حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي- محمد عابد الجابري (6-6)
سعيد بوخليط
القضية الفلسطينية
يستعيد حسن حنفي المعطيات التاريخية التي توضِّح بأنَّ اليهود عاشوا، أكثر فتراتهم ازدهارا وطمأنينة وحيوية،خلال حقبتين:
الأولى، بجانب المسلمين في الأندلس داخل قرطبة، غرناطة، طليطلة، وعرفت الفلسفة اليهودية أوج عطائها مع موسى بن ميمون، سعيد بن يوسف الفيومي، إسحاق الإسرائيلي، القس داود بن مروان، باهيا بن يوسف بن باقودة، ابن صادق القرطبي، يهودا هاليفي، إبراهيم بن داود هاليفي، إبراهيم بن عزرا. تميزت الحقبة بتقارب كبير بين الثقافة اليهودية والإسلامية على مستوى مجالات الشعر، اللغة، العقيدة، الفلسفة، الطب، التفسير، التصوف، الفلك.استمر هذا الوضع، غاية سقوط الحكم الإسلامي، الذي كانت من تداعياته الأساسية مكابدة اليهود والمسلمين للاضطهاد تحت سلطة محاكم التفتيش.
الثانية،تحيل على عصر التنوير في فرنسا، وقد تعايش اليهود و الأوروبين معا دون حساسية عنصرية أو تقوقع هوياتي، وحظي التراث اليهودي برمزيته الروحية يحمي كيانهم الثقافي والفكري من دواعي الإقصاء والانعزال. يقول حسن حنفي: “اليهود ثقافة عقلانية أخلاقية شاملة لافرق بينها وبين أي دين أو ثقافة أخرى تشارك في مبادئ التنوير العامة. واليهود مواطنون مثل غيرهم، متساوون في الحقيقة والواجبات. اليهودية إيمان بالله، وبالعناية الإلهية، وبخلود الروح. وهي بذلك تشارك الديانات الأخرى في العقائد دون تخصيص أو تمييز اجتماعي لطائفة على غيرها” (ص 119).
عندما نجحت الثورة الفرنسية، أعلنت سنة 1789 مبادئ وحقوق الإنسان في فرنسا من خلال شعار: ”يولد الناس ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق”. نتيجة ذلك، تمتَّع اليهود بالجنسية الفرنسية وكذا مختلف الحقوق المدنية، بعد قرار اتخذه المجلس الوطني الفرنسي، امتد تأثيره صوب بلدان أوروبية أخرى كألمانيا، هولندا، إيطاليا، سويسرا، النمسا، المجر، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية. أيضا، بادر نابليون سنة 1806، إلى إلغاء مختلف الأحكام الخاصة بالطائفة اليهودية وتنظيم حياتهم الاقتصادية والنظر إليهم باعتبارهم مواطنين فرنسيين يملكون نفس الحقوق. لكن بعد تراجع المدِّ التنويري، وظهور القوميات خلال القرن التاسع عشر، رفض اليهود الانتماء إلى أيِّ قومية أخرى غير قوميتهم الخاصة وبالتالي الانعزال بعيدا داخل الغيتو، فبدأت تتشكَّل أولى ملامح الصهيونية: ”بعد مآسي النازية ووقوع الأخوة اليهود تحت أبشع اضطهاد عرفه التاريخ، وكرد فعل على حياة الجيتو وانعزال الطوائف اليهودية عن الأوطان التي يعيشون بها، هل تحقق قومية يهودية في دولة يهودية يحل المأساة؟ وهل يمكن حل مأساة الشعب اليهودي بخلق مأساة أخرى، مأساة الشعب الفلسطيني؟ إن السؤال مطروح الآن، كما كان مطروحا دائما. ولكن الإجابة أيضا موجودة في التاريخ ليس كحلم طوباوي يستحيل التحقيق بل كنظم سياسية واجتماعية عاشها اليهود مرتين، في إسبانيا مع المسلمين وفي الثورة الفرنسية مع قوانين نابليون” (ص 121).
صارت الروح القومية التي سكنت وجدان اليهود منذ القرن الماضي، المترسِّخة بكيفية شمولية، تناوئ مبدئيا تطلُّع الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي تصوَّر أرضا فلسطينية حرَّة وديمقراطية يتعايش داخلها الجميع دون استحضار قط للهوية الدينية أو العِرقية ومختلف النزعات التي تدخل في هذا النطاق، مثلما تحقَّق الوضع مع النموذج الأندلسي وكذا خلال سياق مكاسب الثورة الفرنسية: ”هل يمكن للدولتين أن يتجاورا وبينهما كل هذا التاريخ المشترك؟إن اتحادا كونفدراليا عاما للعالم العربي كله مشرقا ومغربا يحقق لكل الدول في المنطقة أكبر قدر ممكن من التنسيق وتبادل المصالح… لنبدأ بدولتين، ثم باتحاد كونفدرالي عام تعيش فيه شعوب المنطقة ودولها متساوية في الحقوق والواجبات، ثم بخلق أمة واحدة تتكون من عدة أمم متساوية فيما بينها كما كان ”ميثاق المدينة” من قبل، هويتها في مبادئها، وقوانينها في مساواتها’ ‘(ص 121 -122 ).
مدخل هذا السبيل، ضرورة تخلُّص سواء اليهودي والعربي من سطوة كل تحديد مكاني للجغرافية، أو قومي للهوية موروث عن عصر القوميات.
طيلة فقرات وصفحات هذا الحوار، بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري،الذي تطرَّق كما تقاسمت مع القارئ أبرز مضامينه على امتداد الحلقات السالفة، وقد استعادت عناوين نقاش قارب من باب التذكير الأطروحات التالية :
معاني الحوار بين المشرق والمغرب، الأصولية، العلمانية، الوحدة العربية، الليبرالية، الحداثة والتقليد، الناصرية، العرب والثورة الفرنسية.
أقول ظلَّ الرجلان متفقان بشكل عام حول تضمينات تأويل موقفهما، ولم يتجل أيّ تباين واضح بينهما سوى شكليا بخصوص جزئيات معينة، إلى درجة أنَّ حسن حنفي نفسه إبان وقفة تأملية تقييمية لمسار حواره مع عابد الجابري، استعمل وصف ”الحوار البارد”، يقول: ”وأسأل نفسي لماذا كان حوارنا باردا كما لاحظ عديد من القراء؟ لماذا اتفقنا أكثر مما اختلفنا ونحن في العالم العربي تعودنا أن يكون الخلاف أكثر من الاتفاق إن كان هناك اتفاق على الإطلاق؟ لماذا تجاورنا أكثر مما تصادمنا، لماذا أعطى كل منا ظهره للآخر، أحيانا بدلا من أن يواجه كل منا الآخر، ونحن لاتعوزنا المواجهة؟ هل لأننا كنا في غاية التحضر، نعطي جيلنا نموذجا فريدا لأدبيات الحوار؟ هل لأن كلا منا يقدر الآخر حق قدره مما جعلنا أشبه بنجمين ساطعين يهديان الناس في ظلمة الليل؟ أنا أعلم أنك لاتحب ضرب الأمثال. ولكن أرجو أن يعذر المغربي العقلاني أخاه المشرقي الصوفي الذي مازال يرى في الصورة الفنية قدرة على التعبير والإيصال خاصة في حديث عام للناس” (ص 94 ).
لكن حين بلوغ هذه الحلقة الأخيرة، المخصَّصة للقضية الفلسطينية، وتعقيبا على مداخلة حسن حنفي التي استعرضت وجهة نظره حول هذه الإشكالية التاريخية المعقدة، ستتغير لهجة عابد الجابري نتيجة طبيعة تأويل موقف حسن حنفي، فاتخذت نبرة حادَّة تعكس هيجانا وجدانيا واستفزازا عقليا: ”أما بخصوص هذه الحلقة فإني، لا أقول أجدني مضطرا للاختلاف معك وحسب، بل أقول أيضا أرى من واجبي أن أخالفك ”على طول”. لقد أثار وجداني شكل رسالتك، واستفز عقلي مضمونها، وأبادر فأسألك مخلصا لمن تكتب هذا الكلام الذي كتبت عن ”الحرية” التي نعم بها اليهود في الأندلس زمن ابن ميمون وفي فرنسا على عهد فلاسفة ”التنوير” (ص 124 ).
تتابعت تساؤلات عابد الجابري وفق حِسٍّ استنكاري، نظرا لمكامن الالتباس التاريخية على اعتبار التاريخ ”حمَّال أوجه” بخصوص حيثيات العبارات التي تضمَّنها خطاب حسن حنفي، مثل ”اليهود إخواننا في الدين”، ”اليهودية ثقافة عقلانية أخلاقية شاملة… ”، ”الأخوة اليهود”، بحيث ابتغى عابد الجابري إثارة الانتباه بأنَّ الوقائع التي بنى عليها حسن حنفي منطق استدلالاته، ليست يقينية وغير قابلة للتعميم، ويمكن الإتيان بشواهد أخرى تدحضها، بل اليهود أنفسهم يعلمون جيدا كيف اتسمت وضعيتهم سواء داخل فرنسا أو الأندلس: “ولا أعتقد أن أحدا منهم يأخذ بجد مثل هذا الكلام الذي سطره قلمك بحسن نية، بل أخشى أن يكون من بينهم كثيرون يبتسمون عندما يقرأون هذا النوع من الكلام، ابتسامة لا أريد أن أنعتها بنعت” (ص 125) .
رفض عابد الجابري تماما منطق القياس اللا-تاريخي الذي استند عليه تحليل حسن حنفي، عندما قاس الحاضر والمستقبل على الماضي، معتقدا بإمكانية تحقُّق خلال الزمن الحالي تلك الوضعية التي تقاسمها المسلمون واليهود سواء في الأندلس وكذا زمن الثورة الفرنسية. مبرِّرات هذا الرفض، أنَّ التاريخ لايعيد نفسه، ومقدِّمات الاستدلال غير مسلَّم بها: “ومن يتفق معك على أن حال اليهود كانت ”نعيما” في أندلس الإسلام وفرنسا الثورة. النعيم مكانه داخل النفس و”دخائلها”. وأنت تعرف شأن ”الداخل” و”الدخائل” (ص 125) .
بالعودة إلى سياق زمن الحاضر، يبدو إطار القضية واضحا، أطرافها الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل ثم الدول العربية، من ثمَّة ليس هناك من داع يضيف عابد الجابري، لبعث متاهات التاريخ وحكايات الأجناس والأعراق: ”أقول هذا لأنه من سوء حظي مع رسالتك أنني بينما كنت أتصفحها، عندما وصلتني، كنت فاتحا جهاز الراديو، وإذا بي أسمع تصريحا لوزير خارجية إسرائيل يتحدث فيه عن الصراع العربي الإسرائيلي، وكان مما قاله: إن العنصر الجديد من هذا الصراع هو امتلاك بعض الدول العربية لصواريخ أرض أرض تحمل رؤوسا من القنابل الكيماوية وقد لجأ العرب إلى هذا السلاح عندما تأكدوا بالتجربة من استحالة اختراق مجالنا الجوي، ذلك لأننا نبني استراتجيتنا على جعل قوتنا الجوية قوة ضاربة لايصدها شيء، وبها نكسر شوكة العرب، ونحن سائرون في هذا الاتجاه معتمدين على طائرات ف 15 و ف 16، كما أننا نعمل على تطوير سلاح مضاد للصواريخ العربية. ويضيف وزير خارجية إسرائيل: إننا نفضل الحرب الخاطفة والنصر والسريع ونستعمل الحرب الوقائية وهي حرب صارت مقبولة لأنها وسيلتنا للدفاع عن النفس. ذلك ما التقطته أذناي وأنا أقرأ بعيني رسالتك، فمن منها أصدق؟ أنا لا أكتمك أنني أخذت عبارات وزير خارجية إسرائيل مأخذ الجد. هو شخص مسؤول يقدر مسؤولية الكلمة، ربما أكثر مني ومنك، ربما أكثر ممن هم ”فوق” في بلداننا” (ص 126 ).
تلتجئ إسرائيل إلى ممارسة السياسة بوسائل أخرى عبر شنِّ الحرب، على سوريا أو الأردن أو مصر أو اكتساح الأراضي اللبنانية واحتلالها، وذلك للتمويه عن واقع حصارها من طرف الانتفاضة الفلسطينية (تزامن حديث عابد الجابري مع سياق الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987) وإحراج وحيرة الحكومة الإسرائيلية حيال تداعيات الوضع الجديد، وكذا رفض الرأي العام الداخلي التنازل عن الضفة والقطاع ثم قيام الدولة الفلسطينية، ذلك أنَّ اختلاق الحروب كواجهة لتفعيل السياسة بكيفية أخرى، يشكِّل ملاذا آمنا لقمع الانتفاضة بالسلاح والقتل والنفي وتدمير كل شيء، فقد أشغلت الحكومة الإسرائيلية الرأي العام بجبهات أخرى، كي تستفرد بالفلسطينيين وتصنع بهم ماتريد. إنها، آليات استراتجية السياسة الإسرائيلية.
ما الحل حسب تصور عابد الجابري؟ الأقرب إلى منطق السياسة لدى إسرائيل والبعيدة تماما عن: ”أحلامنا نحن العرب، نحن ”المفكرين الأحرار”… فالتاريخ، أخي حسن، لا تغيره ذكريات الماضي ولا ذاكرته، بل إنما تغيره، حسابات الحاضر وميزان القوى فيه” (ص-127 128). لقد أجاب عن ذلك، منذ البداية بنوعية العبارة التي وضعها لمقاربته: ”لا حلَّ إلاَّ بمزيد من المقاومة”، حتى يبرهن الفلسطينيون لمن يعتبرهم إرهابيين، بأنهم شعب مقاوم يسعى أولا وأخيرا إلى نيل حقوقه. في هذا الإطار، يسرد عابد الجابري الحكاية التالية:
”أنقل هنا فقرات من مقالة كنت كتبتها في ركن ”آفاق” من هذه المجلة بتاريخ17/8 /1987، أي قبل اندلاع الانتفاضة المباركة بثلاثة أشهر ونصف.لقد كان التعليق يدور حول حوار سمعته في إذاعة فرنسا الدولية بين صحفي عربي ووزير خارجية الحكومة الفرنسية. لقد حاول الصحفي العربي، بكل ذكاء الصحفيين، أن يحمل الوزير الفرنسي على وصف المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بأنها مقاومة وليس ”إرهابا” غير أن الوزير الفرنسي امتنع، وتهرب، وتمسك بقوله ”إننا ضد الإرهاب”، وعندما ضيق الصحفي العربي الخناق عليه أجابه ”لاتحاول أن تغير إجابتي، لقد قلت لك إننا ضد أشكال الإرهاب”، كان ذلك قبل الانتفاضة،وعلقت أنا على كلام الوزير الفرنسي قائلا :”لا أكتم القارئ أنني شعرت ساعة استماعي لتصريح الوزير الفرنسي بنوع من المرارة لا أستطيع التعبير عن كنهه وحقيقته، ولكنني أتذكر أنني تمنيت لو كنت مقاوما فلسطينيا في الأراضي المحتلة، إذن لمضيت للقيام بالمزيد من أعمال المقاومة للاحتلال. لقد تراءى لي بكل وضوح- لست أدري كيف- أن المزيد من المقاومة للاحتلال هو الذي يجعل الناس، أقارب وأباعد، خصوما وأعداء، على الارتفاع، في وعيهم بما يسمونه ”الإرهاب” إلى ما نسميه نحن المقاومة” (ص 127) .
_________________________________________________
(1) حسن حنفي/محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990.