حكايات المقاهي: لينين يلعب الشطرنج في مقهى بزوريخ (4)
جورج الراسي
لا يمكن أن تكون قد قصدت سويسرا دون أن تكون قد مررت بمدينة Zurich. ولا يمكن أن تكون قد زرت هذه المدينة دون أن تلحظ محطة القطارات الرئيسية فيها، الأكبر في الكونفدرالية. يمكنك بعد ذلك أن تأخذ الطريق على يمينك لتجد نفسك تسير بمحاذاة البحيرة المحلية Limmat. وبعد بضع دقائق من السيران تكون قد وصلت إلى قلب المدينة التي تعد نحو 400000 نسمة، وتشكل عصب الحياة الاقتصادية في هذه البلاد الراقية، التي شبهنا بها في زمن غابر – غاب ولن يعود – …
أنت في ساحة Bellevue ، مربض المئات من المصارف وشركات التكنولوجيا الحديثة -start up – ومؤسسات التأمين.. تأكد حينها أنك على مرمى طابة من مليارات الدولارات التي سرقها الساسة ولصوص البنوك في بلدك.. لكنك هنا تقصد طرف تلك الساحة، حيث تقوم منذ الأول من تموز/يوليو 1911 مؤسسة تاريخية هي قهوة أوديون الكبيرة.
Le Grand Café Odéon
وهي تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن المقهى المركزي في فيننا، وشريكته في إطلاق ما عرف بعد ذلك بـ”أدب المقاهي“.
حتى الديكور يكاد يكون متشابها: ثلاث ثريات من الكريستال تضيء المكان، ومقاعده الوثيرة المغلفة بالجلد الأحمر، الأحمر الفاقع، وهو اللون الذي يفضله معظم أصحاب المقاهي الكبيرة، لأنه الأكثر جاذبية ومبعثا للدفء وترويضا للذاكرة. إضافة إلى المرايا الضخمة، والجدران المغلفة بالرخام، وقاعة خلفية هادئة لمن يريد أن يختلي بحبيبته بعيدا عن ضوضاء السياح، الذين يتزاحمون للحصول على سندويش همبرغر أو “قرن” من البوظة، عندما يميل الطقس إلى الحرارة…
الذوق الألماني طاغٍ في هذا المقهى، كما يستدل على ذلك من اللباس الذي يضعه النادل: قبعة – béret – ومريول من النوع المنتشر في مقاطعة بافاريا الألمانية.
جيمس جويس، أينشتاين، تروتسكي وموسولوني
أنت تظن أن Einstein كان غارقا كل حياته في غرفة معتمة لكي يفتحها الله عليه بـ”النسبية“؟
لا عزيزي..Albert Einstein كان يرتاد هذا المقهى مذ كان طالبا في مدرسة بوليتكنيك زوريخ L’école Polytechnique de Zurich ، إذ أن المحاضرات العلمية كانت تعطى في إحدى قاعات المقهى!
عام 1900 حصل هذا العبقري على دبلوم التخصص بالرياضيات والعلوم الطبيعية، وسمي عام 1909 أستاذا فوق العادة في جامعة هذه المدينة الفريدة، حيث قام بتدريس مادة الفيزياء النظرية بين عامي 1912 و 1914.
وهل تظن أن تروتسكي كان يكتفي بالمقهى المركزي في فيننا لكي يقدح زناد فكره الانقلابي؟
لا عزيزي.. تروتسكي كان أيضا من رواد مقهى الـ Odéon في زوريخ خلال سنوات المنفى..
وهل تعرف بمن كان يمكن أن يلتقي تروتسكي وهو يعرج على هذا المقهى؟… بشاب إيطالي اشتراكي – فوضوي يدعى Benito Mussolini، جاء يستقر في المدينة عام 1913 ليعد الخطاب الذي سيلقيه أمام عمال بلاده بمناسبة الأول من أيار/ مايو!
لكن المقهى لم يكن يجذب السياسيين فحسب، بل إن وظيفته الأولى كانت جذب الكتاب والرسامين والمثقفين عموما، وهذا ما نجح فيه أيما نجاح!
فخلال قرن واحد “تناوب” على ذلك المقهى أرقى ما عرفته نخبة الأبداع الأوروبي الـ intelligentsia الساعية وراء تفتح فن جديد.
ولعل حامل شعلتها في ذلك الوقت كان الكاتب الإيرلندي James Joyce، الذي كتب أحد أفضل أعماله Ulysse بين بضعة أقداح قهوة وقطع حلويات، وهو يتناقش مع الرسام السويسري Augusto Giacometti ابن عم Alberto…
وكان الكاتب – المناضل الاشتراكي الإنكليزي Frank Budgen من أصدقائه المقربين.
جويس مؤلف رواية “الميت” – The Dead، كان قد لجأ إلى سويسرا المحايدة خلال الحرب العالمية الأولى، وكان دائم التنقل بين الـ Odéon ومطعم Kronenhalle المجاور…
وما زالت لائحة المقهى تزدان حتى اليوم بمقولاته و أقواله، وهناك لوحة رخامية تخلد أحد الأماكن التي عاش فيها: Universitåt – strasse ، وقد دفن في مقبرة Zurich – Fluntern – التابوت رقم 1449 –
مهد الدادائية
تلك المقاعد المغطاة بالجلد الأحمر، وتلك القاعات العابقة برائحة التبغ، شكلت الديكور المناسب لولادة حركة فنية جديدة عرفت بـ”الدادائية” -le dadaïsme –
يعود ذلك إلى العام 1916، حين أقدمت مجموعة من الفنانين الهائمين، الهاربين من أهوال الحرب العالمية الأولى، على تأسيس كاباريه Voltaire في شمال المدينة.
واعتاد الثلاثي Hans Arp و Hugo Ball، و Tristan Zara عل تنظيم سهرات موسيقيه صاخبة، وأمسيات راقصة وسجالات أدبية.
“حركة دادا” التي شهدت أولى إرهاصاتها مع André Breton و Mallarmé في مقاهي باريس، تحولت في Zurich إلى موجة فنية عارمة، قوامها الثورة على الفن التقليدي واعتماد الإثارة والاستفزاز…
“الدادائية تسعى إلى خلق قيم جديدة وقلب وتدمير القيم الموجودة، يعني القيم الأكاديمية”، كما فسر ذلك Tsara عام 1963…
وبما أن هذه المجموعة من البورجوازيين الهائمين، أمعنت في إثارة الصخب والضجيج، ومعظم أفرادها يترنحون سكارى، فقد جرى طردهم من النزل الذي كانوا فيه، فذهبوا يعلنون انتصار العبث في مقهى الـ Odéon..!
بعد مضي ردح من الزمن اتخذت هذه الحركة شكلا مؤسساتيا، وبرزت من بين صفوفها شخصيات بارزة، أمثال الكاتب Walter Serner، والفنان الرسام Max Ernest…
وفي عام 1966 شهدت Zurich احتفالات ضخمة ضمت آلاف الأشخاص، للاحتفال بمرور 50 سنة على ولادة الدادائية. وفي هذا السياق ذاته ولدت في مقهى الـOdéon في عام 1932 أول مجلة مثلية أوروبية بعنوان Der Kreis (الدائرة)!، وكان اهتمامها منصبا في مرحلة أولى على المثلية النسائية، حتى عام 1942، حين حدث فيها انشقاق كما يحدث في معظم الأحزاب المحترمة، إذ غادرتها معظم “المحررات” الصحافيات طبعا.. وبقي فيها “المحررون“… وتحولت إلى الإكثار من القصص والقصائد والمواد العلمية. لكنها بقيت “سرية”، وتراجع توزيعها إلى حدود 1900 نسخة عام 1957، و ظلت تصدر حتى عام 1967.
مسيرة لينين الطويلة
رغم كل ما مر على هذا المقهى من عجائب، إلا أن شخصا واحدا أعطاه أوراق اعتماده المشرفة.
فمنذ العام 1900 قرر لينين، الملقب بـ ” Volodia “، القيام بجولة في أوروبا، زار خلالها ألمانيا وفنلندا وفرنسا وبولونيا… ولم يعد إلى روسيا قبل أبريل – نيسان 1917، ما عدا بضعة أشهر قضاها في ربوع الوطن إبان ثورة 1905.
ما أن تساقطت أولى قنابل حرب 1914 حتى أقدم البوليس النمساوي – المجري على اعتقاله في منطقة غاليسيا la Galicie وساقه إلى السجن، حيث لم يمكث سوى أيام قليلة، بفضل تدخل الاشتراكيين النمساويين لصالحه.
وما كاد يغادر السجن حتى ذهب يحتمي على بعد شارعين من مقهى الـOdéon عند الاشتراكيين السويسريين، الذين وجدوا أنه ليس خطيبا مفوها، في حين هو منكب على كتابة “الإمبريالية أعلى مراحل الراسمالية“.
وتحت أضواء ثريات الـ Odéon كان “يعمل، يقرأ الصحف، ويلعب الشطرنج“، كما روى فيما بعد Stefan Zweifel، الذي ساهم في كتابة حكاية ساحة Bellevue في كتاب صدر عام 2005.
في شهر فبراير-شباط من عام 1917 كان مشروعه قد بدأ ينضج، وفي 9 أبريل-نيسان ركب رئيس مجلس مفتشي الشعب القطار مع حفنة من البولشفيك، وبخاصة Radek و Zinoviev، من محطة Zurich حتى Petrograd، وهو الاسم الذي كانت تعرف به مدينة Saint – Pétersbourg بين عامي 1914 و 1924، مرورا بألمانيا. رحلة دامت أسبوعا كاملا، قطع خلالها مسافة 3200 كيلومترا ، قبل أن يبدأ رحلة أخرى دامت سبعين عاما…