هل تنزلق البشرية نحو حرب عالمية ثالثة؟
عبد السلام بنعيسي
يبدو أن الحديث الروسي عن اللجوء لاستعمال السلاح الذري ليس حديثا للتخويف وللتهديد فحسب. تشعر روسيا أن الغرب يسعى لتهديدها في وجودها وفي كيانها الحالي، بل يمكن القول، إن الغرب قد لجأ لاستعمال أسلحة الدمار الشامل في مناطق عدة من العالم لمرات متكررة، ولأنه لم يتلق الرد المناسب في الوقت المناسب، فها هو الغرب يستعمل حاليا هذا السلاح في روسيا بدورها، بعد أن وقع استعماله سابقا، ضد كوبا، وضد فنزويلا، وضد نيكاراجوا، وضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وضد العراق، وليبيا، واليمن، ولبنان، وسوريا، وفي القطاع والضفة..
واضح أن المقصود بالحديث هنا عن سلاح الدمار الشامل، ليس القصف بالسلاح الذري الذي استُعمل في هيروشيما ونكزاكي المدينتان اليابانيتان في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا السلاح الكيماوي الذي استُعمل في عشرينيات القرن الماضي في منطقة الريف بالمغرب لإخماد الثورة الريفية بقيادة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، ولا في ليبيا ضد ثوار عمر المختار، ولا القصف بالفوسفور الأبيض المُحرَّمُ دوليا الذي استُعمل في العراق ولبنان وغزة.. المقصود، سلاح آخر، لعله أقوى وأفتك من هذه الأسلحة مجتمعة. إنه سلاح الحصار الشامل..
ما معنى فرض حصار اقتصادي غربي على دولة ما، وإجبار باقي دول العالم على التقيد بهذا الحصار وتطبيقه ضدها، وكل من يريد خرق الحصار يتعرض بدوره لعقوبات غربية زجرية، ويجبر على الالتزام به مكرها وصاغرا؟ ما معنى شن الحروب على بعض الدول وتدميرها بالكامل، وإرجاعها إلى العصر الحجري، بقرارات غربية رسمية معلن عنها من طرف المسؤولين الغربيين، ومنع الدولة المُدَمَّرة من إعادة الإعمار، وحرمان ساكنتها من الماء والكهرباء والدواء، والحكم عليها بالعزلة الدولية، وترك ساكنتها نهبا للفقر، وللجوع، وللأمراض، وللضياع، والحرمان من كل شيء، بغرض جعلها فريسة الشعور بالإهانة والإذلال وفقدان الكرامة، لتكون عبرةً لغيرها من الدول؟
ما معنى أن يحدث كل هذا خارج نطاق قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، وأن يتم باتفاق بين واشنطن وبعض العواصم الغربية فحسب، ويصبح مفروضا على كل أمم العالم مجتمعة، بقانون القوة وليس بقوة القانون الدولي؟ أليس هذا نوعا من الاستعمال لأسلحة الدمار الشامل؟ أليس استعمال هذا الأسلوب في التعامل الدولي، أقوى وأعنف من أسلحة الدمار الشامل التي يتهمون روسيا بأنها تهدد باستعمالها، ويريدون محاكمة الرئيس السوري بشار الأسد في فرنسا بدعوى أنه استعملها، كما غزوا العراق ودمروه، والتهمة الكاذبة هو أنه كان يمتلكها؟
جميع الدول والمجتمعات تعاني من مشاكل وأزمات اجتماعية واقتصادية جمة وهي في حالاتها الطبيعية، أي أنها تقيم علاقات تعاون وتآزر مع الدول المجاورة لها والبعيدة عنها، فما بالك إن كانت بعض الدول في حالة حصار خانق من طرف القوى الكبرى؟ مشاكل الدول المُحاصَرَة تتراكم وتتضخم، وتصبح أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية أوضاعا كارثية، ويكون ضحاياها هم أفراد الشعوب وليس الطبقات العليا الحاكمة. إذا كان السلاح الذري يقتل على الفور كل الكائنات الحية التي يسقط عليها، فإن سلاح الحصار الخانق يقتل بدوره ويدمر المجتمعات التي يطالها، ولكن يحدث ذلك بالتقسيط وبالتدريج، والأساسي هو أن كلاهما يؤدي نفس المهمة التي هي القتل والتدمير والإبادة الجماعية…
فجور الغرب تجاوز كل الحدود. لقد توغل في سفك الدماء في جهات الدنيا الأربع، ولا يقبل بأن تتراجع سيطرته على العالم. تحْكُم الغرب طبقة رأسمالية جشعة هاجسها الأكبر هو نهب ثروات دول العالم، واحتكارها لنفسها، ومنع إنسان الجنوب من حقه في التصرف في ثرواته. يحرص الغرب على أن يظل مستفردا لوحده بالتحكم في قيادة العالم وتوجيهها بما يخدم مصلحته الأنانية، لقد جاملته روسيا لبعض الوقت وسكتت عن تصرفاته الرعناء لوقت طويل في جهات كثيرة من العالم، إلى أن أرادت الخروج عن الصف والعودة قوةً كبرى إلى الساحة الدولية فجاءها الغرب إلى أوكرانيا وفرض الحرب والحصار عليها هناك بغرض تدميرها وتفكيكها..
يتجاهل الغرب أن إنسان عالم الجنوب في القرن الواحد والعشرين، ليس هو إنسان القرن الثامن والتاسع عشر والقرن العشرين. مستوى التعليم ارتفع في جميع أنحاء العالم، ودرجة وعي الشعوب غير الغربية باتت عالية، وصارت هذه الشعوب تطالب بحقها في أن تتم المعاملة الغربية معها في نطاق المساواة والاحترام المتبادل، وتدعو لأن تصبح خيرات وثروات العالم مجالا للتعاون ولتحقيق التنمية المتكافئة، وأن تُحترم سيادات الدول الصغيرة، وأن تُرفع عنها نهائيا عصا التهديد بالعقوبات والحصارات والهيمنة الغربية، وأن يتمَّ حلُّ النزاعات والصراعات الدولية بالتفاوض وبالحوار، وفي سياق سيادة القانون والعدل وإنصاف المظلومين في الأرض، وتجنُّب فرض الأمر الواقع من طرف الدول الغربية على غيرها..
المطلوب من نخب الدول الغربية ومن أطرها السياسية والنقابية والجامعية ومن شبيبتها التحرك في هذا الإطار، وأن ينصبَّ النضال الدولي في هذا الاتجاه، لإجبار الحكومات الغربية على التخلي عن جشعها وقمعها وتسلُّطها، وأن تسعى لبناء المجتمع الدولي العادل والمختلف والمغاير لنظيره الظالم القائم حاليا. الطريق للوصول إلى هذا الهدف طويل ووعر، ولكنه السبيل الوحيد للحفاظ على استمرارية الحياة فوق الكرة الأرضية..
أما إذا ظل الوضع على ما هو عليه، وبقيت الحروب الطاحنة تجري في أكثر من مكان، وظل الغرب يبادر إلى إشعال فتيلها، ورمي الحطب فوق نيرانها الملتهبة، وإذا استمر هذا الغرب في سياسته الحالية الرامية إلى قهر كل من يخالفه الرأي، بفرض الحروب والحصارات عليه، فهذا يعني أن العالم في الطريق صوب حرب عالمية ثالثة مدمرة للبشرية، ويمكن القول إن نذر هذه الحرب قد بدأت حاليا تلوح في الأفق، انطلاقا من فلسطين تحديدا، مرورا بأوكرانيا، ووصولا إلى الصين عبر تايوان.
فهل ستنزلق البشرية لحرب عالمية ثالثة أم تتجنبها، أم أنها انهمكت فيها دون وعيٍ منها؟ إنْ حدث هذا، سيكون الغرب هو المتورط في اندلاع الحرب العالمية الثالثة، والمسؤول عن كافة تداعياتها الخطيرة والقاضية على الإنسانية.