“المغرب بيتمصر ومصر بتتهند”.. قراءة في الواقع السياسي لحكومة الكفاءات
محمد كلاوي
أتذكر دوما جملة طالما رددها على مسامعي أحد الأصدقاء الفلسطينيين في رحاب الجامعة، كلما شكوت له تراجع المغرب على المستويين التعليمي والاجتماعي: “المغرب بيتمصر ومصر بتتهند”. ولو أن هذا المجاز يؤشر إلى تزايد الكثافة العمرانية، فإنه يصدق أيضا على تدني المستوى السياسي والاجتماعي في كلتا البلدين. فمن اللافت للانتباه في ظل حكومة السيد عزيز أخنوش الذي أنكر على نفسه صفة الليبرالي، مما يبيح التساؤل عن نوعية انتمائه الإيديولوجي، ما دمنا نعلم أنه ليس اشتراكيا ولا شيوعيا ولا إسلاميا ولم يعد تكنقراطيا بحكم منصبه الجديد على رأس الحكومة، هو استفحال حجم الخطاب الديني والدعوي بالخصوص في جل المنابر الإعلامية. وهذا سواء كان مبرمجا أو ناتجا عن ضغوطات خارجية، لم نشهد له مثيلا حتى في مرحلة حكومة السيد عبد الإله بنكيران ذات المرجعية الإسلامية. والأدهى أن كل الوافدين على برامج هذه المنابر، حتى ولو كانت ذات مضمون علمي أو تقني صرف، كالبرامج التي تعنى بالصحة أو الجغرافية أو الهندسة، يعودون بنا إلى تفسيرات وتحاليل عقدية حتى أصبح أطباؤنا ومهندسونا، ناهيك عن المنشطين ورواد المواقع الاجتماعية (اليوتوبرز) الذين أضحى يعضهم يجاهد في دعم آرائه بأحاديث نبوية ضعيفة وقصص لا يثبتها التاريخ عن الصحابة والأئمة، فقهاء ووعاظ غير ملتزمين بالرسالة التي أدوا عليها القسم أو التي تسري على عاتقهم. (أتذكر إحدى مقدمات برنامج موضوعه الصحة، تقاطع “الطبيب الضيف” بنصح “السائل المريض” إلى إقامة الصلاة كوسيلة للعلاج)، بل هناك من المحاورين (بكسر الواو) من لا يفتأ يستعرض مهاراته المعرفية،كما لو أنه هو المحاور (بنصب الواو) للحد الذي ينسينا فيه السؤال.
لقد بات واضحا أن مجموع الممارسات والتقنيات التواصلية أصبحت تروم التأثير على الرأي العام، عبر توزيع معلومات خاطئة ومضللة، سواء عن قصد أو دونه، حتى في الدول التي كنا نعتقد إلى عهد قريب، أنها الراعية لحقوق الإنسان واحترام مبادئ القانون الدولي. وما من شك أن التحول الذي نهجته الأنظمة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل في دعم الصهاينة، ضدا عن كل المواثيق والمعاهدات الدولية، وضدا عن إرادة شعوبها، ليست بحادث منفلت، وإنما عمل يوشي بمخطط ممنهج بغية إفناء شعب بكامله. لكن الأخطر هو أن تكون بعض الدول العربية، حفاظا على كراسي قادتها، مساهمة بشكل مباشر أو غير مباشر في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، ولو تحت ذريعة الخلاف المذهبي مع حركة حماس.
فيما يخصنا نطرح السؤال، ما الدافع إلى هذا التحول الرهيب في المشهد الإعلامي المغربي، الذي غابت فيه التنافسية والاختلاف، على عكس ما يفرضه قانون الاتصال السمعي البصري من ضرورة التزام متعهدي القطاع «بالسهر على إرساء مشهد سمعي بصري متنوع وتعددي ومتوازن ومتكامل” (مادة 4 من الفصل 1 المتعلق بمهام المجلس الأعلى للهاكا). لماذا أصبحت خطاباته تتناسخ بشكل روتيني وبأسلوب فج كله أخطاء لغوية ونحوية، ليجنح نحو التقليد بعدما ظل لفترة منارا للخلق والابتكار في شتى الميادين الثقافية والفكرية وحتى السياسية؟ صحيح أن امتلاك القضائيات الاصطناعية وسيطرة المال من طرف دول الخليج، كان لهما كبير الأثر في شيوع الفكر المتشدد وفرض توحيد المصطلحات كما هو الحال مثلا بالنسبة للنشرات الإخبارية والتعاليق الرياضية، وقد يكون في الأمر خلفيات مادية أو سياسية تجبرنا على تبني بعض المواقف السياسية المغايرة لتقاليدنا المجتمعية، غير أننا لا نستبعد نوعا من القصور المعرفي وضعف في التكوين، لدى الجيل الجديد من الصحفيين والقائمين على الشأن الإعلامي في بلادنا، حيث تلاشت خصوصية الإلقاء والتعابير. “فقد نجحت الأجهزة، يقول الصحفي المتميز عبد الرحيم التوراني، في تحويل عدد كبير من المواقع الإلكترونية والجرائد حزبية أو مدعية للمهنية والاستقلالية إلي وكالات علاقات عامة مهمتها الأساسية تضليل الرأي العام وتعزيز هيبة وسلطة المسؤولين وتضخيم ذوات بعضهم والاجتهاد في إخراج الإحداث من سياقاتها الموضوعية والعقلانية وتحويلها إلى حداث مثيرة… وكأننا أمام سلسلة من الأعمال الدرامية” (الكنغر الأسترالي واللبؤة المغربية والباباراتزي الفرنسي). https://assoual.com/archives/43740
قد يكون التضليل الإعلامي وسيلة ناجعة زمن الحرب، من أجل الخداع العسكري ضد العدو، وهذا أمر مشهود تاريخيا، أما التضليل السياسي الذي يستهدف المواطن فلا يكاد يجد له سندا زمن السلم، خاصة إذا كانت تعوزه الإرادة الحقيقية والمعرفة بأصوله وقواعده. فمن سلبياته في عصر الأنترنيت أنه لكثرة رواجه وسرعته قد قلص، إن لم نقل عطل عجلة تفحص الخبر وتمحيصه. يضاف إلى هذا أن لجوء الحكومات والساسة إلي المعلومات الكاذبة من أجل الاستقطاب السياسي يشكل أكبر ضربة للديمقراطية لو كانت تمارس فعليا، لأنه يحمل في ثناياه خرقا سافٍّرا للمصداقية بتجاوزه للحدود الأخلاقية وتلاعبه بالوعي الجمعي من خلال فرض الراي الأحادي ظنا بأنه السبيل لتحقيق الهيمنة حسب مفهوم غرامشي.
فعلا هناك ثراء نظري حول مفهوم التضليل السياسي وطرقه باعتبار نوعية المجتمع المقصود ونسبة مستوى التعليم لدى أفراده ودرجة إدراكهم السياسي، الأمر الذي يطرح إشكالات مفاهيمية عدة حول طرق التضليل لكونها ليست متطابقة في كل زمان ومكان. فما يصدق في دولة تكفل حرية الرأي والتعبير يستحيل في أخرى هاجسها أمني بالأساس. فالكل يتذكر المهزلة التي قام بها الجنرال الأمريكي “كولن بأول” في حظيرة الأمم المتحدة ابان الحرب ضد العراق، والتي قدم فيها معلومات خاطئة حول امتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل قبل أن يقدم استقالته بعد بضعة شهور، لكونه تم التضليل به بدوره على ما يبدو. الجميع يتذكر أيضا زلة الرئيس الأمريكي بيل كلنتون في سنة 1998، التي أدت به إلى التحقيق أمام القاضي بعد إنكاره علاقته بالموظفة مونيكا لوينسكي، قبل أن يتراجع تحت ضغط هذا الأخير. أما في المجتمعات السلطوية قد لا يحتاج الحاكم عموما إلى تبرير قراراته مادام يفرضها بالقوة ولو أنها ليست مضمونة النتائج (مثال تشاو سيسكو والشاه الإيراني بهلوي). أما في المغرب فمشكلة حكومة الكفاءات، هي كونها تنم عن فقر مدقع بمعرفة الواقع السوسيولوجي والثقافي للمغرب، الذي أفني فيه عدد من المفكرين والباحثين المغاربة جل أوقات دراستهم. فكانت نظرتهم المتعالية للإنسان المغربي (اللي ناقصاه التربية نعاودوها ليه…) سببا رئيسيا في فك الارتباط بين الحكومة والشعب منذ البداية، خصوصا وأن عددا من الوزراء والمسؤولين في هذه الحكومة جاؤوا محملين بأفكار منسوجة في دهاليز الجامعات التقنية في الغرب معتقدين خطأ أنها تكفيهم للتحكم في شعب محمل بتجارب التاريخ ومدرك بطريقته قواعد اللعبة السياسية.