رحل المسرحي الداسوكين.. وماذا بعد؟
نجيب طلال
لا خيار: فرغم وجودنا في خانة استراحة محارب، انفلت الشغب من قبضتي ومن الأنا الأعلى التي تتحكم في تصرفاتي ونعراتي ليقول قريني: كل نفس ذائقة الموت، ولكن حينما يخلف الراحل أثرا طيبا، وأفعالا لها قيمتها، فلا بد من الخلف استثمارها وتوظيفها وخاصة في مجال ما تركه، ليس ركوبا عليها أو استغلالها للمقايضة المادية، نحو المناطق المشبوهة بالعطاء! بل لخلق إشعاع وتمرير أفكار وطروحات والاحتفاظ عليها كوثيقة، في سياق ما يناسب ذاك الإرث. فلنحدد الرؤيا هاهنا، فكثير من المبدعين والفنانين في المغرب يصل أجلهم ويرحلون في صمت مدهش ومريب! والبعض ينال نعيا فوريا! أغلبه رياء ونفاق، والذي زاد في كشف هـذا وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة الفايس بوك، ولنرى أقرب مثال لحظة رحيل الفنان الكوميدي مصطفى الداسوكين نفس التدوينات والمفردات التي انصبت عمن سبقه، وبالتالي فالذي يثيرني باستمرار: أننا نتكلم ونخطب ونكتب عن المسرح شرقه وغربه، وعن شخصيات: كهاملت/ فاوست/ هام/ أنتيكون/ سكابان/أبو حيان التوحيدي/ جحـا/شهريار/ دنيا زاد/عطيل/ طارتوف/… من خلال الأعمال التي أخرجت تلك الشخصيات للوجود، بدل الإهتمام بالممثل المغربي الذي تقمصها (افتراضا) في أبحاثنا ودراساتنا وندواتنا ونقاشاتنا… ذاك الممثل الذي جسد عدة أدوار وتقمص عدة شخصيات عبر مسيرته الفنية، فلولا “الممثل” بجهوده وطاقاته لما تم إنجاز عمل مسرحي (ما) ولهذا حينما قرأنا في عدة تدوينات بأن الراحل مصطفى الداسوكينهرم الكوميديا المغربية، فلما لا يتم ترجمة تلك الصفة في دراسات نقدية /تحليلية عن الأدوار والشخصيات التي تقمصها وقدمها ضمن الفرقة التي تضم ممثلين يتفاعلون ويكملون بعضهم بعض.
هنا يمكن أن أشير (مثلا) بأن الراحل (محمد بلقاس) هرم من أهرام الكوميديا في المغرب؟ أو الطيب الصديقي أفضل كوميدي، لأن جل أعماله فيها نكهـة كوميدية، تنبع منه [شخصيا]! لكن على أي مرتكز نقدي/ تفكيكي، يمكن أستند عليه؟ فحتى الذين كتبوا سلفا عن رائعة “سيدي قدور العلمي” لم يخصصوا حيزا أوعدة أسطر (ل) بلقاس أو عبد الجبار الوزير أو أحمد الشحيمة أو عبد الهادي لتيم… لهذا فواقع الكتابة النقدية خالية من تقديم نماذج لممثلين أغنوا الساحة الفنية. وهنا من الصعب سرد حتى ولو بعض الأسماء كما هو الحال في المسار الإبداعي الأوربي، وبالتالي فالأعمال التي قدمها الراحل مصطفى الداسوكين سواء مع فرقة البدوي أو مسرح الشعب، لا وجود لصفحة تحليلية حولها؟ وهذا لم ننتبه إليه، لكي يطرح السؤال الجوهري؟ أين دعاة النقد؟ فهل هؤلاء لايستحقون المتابعة العلمية / الرصينة، وليست المتابعة الصحفية، الحاملة للأخبار فقط، أليس هناك ما يسمى (نقاد) محشورين في النقابات الفنية للاحتراف، فما دورهم؟ فهل ماقدمه الداسوكين من أعمال مسرحية بلغت لرقم [21] تـندرج في المسرح التهريجي أم التجاري أم الاسترزاقي أم الاحترافي أم الهاوي…؟
أساسا فالمسرح في المغرب، من الصعب تصنيفه، كما هو الشأن في أوروبا ومصر (تحديدا) وهذا موضوع يحتاج لنقاشات، رغم أن النقاش: بكل أسف وحسرة، انعدم وانعدمت روحه التطوعية، وحضور الإرادة الفكرية، والروح الرياضية التنافسية… وهذا تحول بدوره يحتاج لما يحتاج، وبالتالي رحل الفنان الداسوكين، وماذا بعد؟ سينسى كالبقية التي رحلت! فلماذا لا يتم توثيق تجربته الفنية عبر أبحاث ودراسات، لأنه وبكل مسؤولية، فنان كوميدي لم يمارس الابتذال في الأعمال التي ساهم فيها، والذي يمكن أن يتلمسه من سيقدم على تحليل بعض أدواره، بأن له قناعات إيديولوجية، تبرزمن خلال تفاعلاته الحركية والإشارية، هذا إذا وضعنا مسرحية [الكاري حنكو] التي تعري عـن واقع التعليم الخصوصي، وعن كيفية إدارته، فمن خلال تقمصه لشخصية (المدير) والذي كان بطـــلا فيه بـكل المقاييس. فحركات رجليه، وخاصة الرجل اليسرى: تدل وتشير سيميائيا عن رفضه لهذا الواقع الذي يفرض عليه، أن يخضع لمنطق البرجوازيين؟ هذا إذا ما ربطنا تشخيصه في مسرحية [المدير الجديد] فالانقلاب الذي وقع لشخصيته من “مدير متسلط” إلى “مدير متملق” قمة التحول البيوميكاني الذي وقع في جسد الممثل (الداسوكين) هذا يتجلى أن الممارسة المسرحية جزء لا يتجزأ من كينونته، فرغم أن الجمهور يضحك ويتجاوب مع أدواره، مثل مسرحية [القضية فيه إنَّ] التي كان فيها منولوجيا أكثر، وخاصة حينما زار طبيب الأسنان، ففكرة وضع آلة (الصنجات) بين فخذيه، بحق إبداع، واستطاع أن يخلق الموقف الكوميدي، قبل العزف عليها رفقة مطربين “هبال”: فهل كانت من وحيه أم من وحي الإخراج؟ بكل تأكيد أنها من اختراعه، لأن الملاحظ في كل أدواره، يُضخك ولا يضحك، مما يظهر أنه ممثل موهوب ومتفرد، مما يتبين لي بأن حضور الإخراج عنده في التموقعات وضبط المسافات، أما إلقاؤه الكوميدي هو صانعه، وحركاته الكلية، من بنائه الداخلي للشخصية – الورقية -التي تقمصها وليست شخصيته الحقيقية. أي كثيرا ما يوظف يديه معا، وعموده الفقري في الانحناء وصلابة الوقوف (نسيب الوزير) لكن في مسرحية (الشماكرية) كان شخصية أخرى، مارس التقمص والابتعاد عن الشخصية، وهذا مما يؤكد بأن الإخراج يتحكم في تموقعاته فقط، لكن نبرة الحزن كانت تظهر على عينيه، وتلك النبرة إيذانا لرفض واقع الشماكرية.
وهنا من الصعب وفي غمرة استراحة محارب، أن نتوسع في الموضوع بالشكل المطلوب، ولكن هاته إشارة لكل من يكتب ويناقش المسرح، أن نحول بوصلة تفكيرنا نحو الممثل المغربي، كفاعل وطاقة، فلولاه لما كان المؤلف، ولولاه لما كان الإخراج ، ولولا الراحل مصطفى الداسوكين، الذي كان ينتزع من الابتسامة والضحك بكل تلقائية ودونما تكلف، فكل الأدوار التي قدمها كان سيد نفسها، وأروع ما يمكن أن يشاهد مسرحية (نص عقل) لنفهم البعد الإيديولوجي الذي يتحكم فيه، وبالإمكان ربطه بعمله الأصلي مصلحة (البريد) في فترة الستينات من القرن الماضي.