أجنحة التحليق الجمالي في “مسلف من النسيان خطواتي” للشاعر احميدة بلبالي
عزالدين الماعزي
شدّني ديوان “مسلف من النسيان خطواتي” للشاعر الصديق احميدة بلبالي، وأنا على متن قطار العودة – على هامش مشاركتي ببلقصيري في تكريم الشاعر أحمد لمسيح *
الديوان من منشورات بيت الشعر، دجنبر 2023 في طبعة أنيقة، صورة الغلاف للفنان الفوتوغرافي عادل أزماط، بـ 96 صفحة يضم 8 قصائد أولها: شويه وننساك… وتنتهي بـ احلام ساكنه نهاري.
لحظة الكتابة عن الديوان هي لحظة شغف؛ محاولة إنصات إلى ارتجاج دهاليز النصوص ب: عتباتها، معانيها، مدارجها أو بالأحرى لحظة تملكنا لحنين الكتابة كانخطاف تكشف عن معمار مُهيكل شاعري، مموسق جميل. ابتسم وحدي والقطار يهز أركاني وأنا أبحث في ظل كلمات سطرّها الشاعر بحبّ واجتهاد ابداعي ومحاولة كشف آخر للسحر المتخفي وراء الكلمات (المسكوت عنه). أسجل ملاحظاتي على الهامش وتلك عادتي لمشاركة الشاعر همومه والتماعاته، أحلق معه بأجنحة الخيال لا حسب اللحظة التي تمضي..
استرعى انتباهي أولى القصائد التي افتتح بها الديوان والتي هي مفتاح شهية القارئ وإغراء لولوج عالمه شويه.. وننساكْ. بمدخل: تنسى.. هي تنسى باش تكتب.
يقول :
تنسى../
هي تقرا /
بين الوان لمدادْ/ بياضُه. ص5
بين فعل النسيان كفعل مضارع وفعل القراءة وبين الوان المداد اللذان يدلان على الاستمرارية والمداومة والتأكيد مع الإحساس بيد الصباح تمسح عين الليل لتكشف نقاء أحلامه. تحليق جمالي مدهش يبلوره إحساس التفكير المرهف وانوجاده بين زمن القراءة في الحاضر والماضي بيد الصباح تمسح كاستعارة ليكشف نقاوته وطهارته وليعيد فعل النسيان وهي:
تمسح الصخره / من ظهر سيزيف
تريّح الجبل من احمالُه.
صفحة الما تعميها / حتى ينسى نرسيس / يتغرمْ ف خيالُه.
يستدرك الشاعر كما أسلفت بأفعال المضارعة دلالة الديمومة والاستمرار والاختزال بحمولة الشحنة الكهربائية… يقول :
تنسى يعني/ تتشيّك… تتقاد… تتعطر
في اطار البحث والكشف عن الطريق، يتمم قوله :
تنسى،
يعني كل صباحْ / تمسح خطواتك / تقلب على طريق أخرى،/
ف كل عشيه/ تشعل قمر غروبك / تلعبْ غميضه مع راسك.. ص8
موظفًا صورا جمالية بأفعال: يمسح الخطو وتقلب على طريق، تشعل وتلعب غميضة… تسد وتقلب وتطلق حتى تفوت وتسمع… شكوى أوتار الكمنجة وحديث الأصابع. في سرعة الإلقاء المتوتر وسرعة توظيف الأفعال المتوازية والمتمايلة في صعود وانحدار وامتداد للتحليق والعزف الهارموني..
ويأتي بصور أخرى موحية ودالة
تنسى / هي تسمع الورده / الخارجه من قبر أباك / تحكي لك / اخرايف جداكْ… ص9
بلوحة مطرزة بحمرة وبهاء بلعمان من يد رسام تزهر الأمل المنسم بأشواق..، يظهر للعيان في التركيبة الشعرية الغنائية الموظفة بصورة مموسقة لأغنية مغربية مشهورة للمطرب البشير عبدو (وانْت دايز..)
يذكرني بلازمته: وانت ذايب / ف لوحة مطرزة بلعمان/ سايله من يد رسام / أزهار الأملْ.. ص10
مطالبا إيانا بالتحرر وشرب “ماء النسيان” خاوي التاريخ من الشيطنه والفهامه..
نمشي في طريق (محرّفْ) الفرحه وأغنية (إيناس.. إيناس) يؤنسك قلب الأم للتغلب على همومك والامك..
جمالية الصورة لدى الزجال احميدة بلبالي في هذه القصيدة يلبسها ثوبا مزركشا، بيانيا، معطرا، بمواد وإيحالات أخرى طبيعية ومركبة تركيبا وتوليفا بطابع خاص ينطلق من تذويت الذات : اشرب وعيش وامش وامحرف.. وتنسى
في الشرب والعيش والمشي.. والنسيان لأنك : كنت مشيتيه موسد دموعك وتابوت. ص11
ليستعمل سؤال الكيف والمثل: كيف تستعمل الشطط ف الذاكره /استعملْ الشطط ف النسيان. ص12
ثم يقول متعجبا، تعجب الدهشة التي تولد الرغبة: يعني قرّيتي، / انك نْسيتي!
نلاحظ،
وانت واقف قدام ورده / شافتك هربانْ من شوكك /
تتفكر صفوريتها / ف دفتر ذكرياتك /
وتبان عريان من ضوك. ص12
هي صورة دهشة الارتباك التي تولدت في نهايتها مفارقة الخيبة وتكسير أفق المنتظر كما في القصة ق ج (تبان عريان من ضوك). أمام مرآى الجمال الذي يخبو ؛ جمال الوردة تنظر إليك وأنت هارب من أحزانك محملا بهمومك، تتذكر، يستعمل تتفكر(صفوريتها) حزنها في دفتر الذكريات (صندوق / الذات، الجسد) لتنكشف القفلة البارقة والدهشة الايروسية من لغة ودلالة الانعكاس. التحلل والتحول من الظلمه إلى النور ومن الوهم إلى الحقيقة ليصبح لديه النسيان طاقة، تمرين الذاكرة، النسيان محبة، شرط الفرحة، تحرر من البارح..
يمارس جدلية التضاد في تذكره ونسيانه في اسكات وكلام / ضوء وظلام جالبارح وغدا / موسيقى هذا للكون. ص14
بالتأكيد على فعل النسيان وممارسته بالكتابة كما أشار إليه في التقديم وبألوان شتى :
تنسى/
يعني تنسى / وتكتب بالبياض / على ورقة بيضا / بالوان الطيف
كلام / تقراه الذاكره ف المستقبل. ص15
هل النسيان يهدد الذاكرة؟
مع زيادة المسؤوليات وارتفاع التوتر والضغط..
أليس النسيان هو ألم الفقدان المختزن في الذاكرة والتي تُسبب الاكتئاب، كلما ازداد الإنسان في العمر زاد نسيانه. النسيان بلسان ارتباك دهشة، ترجمة وهو ضروري للحياة النفسية ولحرية الإنسان؛ ضروري لتحرير نفسه من الماضي والتوافق مع الحياة والمعيش والإشارة لقولة افلاطون: “إن العلم تذكر والجهل نسيان”.
في المقطع التالي يطالبنا بالتفكير واستعمال العقل عوض العيش في الفراغ والتشتت، ليس لأن النسيان مفيد في بعض الأحيان بل ضروري للتخلص من الذكريات المؤلمة للتغلب على المشاعر السلبية.
يتميز الشاعر بهذا المنحى الفكري الفلسفي راسمًا خيوطا وعناوين طول قصائد ديوانه (الفراغ، دهشة التراب، برزخ، ظل الريح، شرفة المنتهى، النص الغائب، واحلام ساكنه نهاري)، وما اختياري لقصيدته: (شوية… وننساك) إلا لفتح ممرات وأبعاد أخرى داخل الديوان ككل، مع فتح شهية القارئ لتواجد عناصر مثيرة للدهشة والرغبة في التناول.
في قصيدته ومض لامعٌ وتقتير وتقطير لشهد الكلام، إنها تقبض على السائد في التلميح وفضح التصريح، خيوطها عصية متمردة وخفيفة الظل والوزن مختزلة لحفر الممرّات واستقبال الأذرع، تقول ما عندها وما لديها وما عليها..
ترصد، تكشف، تختزل، تحلق مسرعة كأجنحة الفراشة حتى لا يفوتها التحليق في سماء الخيال وقوة الأثر (اترك أثرا طيّبا)، ولا تضايق العبارة الفكرة بل تتماهى معها وتمضي في كشف استعراضي به حذف واختزال واقتصاد وايقاع لغة تمتح من الفصحى ومن الذاكرة لكي لا ننسى من رحم واقع الانسان، هي اختزال وتكثيف في اختيار المفردة والجملة الشعرية والاحتفاظ باشتراطاتها الأساس.
النص لديه يمتلك مقومات الرشاقة والاختزال بالرقص على المضمون الذي يستدعي صور الخيال والانزياح المركب للقبض على المنفلت والسرعة في البحث عن الدهشة والاقتصاد مع التكرار وليس الأمر عيبا، بل موسعا معالم جاذبيته في التحليق السريع، مع ترك فرصة للقارئ التدبر والتذوق والتأويل بحثا عن معالم ومعلومات وأسماء أعلام ومفردات في ظلال النص او الديوان ككل (سيزيف، نرسيس، ورق التوت، عين النسيان، إيناس.. إيناس، المنازل، النوستالجيا…).
هامش :
ملتقى سبو للشعر، دورة الزجال أحمد لمسيح، يومي 25 و26 ماي 2024 بقاعة بلدية مشرع بلقصيري.