حالة الاستثناء في سورية (2-3)
لحسن أوزين
ثالثا: المعتقل فضاء استثناء
المعتقل هو أرقى أشكال العنف السياسي، الذي تمارسه السلطة المطلقة الشمولية، في سعيها الى فرض السيطرة والهيمنة. إنه تعبير جلي على حالة الاستثناء، وتجسيد حي لحالة الطبيعة والحياة العارية للإنسان المستباح، المعرض للقتل في أية لحظة. كما أنه متروك للمنفى مأواه، حيث تم التخلي عنه في الغراء. وهذا ما يجعله هدفا سهلا لسياسة الموت ( تناتوسياسة). حيث ” أي شخص يكون دخل معتقلا يكون دخل منطقة عدم تمييز بين الداخل والخارج، بين الاستثناء والقاعدة، بين المباح والمحظور، حيث مفاهيم الحق الذاتي والحماية القانونية ذاتها لم يعد لها معنى.”[1]
لذلك فإن المعتقل، بوصفه حياة عارية، هو نتيجة حالة الاستثناء التي يقررها الديكتاتور صاحب السيادة. دون أن يكون لسياسة الموت التي يمارسها أي بعد قانوني، ودون أن تكون ثمة جريمة قتل. والأكثر من ذلك فهو يذهب بعيدا في ممارسته السياسية، كطاغية في التقرير في ما يخص الحياة العارية، أي الحياة التي يجدر أن يحياها الناس.
” عندما تنحو الحياة والسياسة الى التماهي وهما المفصولتان والمتمفصلتان بالأصل بينهما بالأرض المقفرة لحالة الاستثناء حيث تقطن الحياة المنبوذة، حينها تصبح الحياة بتمامها منبوذة وتصبح السياسة كلها استثناء.”[2]
مثل هذا الواقع المرعب لحالة الاستثناء والحياة العارية، يُؤسس سياسيا لآليات وأدوات القتل والنفي والاستباحة والدم المهدور…، وضمن هذه الأدوات الجهنمية يبرز المعتقل بوصفه فضاء استثناء يعمل على تأبيد وديمومة حالة الاستثناء، كنظام غريب خارج القانون، يمتح وجوده من تكريس حالة الاستثناء، من خلال قانون الطوارئ والضرورة والأحكام العرفية. ” المعتقل هو الفضاء الذي ينفتح عندما تبدأ حالة الاستثناء في التحول إلى قاعدة. حالة الاستثناء التي كانت بالأساس تعليقا مؤقتا للنظام القانوني على قاعدة وضع حقيقي للخطر، تكتسب من الآن فصاعدا في المعتقل قاعدة مكانية دائمة غير أنها تظل باستمرار من حيث هي كذلك خارج النظام العادي.”[3]
لذلك يمثل المعتقل التجسيد الحي لمفارقة وجود صاحب السيادة سياسيا وقانونيا. حيث لا شيء معياري أخلاقي قانوني سياسي. واقع من عدم التمييز بين الداخل والخارج، بين تعليق القانون واستمراره دون أية دلالة، بين الحق والواقع، بين الاستثناء والقاعدة، بين المسموح والممنوع. كل الفظاعات وما لا يُصدّق من الأفعال والأحداث والممارسات يقع داخل المعتقل. وفي فضاء الاستثناء هذا، وبعيدا عن القانون العادي، تسود حالة الطبيعة، كحياة عارية خالية من أي قيمة إنسانية، وحس أخلاقي بشري. الإنسان يقتل ويعذب ويسحق ويباد، لا لدينيه، لغته، عرقه، قوميته…، بل لكونه قملا، بلغة هتلر، أو جراثيم بلغة بشار الأسد…
” لا حظت حنة أرنت أن المعتقلات هي الموضع الذي يظهر فيه بتمام الوضوح المبدأ الذي يحكم الهيمنة الكليانية، أي المبدأ القائل إن كل شيء ممكن، أن الحس المشترك يرفض بعماد الاعتراف بذلك. لأن المعتقلات ليست سوى فضاء استثناء وحسب مثلما رأينا ذلك، فضاء لم يقع فيه تعليق القانون بشكل تام فقط، وإنما علاوة على ذلك يختلط فيه الحق والواقع تماما، فإن كل شيء يصبح ممكنا فيه. ما لم نفهم هذه البنية القانونية الخاصة للمعتقلات التي مهمتها هي تحديدا تحقيق الاستثناء بكيفية ثابتة، فإن المذهل الذي يحدث داخلها يظل غير مفهوم تماما… إن المعتقل هو أيضا الفضاء البيوسياسي المطلق الذي لم يسبق أن تحقق مثله، حيث لم يعد قبالة السلطة غير الحياة العارية دون أي توسيط”[4]
رابعا: حالة الاستثناء في سورية
” إن إحدى السمات الأساسية لحالة الاستثناء، التي تتعلق بالإلغاء المؤقت للتمييز بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تكشف عن نزوعها للتحول إلى أسلوب دائم للحكم.”[5]
ترتبط حالة الاستثناء في سورية بفرض نص قانون ” إعلان حالة الطوارئ” المرسوم التشريعي رقم 51 تاريخ 22/12/1962، من طرف مجلس قيادة الثورة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده حزب البعث، وذلك بتاريخ 8 مارس 1963. يؤرخ هذا الحدث لولادة صاحب السيادة، الحاكم المطلق، الذي قرر من خارج القانون تعليق القانون حماية للبلد والدولة والشعب، من تهديد بالحرب الذي تمثله إسرائيل وجودا واحتلالا. والشروع في تطبيق حالة الاستثناء، من خلال مواد هذا المرسوم، التي تعبر بوضوح عن سطوة العسكر على السلطات التشريعية والقضائية. وجعل التدابير والمراسيم والإجراءات والأحكام العرفية تكتسب قوة القانون المطلق، المحتوم والمحسوم. فقد وضعت جميع السلط بيد الحاكم العرفي الذي يحكم تبعا لتقديره الذاتي السياسي في إخضاع الجميع لمنطق الضرورة الوهمية في وجود تهديد بالحرب. هكذا تضمن القانون لغة القيود والتدابير والمراسيم، وهي كلها مصطلحات تنقض القانون بذريعة حماية القانون والدستور والبلد. ” حيث تتخذ حالة الاستثناء شكلا قانونيا لما لا يمكن أن يكون قانونيا… إنها نموذج مهيمن للحكم في السياسة”
ويتضح لنا هذا البعد الخطير عند إلقاء نظرة تحليلية نقدية على مواده:
“المادة 2 –
أ- تعلن حالة الطوارئ بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية وبأكثرية ثلثي أعضائه، على أن يعرض على مجلس النواب في أول اجتماع له.
ب- يحدد المرسوم القيود والتدابير التي يجوز للحاكم العرفي اتخاذها والمنصوص عليها في المادة الرابعة من هذا المرسوم التشريعي، دون الإخلال بأحكام المادة الخامسة منه.
المادة 3 –
أ- عند إعلان حالة الطوارئ يسمى رئيس مجلس الوزراء حاكماً عرفياً، وتوضع تحت تصرفه جميع قوى الأمن الداخلي والخارجي.
ب- للحاكم العرفي تعيين نائب أو أكثر له مرتبطين به وذلك بمرسوم.
ج- يمارس نواب الحاكم العرفي الاختصاصات التي يفوّضهم بها (الحاكم العرفي) ضمن المناطق التي يحددها لهم.“[6]
هكذا يتم الاجهاز على الحقوق المدنية والسياسية للشعب، واعتبار المواطن متهما مشبوها، ومستباحا في أمنه وأمانه، وحياته الخاصة. وهذا ما قامت به السلطات المطلقة للحاكم العرفي السوري، من خلال أجهزة المخابرات ومحاكم أمن الدولة. فقانون حالة الطوارئ كان بتقدير ذاتي سياسي، من طرف الحاكم العرفي، بمثابة أرضية لخلق حالة الطبيعة للحياة العارية. حيث صار السوري معرضا للظلم والقهر، و للقتل والاعتقال والاختفاء والتعذيب. ولهذا وجدت كل أجهزة النظام الأمنية والعسكرية أرضية خارج القانون باسم قانون حالة الطوارئ، للقيام بأفعال غير قانونية إجرامية دون متابعة ولا عقاب.
“ولنأخذ على سبيل المثال، حالة الدولة النازية. فلم يكد هتلر يمسك بزمام السلطة حتى أصدر في 28 فبراير1933 مرسوم حماية الشعب والدولة، الذي كان يعلق العمل بمواد الحريات الشخصية في دستور فايمر. ولم يلغ هذا المرسوم قط حتى أنه، من الناحية القانونية، يمكن اعتبار دولة الرايخ الثالث( ألمانية النازية) برمتها دولة خاضعة لحالة الاستثناء امتدت لاثني عشر عاما.”[7]
ليس من الغرابة أن يحصل هذا التطابق، فيما حدث، شكلا ومضمونا بين النظام السوري الأسدي والنظام النازي لهتلر. فبعد وصول نظام العسكر البعثي الى السلطة على إثر الانقلاب، أعلن قانون حالة الطوارئ التي استمرت عقودا من الزمن. ممعنة في خلق حالة الطبيعة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وقيميا وأخلاقيا. وهذا ما تناولته التقارير المحلية والدولية للجمعيات والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان.
” حالة الطوارئ المفروضة حالياً نافذة منذ 8 مارس/آذار 1963، حينما وصل حزب البعث إلى السلطة. وعلى حاله القائم فإن قانون الطوارئ يخول رئيس الوزراء سلطة حاكم البلاد حسب القانون العرفي ووزير الداخلية نائبه، ويمنحهما سلطات فائقة. وتسمح أحكام القانون التي تمنح سلطات واسعة للحاكم العرفي وهي:
وضع القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أماكن أو أوقات معينة، وتوقيف المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام توقيفاً احتياطياً والإجازة في تحري الأشخاص والأماكن في أي وقت، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال.
وقد أدت أشكال السلطة هذه إلى تفشي حالة من إساءة السلطات الحكومية للحقوق والحريات الأساسية للشعب السوري وعلى نطاق واسع، إذ تبنت الحكومة إجراءات تعسفية لإسكات الانتقادات تحت شعار حماية الأمن الوطني. ومثلاً يحظر القانون مخالفة الأوامر الصادرة عن الحاكم العرفي، والجرائم الواقعة “ضد أمن الدولة والسلامة العامة”، والجرائم “الواقعة على السلطة العامة”، والجرائم “المخلة بالثقة العامة”، والجرائم التي “تشكل خطراً شاملاً[8]
وبموجب حالة الطوارئ يمكن للسلطات السورية أن تحيل المتهمين المدنيين إلى محكمة أمن الدولة العليا، وهي محكمة استثنائية لا تتبع نفس القواعد التي تتبعها المحاكم السورية الاعتيادية. وقد اعتمدت السلطات السورية على محكمة أمن الدولة من قبل في مقاضاة نشطاء حقوق الإنسان، وكانت محكمة أمن الدولة العليا هي التي حكمت في مارس/آذار 1992 على عشرة من نشطاء لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا بالسجن (انظر الفصل الثالث أعلاه)، على سبيل المثال. وقد اتهمت محكمة أمن الدولة العليا المتهمين في تلك القضية بعضوية منظمة غير قانونية، وتوزيع المنشورات دون تصريح، وانتقاد الحكومة السورية، والتآمر لتقويض الحكومة.
ويعتبر معظم نشطاء حقوق الإنسان أن استمرار تطبيق قانون الطوارئ هو العائق الأكبر أمام عملهم. وقد عبر أحدهم عن إحباطه وغضبه بقوله: “في نهاية المطاف، فالموضوع ليس موضوع قوانين [قائمة]، سواء كانت جيدة أم سيئة. إذ أنه بموجب حالة [الطوارئ]، لا يمكنني شراء ماكينة فاكس دون تصريح. إن الموقف ليس عملياً بالمرة”.[9]
وينتهك التطبيق المستمر لقانون الطوارئ لأكثر من 44 عاماً العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي تعتبر سوريا طرفاً فيه. والمادة الرابعة من العهد الدولي تقصر تطبيق قوانين الطوارئ على “حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسمياً”. كما تنص المادة على أنه يجوز للدول الأطراف في العهد أن تتخذ “في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي”.
وفي تقرير لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة عام 2000، وهي الجهة المسؤولة عن رصد التزام الدول بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بررت سوريا استمرارها في تطبيق قانون الطوارئ بالقول بأنه منذ تأسيس إسرائيل عام 1948 وسوريا تواجه “تهديد حقيقي بالحرب من قبل إسرائيل” وإن هذا “يفرض موقفاً استثنائياً يتطلب التحريك السريع والموسع للقوات في الجمهورية العربية السورية، وبالتالي، يتوجب وجود تشريع يضمن قدرة الإدارة على التصرف سريعاً في مواجهة هذه الأخطار المحدقة”.
إلا أن لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة لم تجد التبريرات مقنعة. وفي 28 يوليو/تموز 2005 خلصت اللجنة إلى ملاحظاتها حول الرد السوري:
مع إشارتنا إلى القلق حول حالة الطوارئ المعلنة منذ زهاء الأربعين عاماً والتي ما زالت نافذة وتساعد على التهرب من تنفيذ القانون وممارسة الحقوق المنصوص عليها بموجب المواد 9 و14 و19 و22 وغيرها من العهد، دونما أي تفسيرات مقنعة تم منحها حول علاقة أشكال التهرب من التنفيذ هذه بالنزاع مع إسرائيل وضرورة أن ترقى أشكال التهرب هذه إلى مستوى جسامة الموقف الطارئ المزعوم أن سببه النزاع.”[10]
حرصنا على وضع هذا النص رغم طوله شيئا ما، لكونه يسلط الضوء، على حرب أهلية قانونية، لا معيارية. إنها حالة الفراغ القانوني التي سيدها قانون حالة الطوارئ، للحاكم العرفي، صاحب السيادة والسلطة المطلقة. مبتلعا السيادة الشعبية، وجميع السلطات، القانونية والدستورية، التشريعية والقضائية. وتحويل نفسه الى هيئة تشريعية تتحكم في مصير البلد، وفي حياة الناس، و موتهم أيضا. وبذلك نجد أنفسنا أمام نظام شمولي استفرد بالشعب وألغى ليس فقط حقه القانوني والسياسي، بل أيضا حقه في الوجود الإنساني، بعيدا عن حالة الطبيعة والحياة العارية للإنسان المستباح، من خلال آلة العنف السياسي الأمني والعسكري الشمولي. المسيج استثنائيا بقانون حالة الطوارئ التي تتغدى في وجودها السياسي على الموت والقتل والابادة والاعتقال…، والحياة العارية للشعب المهدور دمه.
“على هذا الصعيد، يمكن تعريف الشمولية الحديثة بأنها: عملية تأسيس حرب أهلية قانونية من خلال تطبيق حالة الاستثناء، بما يتيح إمكانية التصفية الجسدية ليس فقط للخصوم السياسيين، بل لشرائح كاملة من المواطنين تعتبرهم السلطة، لسبب أو لآخر، غير قابلين للاندماج في النظام السياسي. منذ ذلك الحين، بات الخلق الطوعي لحالة طوارئ دائمة.”[11].