“الجزائر.. حكاية عشق”.. حين ينطق العنوان بحكمة السّنين
ع. الرزاق بوتمزّار
شكّلت الكتابة عن كِتاب أو كاتب أو عن حدث مرتبط بأحدهما دوماً أسعدَ اللحظات التي أعيش في رحاب هذه الهواية -الغواية المُسمّاة “كتابة”، بمختلف أجناسها وأنواعها وخلفياتها. وعندما فكّرت، لأول مرّة، في تحرير بعض السّطور عن الجزء الثاني من مُذكّرات الأستاذ المناضل أحمد الطالبي المسعودي، الذي اختار له عنوان “الجزائر.. حكاية عشق”، كنت أدرك أنّ هذا العنوان لوحده سيتطلّب مني الكثير من الجهد والبحث والحذر حين الاسترجاع، استرجاع بعض اللحظات الرّائقة التي كان الأستاذ الطالبي يوقف فيها خطّ السّرد الاعتيادي ليتحدّث عن تفصيل شارد لكنْ مُهمّ ومحوري بالنسبة إليه هو، مُعارضاً كُتب عليه أن يكتويَ بالنّارَيْن.. فبعدما “نُفي” من بلده الأمّ ولجأ إلى الحضن البديل، مُممنّياً النفس بأن يجد في الأخير أجواءَ أفضل من التي خلّفها وراءه، لمواصلة نضاله المستميت عن القضايا الإنسانية العادلة ، كما فعل دوماً منذ تشرّب أبجديات النضال في صفوف “الاتحاد” العتيد على أيدي مناضلين أشاوس لا يُبدّلون تبديلاً، سأكتفي بذكر آخر من غادر دنيانا منهم، في شخص المناضل الفذّ محمد بنسعيد أيت إيدر، الذي كان أحد مراجعه في هذا الدّرب الشاقّ والمُكلّف، نفسياً وجسدياً، ورفيق دربه في النضال، إلى جانب كلّ من الفقيه البصري والمهدي بنبركة وعبد الرحمان اليوسفي وغيرهم الكثير..
أقول إن مؤلّف هذه المُذكّرات، ما إن ظنّ أنه قد “استقرّ” بعد وصوله إلى الجارة الجزائر، “هارباً” من نظام الملك الرّاحل الحسن الثاني، حتى انقلبت معادلات اللعبة السّياسية في بلاد المليون ونصف مليون شهيد، ليُزجّ به في دوامة السّجن والتعذيب الوحشيّ، جسدياً ونفسياً وعقلياً، ويجد نفسه عرضة لكلّ أنواع التعذيب التي يمكن أن تخطر على البال وحتى التي لا يمكن أن تخطر.. نعم، فقد أوقعه حظه العاثر في “حكاية عشق” لكنْ في ظلّ نظام حاقد وكاره وناقم ومجنون وكلّ شيء تريدون من الأوصاف والنعوت والتشبيهات، ليعيش هناك “حكاية عشق” ليست مثل كلّ حكايا العشق:
“لم تتمالك خديجة، المرحومة زوجتي، مشاعرها لحظة العناق. تساءلتْ مذعورة: “مالْك هاكْدا؟”.. صدمني السّؤال، فاجأني أن يتغير فيَ شيء ما..
الطفلتان بثينة وأميمة مشدوهتان، في حالة غير سوية. أميمة، الأصغر، لازمها الحذر. قد يكون السّبب اعتقالي أمامها؛ غيابي وزيارتي في ظروف غير عادية؛ حالة توتر الأمّ وعصبيتها الدّائمة.. المُهمّ أنّ أميمة ستلازمها هذه الحالة. ولا يزال فيها شيء من ذلك إلى يومنا هذا”.. صورة أوجز فيها المناضل أحمد الطالبي الكثير من المعاناة في خضمّ “حكاية عشق” ربّما كانت لتصير واحدة من حكايا “ألف ليلة وليلة” لولا أنّ بلدَي بطليها اسمهما المغرب والجزائر، بما يعني ذلك من عداوة متصاعدة بين النظامَين الحاكمَين في البلدين “الجارَين”، اللّذين تردّت العلاقة بينهما إلى مستويات غير مسبوقة في الآونة الأخيرة.. وللمفارقة، يخرج علينا الأستاذ أحمد الطالبي في هذه الأجواء المشحونة بهذا الجزء الغني، كما سابقه (الأسرار من محلها) بالعديد من الأسرار والمعلومات المُوثّقة والكواليس غير المعروفة أو التي ربّما حُكيت في مُذكّرات سابقة لكنْ ليس بالدّرجة الكافية من الموضوعية وتحرّي الدقة والصّدق في الرّواية اللازم توافرها في كتابة “المُذكّرات”..
في هذا الجو المشحون إذن بين المغرب والجزائر، صدر مُؤخّراً هذا الجزء الثاني ضمن “ثلاثية” مُذكّرات أحمد الطالبي المسعودي، التي اختار لها كعنوان جامع “الأسرار من محلها”.. وسيراً على نهجه في الجزء الأول، حمل إلينا الأستاذ الطالبي في “الجزائر.. حكاية عشق” تحديداً مجموعة من أسرار هذا الصّراع المُفتعَل بين البلدين الشّقيقين، والذي يُفرز لنا كلّ يوم أكثر فأكثر مظاهر الكراهية والبغض والحقد، في الوقت الذي اختار المُؤلّف أن يُوجّه ما يُشبه “صفعة” قوية لخدّي البلدَيْن الشّقيقين وهو يُذكّرهما بأنّ الوصف الطبيعي المُفترَض لحكايتهما هو “العشق”، وليس شيئاً آخر، من قبيل كلّ هذه البغضاء والعداوة والضّراوة التي شحذ طرفا الحكاية، بدافع منها، أظافرهما، استعداداً للانقضاض في أية لحظة..
ليس مُجرّدَ عنوان، إذن، هذا الذي اختاره المؤلّف لمُذكّراته هذه، والذي كما لو أنه يُعلن من خلاله نفسَه ذلك “الرّجلَ الحكيمَ” الذي يسأل عنه الجميع في مثل هذه الحالات تحديداً، حين تتأزّم أوضاع بلدين ويصير كلّ واحد من مسؤوليهما أو حُكّامهما يُهدّد بالويل والثبور والهلاك خصومه في البلد الآخر.. تهديدات وتوعّدات واستفزازات وجد فيها الكثيرون، إن لم نقل الأغلبية، من الطرفين، فرصة لتصعيد المواقف والخطابات، التي تردّت إلى حضيض غير مسبوق، فصارت وسائط التواصل ومنصّاته، مثلا، “مُستنقعاً” آسناً تتقاطع فيه كلّ تعبيرات التطرّف والجنون والعتَه بين الطرفين، اللذين من المُؤكّد أنّ فيهما بعض العُقلاء الذين تتعالى أصواتهم، بين حين وحين، متسائلا: أليس بينكم رجل حكيم!؟.. حكمة يبدو جلياً أنها تأتّت للمناضل أحمد الطالبي المسعودي وهو يختار “العشق” وصفاً لحكايته المُتفرّدة، التي يهون كلّ جهد أو نصَب في سبيل إخراجها في كتاب ووضعها على الخصوص بين أيدي الأجيال القادمة، التي يُفترَض فينا أن نواصل سقيَها من معين المحبّة والعشق والتعايش، بدل مواصلة تحريضهم وشحنهم بترسانة الكُره والبغضاء والتنافر…
من هذا المنطلق، إذن، سطّرتُ في بداية هذه السّطور أن العنوان لوحده يستدعي وقفة تأمّلية، لا سيما في ظلّ الوتيرة المتسارعة لتردّي الأوضاع بين المغرب والجزائر حالياً، وآخر تمظهراتها شطحاتُ النظام الجزائري، الذي تمادى في إعلان “الحرب” على كلّ ما هو مغربي، ولو في الرّياضة، التي شهدت مضاميرها آخر حلقات هذا الصّراع المفتعل، بعد “الحكاية” الغريبة التي زجّ في خضمّها حُكّام قصر المرادية بفريق كرة قدم “مسكين” اسمه “اتحاد العاصمة” في أتون “معركة” خاسرة، بعدما دفعته إلى “رفض” اللعب أمام فريق مغربي فقط لأن شعار طقمه الرّياضي يتضمّن رسماً لخريطة المملكة، من طنجة إلى الݣويرة، رغم أنّ الشّعار مُصادَق عليه من قبَل الاتحاد الإفريقي للعبة وخاض به الفريق كلّ مبارياته السّابقة، سواء في إطار المنافسة الرّياضية أو غيرها…
ضارباً عرضَ الحائط بكلّ هذا، قرّ قرار الأستاذ أحمد الطالبي، ومنذ بداية الاشتغال على هذا الجزء، على أنّ “الجزائر.. حكاية عشق” سيكون عنوان المُذكّرات، ولا عنوان غيره.. أمّا حين تفتح الكتاب وتشرع في سبر أغواره واكتشاف عوالمه وأجوائه وأحداثه فستجد نفسَك في قلب رحلة سردية ممتعة رغم فظاعة ظروفها “الجحيمية” التي عاش فيها المُؤلّف خلال فترة سجنه، ثمّ خلال فترة إقامته الإجبارية “هناك”، مع سرد موثوق (والحقيقةُ في الوثيقة، كما يقولون) عن كواليس العديد من الأحداث والوقائع والتغيّرات والمناورات، التي كانت أهمَّها “صناعةُ” كيان وهميّ باسم “البوليساريو” كان السّببَ الرّئيسي في هذا الصّراع “غير العاقل” بين البلدين الجارَيْن اللذين تفصلهما حدود “زُوج بْغال” المُضحكة/ المُبكية.. وكما في الجزء الأول، لم يركن المُؤلّف إلى مُجرّد السّرد الكرونولوجيّ الانطباعي أو “الذاتي” للأحداث، المحكوم بوجهة نظر سياسية أو إيديولوجية، حزبية أو عقدية أو إثنية، ضيّقة، بل اعتمد التوثيقَ منهجاً وحيداً وتحرّيَ الدقّة في سرد الوقائع وتواريخها وأسماء صنّاعها ضابطاً أخلاقياً لا يحيد عنه لتمرير مغالطة أو لتصفية حساب أو ردّ صفعة..
يقول المُؤلّف: “وأنا أروي هذا البصيص من تجربة السّجن والمنفى، أستهدف -بالأساس- الإسهام في إحياء الذاكرة، حتى لا تتكرّر مأساة أكثر سوءا أو أقلّ، بهدف رسم أفق سياسي واجتماعي حضاري يُؤمّن حرية الرّأي وينأى عن كلّ نزوع مُتوحّش وعنيف، خدمة للمواطن.
المواطنة حقوق سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، ولو ضِمن الحدّ الأدنى.. لقد خُضنا نضالا من أجل حقوق مُستلَبة، بمعنى وطن مستلب. لذا لم أندم على ما أقدمت عليه. وما عانيت منه له ما يُبرّره.. أنا الآن مرتاح البال ومُتخوّف على مآل جيل ليس جيلي أو من سبقني، بل الجيل الحالي والقادم.. لذلك أكتب هذه الذاكرة من أجل الشّباب. وأرجو أن تثري المستقبل. لا أريد لهذا الجيل أن يكون جيل سجون ومنفيات…
كان جيلي من المنفيين يخدم الوطن ويناضل ضدّ المطامع الأجنبية. رغم يفاعة سنّنا، كانت مبادئنا ثابتة ومسؤوليتنا كبيرة. الوفاء للوطن عنوانُ التزامنا النضالي. هذه هي الصّورة الحقيقية، لكنْ لم تكن هي ما يُروّجه عهد أوفقير -إدريس البصري، باتهام الوطنيين بـ”الخيانة والعمالة لجهات أجنبية”..
ربّما كانت تجربتي تعني أن ما تعرّضت له كان دفاعا عن استقلاليتنا في القرار، لكنْ إلى من أساء اعتقالي: هل إلى شخصي؛ أم إلى الجزائر؛ أم إلى بلدي؟…
لقد صغُرت الجزائر، بفعل حكّامها وما اقترفوه باسم الثورة، أمام التاريخ!.. هل يُتصور أن تواجه دولةٌ دولة أخرى في شخص منفيّ أو تواجه حركة في شخص لاجئ فوق ترابها!؟”..
جزائرُ صغُرت، بفعل حكّامها وما اقترفوه باسم الثورة، أمام التاريخ”.. جملة تُلخّص ربّما الواقع الجزائري “المريض”، وإن كان ذلك لا يمنع من كونها، بالنسبة إلى المُؤلّف على الأقلّ، تبقى “الجزائر.. حكاية عشق”..
عنوان “مُثير” كاف لوحده لأن يُقتنى من أجله هذا الكتاب القيّم، الذي أضمن لكم بين سطوره رحلةَ قراءة ممتعةً ومفيدة في آن..
Visited 116 times, 1 visit(s) today