر بنقله بطائرة خاصة من شارع أبو نواس إلى قصر فرساي، حين أقام مأدبة تكريم لمضيفه جاك شيراك…
فلا يمكن لأبي رافد أن “يخبصها” دون حسابات دقيقة…
كان مشهد رافد وهو يراقص مريم، لا يفوت قميصا أبيض مفتوح على بضع شعيرات… كأس الويسكي في اليد اليمنى، وبالكاد يتحرك من مكانه… يهز خصره هزات بطيئة، بينما المسكينة تتمايل يمنة ويسرة مأخوذة بالترانيم الشرقية…
يجب أن أقول أن العراق كان يمر بظروف صعبة في تلك المرحلة، وكان Vergès متعاطفا معه إلى أقصى الحدود، كما سنرى، ونقل العدوى إلى ابنته. فبقي في زاويته ينظر إلى المتحابين بحنان واضح…
لاحقا أصبح رافد ممثلا لإحدى أبرز وكالات توزيع الصحف الفرنسية، في حين تبخرت مريم…
وحتى تكتمل الرواية فقد حزم أبو رافد وربعه حقائبهم في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وقرروا الانتقال للعيش في الجزائر، في عام اندلاع أعمال العنف وبداية “العشرية الحمراء”… وأظنهم ما زالوا هناك.
رضاعة النضال بالوراثة
من مواليد العام 1925 في جزيرة La Réunion في المحيط الهادئ (أراضي ما وراء البحار الفرنسية)، رضع Vergès النضال ضد الاستعمار مع الحليب. والده من أصل كاتالاني – اسباني، ولد في قلب العاصمة الفرنسية Île Saint Denis، من أم فيتنامية، وقد اضطر الوالد الذي كان قنصل فرنسا في تايلاند، أن يستقيل من منصبه لكي يتزوج بها، مما جعل Vergès يقول لاحقا: يمكنك أن تتزوج من يهودية…لا من صفراء…!
له أخ اسمه Paul، تقول بعض المراجع أنهما توأمين. واقع الأمر أن Paul يكبره بعام واحد. لكن تأخر الوالد في تسجيله حتى جاء الثاني، فسجلهما مع بعض كما يحدث في كثير من قرانا…
كان الوالد معاديا للاستعمار. وكتب كتابا حول هذا الموضوع قدمه إلى هو شي منه، الذي أبدى إعجابه به. كما أسس فرعا محليا للكونفدرالية العامة للعمل C.G.T، وانتخب نائبا شيوعيا عن الجزيرة.
أما الأخ فقد ذهب أبعد من ذلك، إذ أسس عآم 1959 حزبا شيوعيا محليا مستقلا عن الحزب الشيوعي الفرنسي.
أحد رفاق Vergès في المدرسة كان Raymond Barre أحد كبار اقتصاديي فرنسا، الذي شغل فيما بعد منصب رئيس الوزراء.
في عام 1951 حضر مهرجانا للشبيبة في براغ، وسمي مديرا “للمكتب المعادي للاستعمار” في الاتحاد العالمي للطلاب. وحضر في برلين مراسم دفن Klement Gottwald الملقب بستالين تشيكوسلوفاكيا.
بقي في الاتحاد أربع سنوات، من 1951 إلى 1954. إلى أن انتهى به الأمر طالب حقوق في باريس ومسجلا في الحزب الشيوعي الفرنسي، رافعا شعار محاربة “الميوعة” تيمنا بفيلسوفه المفضل نيتشه.
عندما عاد إلى العاصمة الفرنسية كان عمره 29 عاما. وطرأت تغيرات كبيرة على الساحة النضالية في العالم بعد موت ستالين.
إلى جبهة التحرير.. در
عام 1954 هو عام اندلاع الثورة المسلحة في الجزائر، التي زارها خلال عطلة عيد الفصح.
في السنوات التالية كانت فدرالية جبهة التحرير في فرنسا تبحث عن محامين للدفاع عن مناضليها، بهمة المحامي Mourad Oussedik، الذي استطاع استقطاب أكثر من 180 محاميا، وسلم المكتب الصحفي الناطق باسم المجموعة إلى Vergès …
في عام 1960 تولى المرافعة فيما عرف بـ “شبكة جنسن” Le réseau Jeanson أو ” حملة الحقائب “Les porteurs de valises ” الذين كانوا في خدمة الثورة الجزائرية.
أول قضية دفعت به إلى الأضواء كانت الدفاع عن المجاهدة الجزائرية جميلة بوحيرد، التي حكم عليها بالإعدام عام1957 بتهمة زرع قنبلة في مقهى Milk Bar في العاصمة.
استطاع المحامي الشاب إنقاذها من الإعدام، وتم تحريرها بعد التوقيع على اتفاقيات Evian التي وضعت حدا للحرب، وتزوجها سنة 1963، بعد عام على الاستقلال، ورزق منها بولد وابنة: مريم آنفة الذكر، والياس، مما جعل لقبها المشرقي “أم الياس”!.
كان ذلك زواجه الثاني، إذ له ولد من زواج أول أعطاه اسمه: Jacques.
كان شعاره منذ ذلك الوقت: “سأكون موجودا دائما حيث الثورة موجودة…”.
تعاون منذ ذلك الوقت مع عبد العزيز بوتفليقة لدعم الثورات في إفريقيا على وجه الخصوص.
لم يكن قد مضى على انتصار الثورة الكوبية سوى عامين، وكان كاسترو ينادي بـ”النضال على المستوى العالمي ضد الإمبريالية “. ثم ما لبث المحامي أن استقر في الجزائر.
في مرحلة أولى سماه أحمد بن بله في فرع إفريقيا التابع لوزارة الخارجية بصفة “مستشار”. ثم تولى تأسيس مجلة Révolution Africaine لتغطية نضالات القارة.
لكن العلاقات مع بن بله ما لبثت أن ساءت، فاستقال من العمل واستغل الفرصة للقيام ببعض الزيارات مع جميلة، وكانت إحداها إلى براغ حيث استقبلا بحفاوة.
في العام 1963 قرر العودة إلى باريس، حيث أصدر مجلة جديدة بعنوان “Révolution”، و كان يوقع مقالاته بأحرف J.M.V، أما الـ M الوسطية فكانت تعني “منصور”، وهو الاسم الذي أعطي له عند زواجه من جميلة.
بدأت تظهر عليه عوارض “ماوية “، وبدأ يتهم الاتحاد السوفياتي بـ”الردة ” Révisionnisme , ويفضل ستالين على خروتشيف.
أحد مراسلي مجلته في أميركا اللاتينية كان Régis Debray، لكن المجلة واجهت صعوبات كبيرة، وقرارات متكررة بالمنع، إلى أن أسلمت الروح مع صدور العدد 13.
عام 1965 سجل عودة Vergès إلى الجزائر، مع وصول هواري بومدين إلى السلطة. فتح مكتب محاماة، وكانت أول قضية يكلف بها هي السفر إلى تل أبيب للدفاع عن أسير فلسطيني وقع في قبضة قوات الاحتلال.
أصدر لاحقا عام 1968 كتابا بعنوان “من أجل الفدائيين” Pour les fidayines، جرى تمويله من طرف مصرفي سويسري مؤيد للثورة الجزائرية François Genoud.
من “جبهة التحرير” إلى “منظمة التحرير”…
حتى جاء ذلك اليوم المشهود من أيام العام 1970، تبخر Jacques Vergès!، ترك جميلة مع ولدين واختفى تماما.. لمدة ثمانية أعوام!
ومنذ ذلك اليوم حتى هذا اليوم، والسؤال مطروح: أين اختفى…؟
البعض قال إنه سجين في الصين… البعض الآخر قال إنه يعمل مع المخابرات السوفياتية… آخرون زعموا أنه التحق بصديقه Pol Pot الذي كان منهمكا بإبادة الشعب الكمبودي… وكان Vergès قد تعرف عليه في باريس خلال سنوات الدراسة.
وفي 24 أيار/ مايو 1970 نشرت الجريدة الأسبوعية الفرنسية “جريدة الأحد” Le journal du dimanche نداء يطلب من الحكومة الفرنسية البحث عنه… يقول إن عائلته قلقة عليه…!
لم يتركوا احتمالا واحدا لم يأتوا على ذكره، إلا واحدا وهو الأقرب إلى الصواب: التحق Jacques بالثورة الفلسطينية!…
الواقع أن هناك أمران أحاطا بتلك الحادثة:
– الأول هو أنه كان “يظهر” من وقت لآخر في العاصمة الفرنسية، وبطلب ممن يراه أن “يكتم السر” …
– الأمر الثاني الذي أكده أكثر من مصدر، هو أنه كان على تواصل مع ياسر عرفات.
– يمكن أن نضيف إلى هذا كله أنه لم يكن بعيدا عن كارلوس (الذي تولى الدفاع عنه فيما بعد)، وعن وديع حداد منسق العمليات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان يخشى تسرب أية معلومة بهذا الصدد، لأنه كان على يقين أن جهاز الموساد يترصده.
“محامي الشيطان”
أما لماذا لقب بـ”محامي الشيطان”، فلأن كل القضايا التي تولاها كانت تفوح منها رائحة البارود، ابتداء من قضية جميلة، إلى قضية أصدقاء كارلوس Magdalena Kopp و Bruno Bréguet عام 1982، إلى محاكمة الضابط النازي Klaus Barbie التي جرت في مدينة Lyon في 11 أيار/ مايو، وصولا إلى قضية جورج ابراهيم عبدالله، المحتجز في سجن Lannemezan في جنوب فرنسا، والمحكوم بالسجن المؤبد، لضلوعه في عملية اغتيال بعض عملاء الموساد والمخابرات المركزية الأميركية C.I. A، وكان من المفترض إطلاق سراحه بعد نهاية مدة احتجازه في عام 1999. وأنيس نقاش، الذي قام بمحاولة فاشلة لاغتيال آخر رئيس وزراء في عهد الشاه Chapour Bakhtiar، والفيلسوف روجيه غارودي، وليس انتهاء برئيس جمهورية ساحل العاج Laurent Gbagbo، وصولا إلى صدام حسين ومعمر القذافي…
واقع الأمر أن Vergès كان صاحب نظرية في القانون، مفادها: أنه ليس هنالك شخص لا يمكن الدفاع عنه… وما هو مهم في النظام الديموقراطي أن يكون هنالك شخص يتولى مهمة الدفاع…
لقد أسلم Jacques Vergès الروح في 15 آب / أغسطس من عام 2013 عن عمر ناهز 88 عاما ، مات بذبحة قلبية، في نفس الغرفة التي لفظ فيها Voltaire، فيلسوف الأنوار في القرن الثامن عشر، أنفاسه الأخيرة في 30 أيار / مايو 1778…
ولعل آخر وثيقة يجب أن تضاف إلى ملفه، هي ما جاء في ورقة النعي التي نشرتها جريدة Le monde على مدى ثلاثة أيام متتالية، وأهم ما جاء فيها:
ابنته مريم (ابنة جميلة)- ابنه الياس (ابن جميلة)- أخوه بول …- حبيبته Marie-Christine marquise de Solages (لا أدري من أين خرجت)… ينعونه… وسيقيم الأب Alain de La Morandais قداسا على روحه في كنيسة Saint Thomas d’Aquin يوم الثلاثاء في 20 آب / أغسطس… ويوارى الثرى في مقبرة Montparnasse
طبعا تغيبت جميلة بوحيرد عن المأتم…