إهانة وعبثٌ وتلويثٌ بشرف وكرامة الدول العربية…
عبد السلام بنعيسي
تدرس حركة حماس نقل مقر قيادتها من دولة قطر إلى دولة أخرى. ويعود السبب إلى الضغوطات الهائلة التي تمارس عليها من قبل دول عربية من أجل الموافقة على المقترحات التي تُقدَّمُ من قبل الإدارة الأمريكية وحتى الجانب الإسرائيلي، لوقف الحرب في غزة.. وذهبت تقارير صحافية إلى أن حركة حماس قد طرقت أبواب العديد من العواصم العربية والإسلامية، لنقل مقر إقامتها من قطر إليها، إلا أن الكثير من هذه العواصم أقفلت أبوابها خوفًا من الغضب الأمريكي، وأن الخيارات أمام الحركة باتت محدودة جدًا. ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤول أميركي قوله، إن واشنطن طلبت من الدوحة طرد حماس إذا استمرت الحركة في رفض اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل…
عندما يقرأ الإنسان العربي مثل هذه التقارير الإعلامية، لاشك في أنه سيصاب بالحيرة والإحباط، وسيتساءل مع نفسه، إنْ كانت الدول العربية، التي تتصرف على هذا النحو، تتمتع فعلا بحريتها، واستقلالها، وبحقها في ممارسة سيادتها على أرضها أم لا؟ فبأي حقٍّ تجيز الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها ممارسة الضغوطات على الدول العربية لمنعها من استضافة قيادة حماس في بلدانها؟ وعلى أي أساس قانوني تتجاوب الدول العربية مع هذه الضغوطات وترفض تواجد قادة حماس في ضيافتها؟
في فترة الاستعمار، وحين كانت الثورة الجزائرية في أوج صراعها مع المستعمر الفرنسي، كان العديدون من قادتها السياسيين، وحتى بعض قادتها العسكريين يتواجدون سواء في المغرب، أو في تونس، أو في ليبيا، أو في مصر، وكانوا من هناك يساهمون في إذكاء لهيب الثورة، ومدّها بالمال، والسلاح، والاستشارة، والرعاية، لكي تستمر وقادة وهاجة، ولم تكن الدول التي تحتضن بعض قادة الثورة الجزائرية تهتم بالضغوطات الفرنسية وتلتفت إليها، إلى أن انتصرت الثورة بطرد المستعمر الفرنسي ونالت الجزائر استقلالها.
فلماذا كانت دولنا بالأمس تساند حركات التحرر وتدعمها وتستضيفها فوق أرضها، غير عابئة بالضغوطات الغربية الممارسة عليها لثنيها عن تقديم الدعم لأشقائها، في حين صارت دولنا اليوم تتلكأ، وتخاف من استقبال قادة حماس في عواصمها؟ هل كان مستوى استقلالية الدول العربية تجاه الغرب مرتفعا بالقياس مع حاضرنا؟؟ وعلى ماذا يدلُّ ذلك؟ وكيف يمكن قراءته واستنتاج ما يوحي به؟
يفترض أن الأمم والشعوب، مع مرور الوقت على نيل استقلالها، تتقدم في درب التحرر والانعتاق من الهيمنة الأجنبية التي كانت خاضعة لها إبان حقبة الاستعمار، وأنها تصبح أكثر جرأة وقدرة على رفض ضغوطاته وصدها، إننا نعاين هذه الحقيقة في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية. لكن للأسف، يبدو أن دولنا العربية، بخلاف ذلك، تسير القهقرة وتتراجع إلى الخلف، في ممارستها لحريتها وسيادتها فوق ترابها الوطني، وإلا ما معنى الرضوخ للضغوطات الأمريكية ورفض استقبال العواصم العربية لقادة حماس واستقرارهم المؤقت بها؟؟؟
قد يتفهم المرء، على مضض، عدم تقديم الدعم العسكري العربي للمقاومة الميدانية في غزة، وقد يستسيغ، بمرارة، غياب مدِّ المقاومين الفلسطينيين في غزة بالسلاح والمال والخبرة، وقد يتجرع المرء كل المبررات التي تساق لتفسير التلكؤ في إسناد المقاومة المسلحة بما تحتاجه من لوجستيك للدفاع عن شعبها، ولكن أن يصل الأمر إلى حد منع الدول العربية من توفير الملجأ السياسي الآمن لقادة حماس ليعبروا عن قناعتاهم السياسية ويفاوضوا معربين عن تطلعات شعبهم في الحصول على حقوقه وهو يواجه حرب إبادة جماعية، فهنا يصبح الأمر عبثيا ولا معقولا. في هذا الموقف، إهانة للدول العربية، وعبثٌ بشرفها، وتلويثٌ لكرامتها.
الولايات المتحدة تقتل الشعب الفلسطيني بالسلاح الذي تزود به الكيان الصهيوني، وتذبح الفلسطينيين بالفيتو الذي تلجأ إليه في مجلس الأمن لرفض القرارات المُدينة للمجازر التي تقترفها القوات الإسرائيلية، ويبدو أن واشنطن تسعى لمنع الشعب الفلسطيني من التعبير عن رأيه، ومن الصدح بالشعور بالألم الذي يسكنه، إنها تريد ممثلين للفلسطينيين على مقاسها، بحيث تقتل من تشاء من أبناء فلسطين، وتهدم مبانيهم ومؤسساتهم فوق رؤوسهم، وتنشر الرعب والخراب في ديارهم، ثم تأتي وتطلب منهم التوقيع على ما تريده، هي، لهم، وليس ما يكافح من أجله المقاومون في ميدان المعركة.
فكيف لقادة الدول العربية القبول بمنطق من هذا القبيل؟ في القبول به ألا يكونون مشاركين في كل ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني من جرائم في الشعب الفلسطيني؟ ألا تبدو أيدي النظام الرسمي العربي، هو كذلك، ملطخة بدماء الفلسطينيين، ومساهمةً في القتل والتدمير والتنكيل الذي يطالهم؟
حماس حركة مقاومة تمتلك شرعيتها الاجتماعية والقانونية من كونها تمثل في قطاع غزة الشعب الفلسطيني الذي انتخبها ووضع ثقته فيها. إنها الوجه السياسي للمقاومة المسلحة التي تدافع عن شعبها أمام حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها هذا الشعب منذ حوالي تسعة أشهر. وطردُها من الدوحة، وعدم السماح، من طرف أمريكا، لمركبها بالرسو في كل العواصم العربية، لا يعني أن قيادة حماس لن تجد مكانا يأويها، وأن القضية الفلسطينية سيتم طمسها والانتهاء منها..
أرض الله واسعة، وبإمكان القيادة الحمساوية الاستقرار في اليمن، أو في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي وسعها العودة إلى سورية، وحتى إن افترضنا مجازفة، أن قيادة حماس السياسية، غابت كليا عن الوجود، ولم يعد لها أثر فيه، فإن مشكل أمريكا والكيان الصهيوني مع الشعب الفلسطيني، لن يجد طريقه إلى الحل السهل والسريع والنهائي، كما قد يتهيأ لهما، بل ستتعقد الأمور بالنسبة لواشنطن وربيتها تل أبيب أكثر على هذا المستوى…
وقتها، سيصبح المفاوض المباشر لهما، هو القائد يحيى السنوار، وإلى جانبه، رفيقه في درب الجهاد محمد الضيف، ومن هم على شاكلتهما. هؤلاء هم الذين ستضطر الإدارة الأمريكية، في نهاية المطاف، للجلوس مباشرة معهم على الطاولة، ومفاوضتهم حول السبل الكفيلة بوقف إطلاق النار في غزة والضفة، وتبادل الأسرى، وفتح المعابر، وإعادة الإعمار، ووضع أسس إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، على أنقاض دولة الاحتلال والعنصرية…