التقاليد اليسارية في فرنسا تجربة تاريخية هجينة
د. زياد منصور
أظهرت الانتخابات الأخيرة حالة من التجاذب الكبير في المجتمع الفرنسي، ناتج عن عوامل داخلية وفشل متعدد الوجه لليبيراليين وما يمثلون، بحيث بات المجتمع الفرنسي أمام حالة من الصدام الاجتماعي والسياسي لا يزال إلى ألان محصورًا في صناديق الانتخابات.
ما هي تقاليد اليسار الفرنسي، وهل يستطيع الدفع بالمجتمع الفرنسي إلى الأمام؟
تشي التجربة التاريخية، في أن اليسار الفرنسي لا يقل أهمية عن اليمين، لأن كليهما قطبان ساهما في تنظيم الحياة السياسية في فرنسا لمدة قرنين من الزمن. ومع ذلك فإن توصيف دور اليسار ليس بالأمر السهل، لأن مفهوم “اليسار” تبدل وتغيَّر مرارا وتكرارا على مدى هذين القرنين، وكان في الواقع معقدا دائما.
لقد تطور اليسار، مثل اليمين، منذ الثورة الفرنسية. فماذا كان دوره؟ بشكل عام، يمكن الإشارة إلى ذلك في القرن التاسع عشر حيث لعبوا دور المقاتلين من أجل الجمهورية. انتصرت الجمهورية في فرنسا فقط في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر. قبل ذلك، كانت الجمهورية يعتبر فقط أحد الخيارات الممكنة للبنية السياسية للبلاد بعد سقوط النظام القديم عام 1789 في القرن التاسع عشر، بحيث تميزت فرنسا بمواجهات محتدمة بين اتجاهات مختلفة: تلك الداعية لإقامة ملكية مطلقة أو ملكية دستورية أو جمهورية. فيما تأرجحت تيارات مختلفة من اليمين بين خيار آخر من الخيارين الأولين، في حين كان إنشاء الجمهورية يلبي تطلعات التقليد السياسي اليساري. .وفي الوقت نفسه، بعد تأسيس الجمهورية في سبعينيات القرن التاسع عشر. تبين أن المعتقدات الجمهورية متأصلة ليس فقط في اليسار. كان بعض اليمين الفرنسي مفتونًا بالعملية التاريخية المسماة “الضم” والتي تتمثل في حقيقة أن اليمين قبل بالجمهورية باعتبارها النظام السياسي لفرنسا.
منذ هذه اللحظة فصاعدًا، كان مصدر الانقسام في المجتمع الفرنسي هو خط الانقسام بين اليسار واليمين، الذي تمحور حول مشكلة تدخل الدولة في الحياة الخاصة ، بحيث تحول هذا إلى مصدر للثقافات السياسية المتصارعة. ساهمت الثورة الصناعية ونمو الطبقة العاملة في توسع الحركة الاشتراكية. لمدة قرن تقريبًا، دعت الديمقراطية الاشتراكية الفرنسية، من ناحية، وممثلو النسخة الفرنسية من الشيوعية، من ناحية أخرى، إلى التدخل النشط للدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، على الرغم من تباين الآراء حول حجم ومستوى درجة هذا التدخل باختلاف المطالب بين أنصار الثقافات السياسية المختلفة. وعلى وجه الخصوص، فإن وجود بعض القوى اليسارية في السلطة في الأعوام 1924 و1936 و1956 و1981. أدى إلى توسيع التشريعات الاجتماعية وكثيرا ما كان مصحوبا بالتأميم.
ولم يتمتع الفرع الشيوعي من شجرة عائلة اليسار الفرنسي بنفوذ قوي إلا لفترة قصيرة نسبيا خلال هذين القرنين، بين عام 1936 ومنتصف الثمانينات. ثم حصل الشيوعيون على أكثر من 10% من الأصوات في الانتخابات. وعلى العكس من ذلك، كانت الديمقراطية الاجتماعية الفرنسية تشكل قوة سياسية كبرى لأكثر من قرن من الزمان. وُلد الفرع الفرنسي للأممية العمالية في عام 1905 ويمكنها أن تدعي أنها منشئ “دولة الرفاهية” في فرنسا. ومع ذلك، منذ أوائل الثمانينات أدركت الديمقراطية الاجتماعية الحاجة إلى اقتصاد السوق، الذي لم يعد الموقف تجاهه يشكل خطاً فاصلاً بين اليسار واليمين.
لا شك أن اليسار لعب دائماً دوراً مهماً في فرنسا، منذ الثورة وحتى وقت قريب، ربما باستثناء السنوات العشرين الأخيرة. ويجدر التأكيد على أن اليسار كان يبدو دائما وكأنه حزب حركة وتقدم. فمنذ ثورة 1789، انتقد دائمًا البنية القائمة للمجتمع، واقترح حلولًا جريئة بدت في البداية وكأنها معارضة ورفضتها السلطات. لكن أفكار اليسار حظيت تدريجياً باعتراف المجتمع وأصبحت قاعدة الحياة. عارض اليسار بإصرار، أولاً النظام الملكي، ومن ثم إمبراطورية نابليون. وأعلن في القرنين التاسع عشر والعشرين عن نفسه كوريث للثورة وناضل من أجل إنشاء الجمهورية ومن أجل الاقتراع العام. بعد أربعينيات القرن التاسع عشر ارتبطت أفكار الديمقراطية الاجتماعية والسياسية، التي انعكست في تشريعات الجمهورية الثالثة، باسم اليسار. وكانت هذه الجمهورية بمثابة انتصار لليسار في فرنسا. وفي ظلها تم تطبيق مبدأ السيادة الشعبية، عندما كان يحكم البلاد ممثلون منتخبون من قبل الشعب، ونظام إعادة التوزيع الاجتماعي بروح فكرة التضامن، والتي بموجبها يجب أن يتقاسم الأغنياء مع الفقراء، وانتشرت هذه القاعدة على نطاق واسع، وارتفعت هذه القاعدة إلى مرتبة قانون في البلاد.
بعد أن تم القضاء على هذه الانجازات خلال الحرب العالمية الثانية، تم إحياء المكاسب الاجتماعية في سنوات ما بعد الحرب مباشرة، في ظل الجمهورية الرابعة. بمعنى آخر، استمر النظام الاجتماعي الذي تم إنشاؤه بفضل جهود اليسار لمدة قرنين تقريبًا. وفي الوقت نفسه، أنشأت البلاد بقوة فكرة أنه من الضروري تحقيق تغييرات في المجتمع من خلال تنفيذ الأفكار الثورية، التي يجب أولا أن تغزو المجتمع ثم تتجسد في التشريعات. واعتبرت أحزاب اليسار المحرك للتحولات الاجتماعية التقدمية. فتاريخ اليسار إذن هو تاريخ «حزب الحركة» الذي قدم أفكارا جديدة للمجتمع.
كان اليسار يمثل طريقة تفكير محددة تهدف إلى تغيير النظام القائم ويمثل اتجاها سياسيا كبيرا. لقد وقف في صلب أهم المناقشات الاجتماعية ، معتمدا على تجربة تاريخية غنية. خلف ممثلي كل حركة سياسية يسارية كان هناك أيديولوجيون ومثقفون. على سبيل المثال الاشتراكيين في السبعينيات والثمانينيات، فميتران كان يمثل نوعا من التقليد اليعقوبي في الحزب، وكان منافسه م. روكار يمثل تقليدا جديدا- تقليد اليعاقبة الجدد. ومن حولهم، اندلعت نقاشات كبيرة، تم خلالها طرح حلول للمشاكل الأكثر الحاحًا حول كيفية تغيير نمط الحياة. وهذا فقط إذا كنا نتحدث عن الاشتراكيين وحدهم، ولكن كانت هناك أيضًا مناقشات بين الشيوعيين والاشتراكيين. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك دائمًا يساريون آخرون يشاركون في المناقشات حول تغيير أوجه الحياة الفرنسية. أراد الجميع من اليسار تغيير أنماط الحياة هذه. كان من المألوف عمومًا أن تكون يساريًا. لقد تم اعتبارهم المدافعين الأكثر تقدمية، والقوى الأكثر موثوقية في الدفاع عن الحقوق والامتيازات الاجتماعية. ويعتبر ف.فوريه F. Furet، على سبيل المثال، أبرز الدعاة للأفكار اليسارية. وكانت هناك أيضًا فترة كان فيها اليسار يعود في سجالاته النظرية في القرن التاسع عشر إلى أسلافه التاريخيين. على سبيل المثال، أعادوا إحياء أفكار ج. فيري J. Ferri و يلجأون إلى ل.بورجوا L. Bourgeois في فكرته عن التضامن الاجتماعي. الآن لا يوجد شيء مشابه سواء عند اليسار أو عند اليمين. حتى إن بعض نيقولاي ساركوزي لا يتذكرون أبعاد الديغولية على الإطلاق، فهم كانوا بعيدين عن أي ارتباط بالتقاليد الديغولية.
بعد سقوط الأنظمة الشيوعية في وسط وشرق أوروبا في الثمانينيات من القرن الماضي، تسارعت عملية ضعف تأثير الحزب الشيوعي الفرنسي على الجناح اليساري المتطرف في الطيف السياسي الفرنسي. ومع ذلك، في التسعينيات من القرن نفسه، بدأ يتبلور تدريجياً تيار آخر من اليسار المتطرف، يستخدم مفهوم مناهضة العولمة كأساس لتحديد هويته السياسية. بالطبع، هذا المفهوم في حد ذاته غير متجانس، لكن مؤيديه الحاليين يربطون دائمًا مناهضة العولمة بنقد الرأسمالية، التي يسمونها “النيوليبرالية”. ظهور مناهضة العولمة دحض تنبؤات المحللين الذين اعتقدوا أنه بعد انهيار معظم الأنظمة الشيوعية، قد حلت “نهاية التاريخ” (باستخدام تعبير فوكوياما) أو، بعبارة أخرى، الانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية. ومن دون أن يكونوا من الموالين الكبار للأنظمة السياسية الجماعية، يرفض مناهضو العولمة من جميع الاتجاهات اقتصاد السوق وينصتون بعناية إلى العقائد التي تنتقد الديمقراطية الليبرالية بطريقة أو بأخرى.
نتيجة لهذه الظروف، وجدت الديمقراطية الاجتماعية في فرنسا نفسها في وضع صعب. بالطبع، شهدت الثمانينيات، نوعًا من “باد غوديسبيرغ” – وهو المكان الذي عُقد فيه المؤتمر الشهير للديمقراطية الاجتماعية الألمانية في عام 1959، والذي منذ ذلك الحين توقفت عن اللجوء إلى الماركسية وقبلت بعالم يتحكم به اقتصاد السوق. مر الاشتراكيون الفرنسيون بنفس التحول بعد ثلاثين سنة. ولكن، أولاً، لم يقوموا بإعلانات برامجية واضحة حول هذا الموضوع، وثانياً، فإن نشطاء الحزب الاشتراكي العاديون، أو على الأقل جزء منهم، لم يتخذوا في الواقع منعطفا جديدا. لذلك، بالنسبة لهذه القوة السياسية القوية، مثل الاشتراكيين، تبين أنها مصدر ضعف مزدوج. وجد الحزب نفسه منقسمًا حول القضية الأهم في القرن الحادي والعشرين – حول اقتصاد السوق، على الرغم من أنه، كما يبدو، قد اعترف به رسميًا. من جهة أخرى، بسبب هذا الاعتراف، أصبح عرضة للنقد من قبل القوى اليسارية الأخرى. بمعنى آخر، إذا عدنا إلى الصياغة الحرفية للسؤال حول الوضع الحالي لليسار الفرنسي، يمكن القول فإن هذا اليسار يعاني من المعايير المزدوجة. تاريخياً، انتصرت الديمقراطية الاجتماعية في الصراع التنافسي مع النسخة الفرنسية من الشيوعية وأصبحت الحزب اليساري الرئيسي، لكنها لم تتغلب بعد على تردداتها التكتيكية، وإذا نظرنا بعمق، يمكننا أن نرى مدى اهتزاز هويتها من الناحية الأيديولوجية. وبالتالي، الديمقراطية الاجتماعية الفرنسية هي قوة سياسية كبيرة تعاني من ضعف هيكلها الداخلي.
ومع قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ظهرت القطيعة مع أفكار الماضي. منذ ذلك الوقت، بدا للمجتمع أن الحركة والمبادرة من المرجح أن تأتي من اليمين أكثر من اليسار. تمكن الجنرال ديغول من تحويل “الثلاثين عاما المجيدة”، كما تسمى سنوات النمو الاقتصادي في البلاد بعد الحرب، وتنفيذ التحديث ببراعة في جميع المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. بمعنى آخر، حدثت ثورة في الحياة اليومية للفرنسيين. انتقد اليسار في ذلك الوقت أنشطة الجمهورية الخامسة، لكنهم بانتقاداتهم لها اقترحوا نموذجًا اجتماعيًا لم يكن لدى أحد فكرة عنه حقًا. ونتيجة لذلك، فمنذ عام 1958 وحتى وصول ميتران إلى السلطة في عام 1981، كان اليسار يعيش في فراغ. لقد أدانوا الجمهورية الخامسة، التي كان عليهم الدفاع عن أنفسهم في خلالها، طوال الوقت. كان اليسار يعيش أزمة حقيقية: فقد اقترح مجتمعاً تختفي فيه الرأسمالية، ويعاد توزيع الثروة فيه بالتساوي، وتؤمم الشركات، وما إلى ذلك، لكن كل مشاريعهم فشلت في عهد ديغول، الذي فاز في جميع الانتخابات، وأيضاً في عصر بومبيدو J. Pompidou وفاليري جيسكار ديستان V. Giscard d’Estaing. رغم أن دور اليسار خلال الرئاستين الأخيرتين لم يكن ضئيلاً على الإطلاق. لقد تقبل الجمهور إلى حد ما انتقادات اليسار للجمهورية الخامسة، واستمع إليها، واستعار أحيانًا بعض أفكاره من أجل الحصول على إصلاحات اجتماعية معينة من الحكومات اليمينية، لكن دون أن يفكروا في دعم أي تغييرات بروح الاشتراكية المقترحة من قبل اليسار.
ووجد الحزب الشيوعي نفسه في أصعب موقف. كان نفوذه بين العمال لا يزال كبيراً إلى حد ما، لكن كان يُنظر إليه على أنه يعتمد بالكامل على الاتحاد السوفياتي. أما الصور التي وصفها الشيوعيون الفرنسيون عن “الجنة السوفيتية”، فقد أصبحت تثير ثقة أقل فأقل في فرنسا. نتيجة لذلك، بالرغم من أن الحزب الشيوعي احتفظ بتأثيره على جزء من السكان، إلا أنه كان مخيفًا لمعظم الفرنسيين، وبالتالي كقوة سياسية كان يعيش حالة من العزلة.
حاول الاشتراكيون، الذين توحدوا قبل عام 1969 في صفوف الحزب الاشتراكي الموحد (فرنسا) ثم الحزب الاشتراكي الفرنسي، أن ينأوا بأنفسهم عن الشيوعيين والابتعاد عنهم وإعادة النظر في آرائهم، معلنين أنهم يدعمون مجتمعًا لا طبقيًا بروح ماركسية، من أجل الاشتراكية، ولكن بطريقة مختلفة عن النموذج البيروقراطي السوفيتي. إلى جانب الشيوعيين والاشتراكيين، كان هناك أيضًا الليبراليون اليساريون، مثل حزب الراديكاليين اليساريين، الذين كانوا بعيدين عن الماركسية، ولكنهم دعوا إلى إصلاحات ذات طابع تقدمي.
وهكذا كان اليسار ككل في حالة انقسام وتنافس متبادل. يبدو أنه محكوم عليهم بالمعارضة الأبدية. حتى عام 1981، صوتت أغلبية الشعب الفرنسي لصالح اليمين، وبدا أن اليسار على وشك الاختفاء تماما. وهكذا، في عام 1969، حصل المرشح الرئاسي الاشتراكي جي ديفر، المدعوم من الراديكالي ب. مينديز فرانس، على ما لا يزيد عن 5 % من الأصوات، في حين حصل المرشح الشيوعي على 20%. وهكذا، بقي الحزب الشيوعي حتى عام 1981 كنوع من “اليسار الاحتياطي .في فرنسا.
بدأ وضع اليساريين في التغير بعد أن تولى فرانسوا ميتران قيادة الحزب الاشتراكي الفرنسي في عام 1971. وعلى الرغم من أن ميتران لم يكن في الأصل لا يساريًا ولا ماركسيًا، إلا أنه اقترح على الاشتراكيين برنامج “الانفصال عن الرأسمالية”، الذي كان يتضمن التأميم. من هذه الزاوية، نفخ حياة جديدة في الحزب المتحلل. وكان يعتزم إنهاء التنافس مع الشيوعيين وتجاوزهم في عدد الأصوات في الانتخابات.
كانت الحملة البرلمانية لعام 1978 تعد بالفعل بانتصار القوى اليسارية، لكن زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي جورج مارشيه، عندما رأى أن الاشتراكيين يتقدمون على الشيوعيين، رفض مواصلة التقارب مع الحزب الاشتراكي الفرنسي. وقد ابتعد الشيوعيون بشكل حاد عن الاشتراكيين، مما أدى في النهاية إلى انتصار اليمين.
في عام 1981، بعد أن تراجع نفوذهم بشكل كبير، تحالف الشيوعيون أنفسهم مع الاشتراكيين، وفازت الجبهة اليسارية المتحدة بالانتخابات. كان هذا أول انتصار في تاريخ الجمهورية الخامسة للقوى اليسارية التي جاءت إلى السلطة ببرنامج للتغيير في المجتمع. ومع ذلك، كان هذا الانتصار يحمل في طياته خطرًا على اليساريين. كان خطرًا لأنه على الرغم من أن ميتران فاز بفضل الأغلبية التي دعمت الانفصال عن الرأسمالية، وعلى الرغم من أنه بحل الجمعية الوطنية في وقت مبكر، ضمن دعم مجلس النواب لمبادراته، إلا أن مجلس الشيوخ بقي معاديًا للحكومة اليسارية ومنذ البداية أعاق تنفيذ برنامج ميتران. لم يكن مجلس الشيوخ في حد ذاته عقبة لا يمكن التغلب عليها، ولكن إلى جانبه، عارض المجلس الدستوري إصلاحات الحكومة اليسارية. ولم يكن الرئيس يرغب في الدخول في مواجهة في البلاد بسبب الإصلاحات التي يجريها.
في النهاية، بحلول عام 1981، تسببت نتائج سياسات الحكومة اليسارية في خيبة أمل لدى جزء كبير من الفرنسيين، وهي خيبة أمل ازدادت مع مرور الوقت. كان هناك سببان رئيسيان لذلك. أولاً، بدأ ميتران إصلاحاته في ظل الأزمة الاقتصادية لعام 1980، عندما بدأت الدول المتقدمة الأخرى في تنفيذ سياسات الليبرالية الكلاسيكية الجديدة. سارت فرنسا في اتجاه معاكس للمسار العام للاقتصاد العالمي، بينما كانت في الوقت نفسه مرتبطة به بشدة وتعتمد عليه. كل هذا أدى إلى أزمة مالية في البلاد وانخفاض قيمة الفرنك ثلاث مرات. ثانيًا، كان الاشتراكيون، بعد 23 عامًا في المعارضة، قد وضعوا قائمة كاملة بالإصلاحات الضرورية من وجهة نظرهم للمجتمع الفرنسي، ولكن عندما بدأوا في تنفيذ وعودهم – التأميم، إصلاح التعليم وغير ذلك – تبين أن الإصلاحات تمس مصالح جزء كبير من المجتمع، مما أدى إلى ظهور معارضين. سرعان ما ظهرت معارضة لسياسات ميتران من اليمين، الذين كانوا قد بدوا منهزمين تمامًا في انتخابات عام 1981. بالإضافة إلى ذلك، كانت فرنسا مهددة بالخروج من الاتحاد الأوروبي إذا استمرت في الإصلاحات، حيث اتجهت دول الاتحاد الأخرى نحو تحرير الاقتصاد. ونتيجة لذلك، وبعد تفكير جدي، فضل ميتران في عام 1983 البقاء في أوروبا، وأوقف الإصلاحات التي بدأها وانضم إلى المسار الاقتصادي الأوروبي العام.
هذا القرار كان يعني أن الاشتراكيين تخلوا عن برنامجهم الذي كانوا يرعونه لعقود، ووافقوا على أن الاقتصاد لا يمكن إدارته بدون السوق. كما أثار هذا القرار تساؤلات حول الهوية الاشتراكية التي تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر. منذ هذه اللحظة، دخل اليسار الفرنسي في مرحلة من الأزمة البطيئة. تخلت القوى اليسارية عن مشاريعها السابقة لإعادة هيكلة المجتمع لصالح الاعتراف بأن اقتصاد السوق هو الخيار الوحيد الممكن. الآن، تبدو الإصلاحات بالنسبة لهم مجرد عملية سن القوانين المناسبة. لفترة طويلة، رفض الاشتراكيون، على الأقل بالكلام، الاعتراف بأنهم تحولوا إلى حزب إصلاحي نموذجي، ولكن في أحد الوثائق البرامجية، أعلنوا ذلك صراحة. في الواقع، في عام 1984، عندما كان لوران فابيوس رئيسًا للوزراء، ثم في عام 1988، عندما أصبح ميشيل روكار رئيسًا للوزراء، وأخيرًا في عام 1997، عندما كان ليونيل جوسبان رئيسًا للوزراء، كان الاشتراكيون ينفذون سياسة اجتماعية لم تخرج عن إطار اقتصاد السوق الليبرالي. رأى اليساريون المتطرفون – الشيوعيون والتروتسكيون أن هذه السياسة لا تختلف بشيء عن سياسة اليمين. علاوة على ذلك، إذا كان اليسار لا يزال بإمكانه انتقاد جاك شيراك بسبب الجمود، فإن نيقولا ساركوزي الذي خلفه يمثل الديناميكية، وتبدو أكبر الأحزاب اليسارية – الاشتراكية – متخلفة عن الحركة التي بدأها.
اليساريون الحاليون لا يعودون إلى ماضيهم أو إلى جذورهم التاريخية. لا سيغولين رويال ولا التروتسكي أوليفييه بيزانسونو. لا يُذكر في برنامج أي منهما تاريخ أحزابهم. حتى مارتين أوبري، التي يمكن أن تُجسد إلى حد ما التقليد التاريخي كونها ابنة الاشتراكي المعروف جاك ديلور وممثلة إقليم باد كاليه، الذي يعد تقليديًا معقل الحزب الاشتراكي، لا تذكر في خطاباتها تاريخ الاشتراكيين. ولا يقف أي من المثقفين اليساريين خلف أي من قادة اليسار الحاليين.
المفارقة في أيامنا هي أن جميع اليساريين يتحدون في شيء واحد – لا أحد منهم لديه برنامج لتحديث المجتمع. على نحو متناقض، يكافحون ضد الحكومة الحالية، ويظهرون كالمحافظين لأنهم يعارضون أي تجديد، ويدعون للحفاظ على المكاسب الاجتماعية القديمة وسياسة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، دون تقديم أي شيء جديد. إلى حد ما، بدون الحزب الشيوعي القوي، الذي كان غالبًا ما يقف عند بداية النقاشات واسعة النطاق، أصبح الوضع الآن مملًا – هناك افتقار واضح لنشاطه السابق.
بطبيعة الحال، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن تصرفات اليساريين الآن تحددها، أولاً وقبل كل شيء، دورة الانتخابات البرلمانية والرئاسية. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت فترة الرئاسة خمس سنوات، وتأتي الانتخابات البرلمانية مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية. في ظل هذه الظروف، من الطبيعي أن يفكر السياسيون فقط في الانتخابات، وبمجرد انتهاء حملة انتخابية يبدأون في التحضير للأخرى. لا يفكرون في برامج التحديث أو التقاليد التاريخية. كثير من أولئك الذين لا يزالون يصوتون لليسار يفعلون ذلك فقط لأن هذه هي تقاليد أسرهم، ولأن الانتماء لليسار لا يزال يبدو أكثر عصرية، وأيضًا لأن الصورة النمطية التي تقول بأن اليساريين أكثر انفتاحًا وأكثر حركة لا تزال حية، رغم أنها في الواقع أصبحت مجرد خرافة. ربما يقوم بعضهم بنوع من الإيماءات والتوجهات نحو التقليد التاريخي ، ولكن داخل الحزب الاشتراكي نفسه هناك تناقضات. في فرنسا، كان يُنظر إلى القادة السياسيين مثل ديغول، وبومبيدو، وجيسكار ديستان، وميتران، إلى حد ما، شيراك، كمثقفين. الآن اختفت الفكرة القائلة بأن تصبح قائدًا سياسيًا قويًا يتطلب أن تكون مثقفًا قويًا. ولم يعد يظهر المزيد من المثقفين اليساريين الكبار. الكثير منهم ماتوا، ومن تبقى هم من الجيل القديم.
المؤرخ ليس مستشارًا سياسيًا، وبالأحرى ليس نبيًا. لا تدخل في اختصاصه، على الأقل من الناحية المهنية، تشخيص أو استشراف المستقبل. ومع ذلك، بما أنه يعتبر الآن مقبولاً عمومًا أنه يمكنه دراسة التاريخ الحديث جدًا، الذي يسمى في فرنسا تاريخ الحاضر، ويمكنه استخلاص استنتاجات من مراقبة الأحداث الجارية، وبذا يمكن القول إن الثقافات السياسية، التي تعرف بها التوجهات السياسية المختلفة، تشبه الكائن الحي. فهي تنشأ وتتطور في سياق تاريخي محدد وتستجيب لمتطلبات البيئة. وهكذا، يجب على اليسار، كما اليمين، البحث باستمرار عن إجابات للأسئلة التي تطرحها الحياة الاجتماعية، التي تغيرت بدورها بشكل كبير. في نهاية المطاف، سيتبع الفرنسيون القوى السياسية، سواء كانت يسارية أو يمينية، التي ستتمكن بنجاح من تضمين تحليل هذه التغييرات الكبيرة في “قاعدة بياناتها”. يبقى الحزب الاشتراكي بالتأكيد القوة الرئيسية في اليسار. قوة أو ضعف هذا الحزب الانتخابي تعتمد على قدرته على فهم الحاضر وتجسيد المستقبل. وهذه القدرة تعتمد على مهارته (أو عدمها) في تحديد موقفه الأيديولوجي بالنسبة للتغيرات في المجتمع التي لم تغير فرنسا بشكل عميق خلال الثلاثين عامًا الماضية فحسب، بل وأيضًا أثارت فيها، كما في جميع البلدان المتقدمة اقتصاديًا، أزمة عميقة.
على هذا لم يتمكن الحزب الاشتراكي الفرنسي من تقديم مشروع اجتماعي كبير للقرن الحادي والعشرين ويعاني من انشغال قادته بتصفية حسابات شخصية بينهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن ممثلي الجيل الجديد منه، مقتنعون تمامًا بأن القيم الاشتراكية القديمة عفا عليها الزمن. إنهم يكتفون بالإعلان بأن الحكومة يجب أن تدير السياسة الاجتماعية في ظل السوق الليبرالية، متجنبين مظاهرها المتطرفة – وهي نسخة خاصة من الراديكالية في القرن الحادي والعشرين.
الحزب الجديد المناهض للرأسمالية، الذي يمثل النسخة الجديدة من التروتسكية، يحقق نجاحًا بفضل طبيعته الغريبة فقط. واستطلاعات الرأي العام تشير إلى أن من يصوت لحزب ما هم الأشخاص الذين خاب أملهم في جميع الأحزاب الأخرى، لكنهم لا يحلمون بتولي متطرفين سياسيين يمينيين أو يساريين للسلطة. هناك يساريون غير راضين عن فقدان الحزب الاشتراكي الفرنسي لهويته الاشتراكية. ومع ذلك، فإن كل هؤلاء الناقمين لا ينوون اللجوء إلى العنف ويفضلون التعبير عن مشاعرهم في صناديق الاقتراع.