محمد شكري فى ذكراه: من أقاصي بلاد الرّيف إلى مُلتقى البَحريْن طنجة العاليّة (2)
د . محمّد محمّد الخطّابي
فى مقالي الأوّل السابق الذي يحمل عنوان: (مُحاوراتٌ استرجاعيّة ومُحادثاتٌ استكناهيّة مع صَاحِبِ “الخُبزالحافي”)، الذي تفضّل بنشره ممنوناً هذا المنبر الصحّافي المنيف، عدنا الزمانَ القهقرى، ورصدنا عن كثب، وتابعنا عن قرب لقائي المُطوّل مع هذا المبدع المُعنّىَ صاحب “الخبز الحافي” أو “العيش وحده” أو ” أغرُوم وحْدَس” “بلا دواز” خلال رحلة شيّقة داخل مقصورة على متن قطار بطيئ جمعتني به عن طريق الصّدفة، ويا لها من صدفة من طنجة العالية إلى مدينة الأنوار رباط الفتح أوائل السبعينيّات من القرن الفارط، تجاذبنا خلال هذه الرحلة أطراف الحديث عن مسائل شتّى كانت تُشغلنا في ذلك الزّمن البعيد بلغاتٍ ثلاث: العربية المغربية العاميّة، واللغة الاسبانية والأمازيغية الرّيفية!
مسقط رأس شُكري ونجاة وآخرين
وفي هذا القسم الثاني من هذه الدراسة سنسلّط الأضواء الكاشفة على جوانب أخرى بعضها معروف وبعضها الآخر ما زال فى طيّ الكتمان فى حياة هذا الكاتب المُعنّى المرحوم محمد شكري الذي ما فتئ يحظى باهتمام الدارسين، ومتابعات النقاد، وفضول القرّاء على حدٍّ سواء، نظراً لما أبدعه وأثاره من زوابع وتوابع ما فتئت أصداؤها تُسمع فى الأوساط الأدبية والنقدية داخل المغرب، وفي العالم العربي وخارجهما إلى اليوم، وذلك لاقتحامه وإثارته لموضوعات شائكة، ومعالجته لقضايا جارحة كانت تعتبر قبله من الطابوهات، أو المحظورات، أو الممنوعات، أو المواضيع المسكوت عنها التي لا ينبغي الحديث،ولا الكتابة عنها، وعدم التطرّق إليها بأيّ شكلٍ من الأشكال.
من المعروف أنّ اسم محمد شكري ارتبط بمدينة البوغاز طنجة أكثر من أيّ مدينة أو قرية أخرى، هاجر إليها في سنٍّ مبكرة قادما من «بني شيكر» وهي قرية ريفية قريبة من مدينة الناظور، بعد أن نشأ في أسرة فقيرة، وقد أرغمته ظروف عائلية قاهرة على الهجرة رفقة أهله ولم يكن يتجاوز بعد آنذاك الحادية عشرة ربيعاً من عمره. وتجدر الاشارة فى هذا الصدد انّ “قرية بني شيكر” المغمورة هي نفس القرية التي أنجبت كذلك الفتاة اليافعة الجميلة التي وَسَمُوها بـ”راعية الغنم” نجاة فالو بلقاسم التي أصبحت – فيما بعد بذكائها الوقّاد، وإرادتها الفولاذية الصّلبة، وطموحها المبكّر بعد أن هاجرت مع عائلتها المتواضعة من الريف إلى فرنسا – أصبحت أيقونة السياسة الفرنسية التي تقلّدت مناصب وزارية عليا حيث كانت وزيرة: “تربية الأجيال” حقوق المرأة، ثم وزيرة التعليم، والناطقة الرسمية باسم الحكومة الفرنسية مع الرئيس الفرنسي فراسوا هولاند، ثم فى حكومة مانويل فالس فيما بعد، ولابدّ أن عائلاتٍ أخرى تنحدر من هذه القرية المغمورة، أو من قري ريفية أخرى هاجرت كذلك فى تلك الظروف العصيبة الصّعبة سواء الى داخل الوطن أو إلى الخارج بحثاً عن (كِسرة أو لقمة الخبزأو العيش حتى إن كانت حافية!) لسدّ الرّمق وهي التي حدّثنا عنها شكري فى كتابه الشهير.
عاش محمد شكري سنواته الأولى في مدينة ملتقى البحرين منبهراً بأضوائها اللاّزوردية المُبهرة، محاطاً بأجواء التشرّد، والعنف، والبغاء، والفقر، والعوَز، والخصَاصة، والمخدرات. وعندما بلغ العشرين من عمره انتقل للعيش في مدينة العرائش للدراسة، وخلال هذه المرحلة من عمره بدأت اهتماماته بالأدب، ثم ما لبث أن عاد من جديد إلى طنجة، حيث كان يرتاد الحانات، وصناديق الليل، ومواخير وأوكار البغاء، كما طفق يكتب عمّا عاشه على مضض من تجارب شخصية قاسية، فكانت أولى قصصه التي نشرها في مجلة «الآداب» اللبنانية عام 1966 تحت عنوان «عنف في الشاطئ» كما رأينا فى القسم الأوّل من هذا المقال.
علاقاته بثلّة من الكُتّاب الأجانب
أفضت به اهتماماتُه الأدبية فيما بعد لمرافقة كتّاب معروفين عالميين، كانوا يقيمون في طنجة مثل، الأمريكييْن بول باولز، وتنيسي وليامز، والفرنسي جان جينيه وسواهم حيث دوّن محمد شكري لقاءاته مع هؤلاء الكتاب في مذكراته «عزلة بول باولز في طنجة»، ثم في «جان جنيه وتنيسي وليامز في طنجة»، وإضافة إلى إبداعاته الأدبية، ترجم كذلك إلى لغة الضاد أشعاراً لمبدعين إسبان مثل أنطونيو ماتشادو، وفيسينطي أليكسندري، وفيديريكو غارسيا لوركا وآخرين، ثم سرعان ما جاءته الشهرة منقادةً إليه تجرجر أذيالها بفضل روايته الشهيرة «الخبز الحافي» التي نشرها عام 1972 وترجمها إلى الانجليزية الروائي الامريكي بول باولز عام 1973، ظلت هذه الرواية محظورة في مجموع البلدان العربية، ولم تنشر في المغرب سوى عام 2000، من كتبه كذلك “الخيمة”، و”الشحرورالأبيض”، و”زمن الأخطاء”، 1992 و”وجوه” 1996، وتشكل هاتان الروايتان الأخيرتان إلى جانب روايته الأولى “الشهيرة” الخبز الحافي” ، الثلاثية التي تحكي سيرته الحياتية الذاتية.
بول باولز نزيل طنجة
يشير الكاتب الإسباني كارليس خيلي: “أن كلاًّ من الرّوائي الأمريكي بول باولز وزوجته جين كانا بؤرة وبوتقة اهتمام العالم الأدبي الذي ينقله لنا شكري بصراحة تطفح بالمرارة والمضض، والذي كان يعرف جيّداً بول لمدة تزيد على 25 سنة، حيث كان شكري يملي عليه باللغة الإسبانية ما كان يكتبه كل صباح من سيرته الذاتية، التي كانت في ذلك الوقت تحمل عنوان «من أجل كسرة عيش» أو من أجل لقمة عيش، والتي كان بول باولز يترجمها إلى الإنكليزية، بعد ذلك بدأ الخلاف بينهما. ويدور كتاب شكري «عزلة بول باولز في طنجة» حول هذا الأمريكي المهاجر والمغامرالرحّالة الذى عاش في هذه المدينة منذ وصوله إليها عام 1947 والذي ظل فيها إلى وفاته عام 1999. يصف شكري في هذا الكتاب باولز بتلقائية مطلقة، فيقول عنه: «إنه لكي يكتب كان يدمن على تعاطي الحشيش، إلا أنه خارج المنزل كان يشرب السجائر، كان إباحياً مثلياً ولم يخفِ شيئاً عن رفيقة عمره جِينْ، كما أنه كان نخبويا وعنصريا، كان يروقه المغرب وليس المغاربة». ويضيف الكاتب الإسباني قائلا: «إن شكري عندما يحلل، ويشرح بذكاء الحياة الأدبية لباولز يقابل أعماله الإبداعية بحياته الحقيقية، كان ينتقد نقداً لاذعاً أحد كتب باولز وهو «مذكرات رحّالة» حيث كان يقول عنه:” إنه كتاب يقوم على رتابة متتالية، وفواصل مملة، كانت الغاية من وضعه أداء تكاليف التطبيب والعلاج لجين. وفي رأيه أن الجنس كان هو سبب جميع المصائب والمحن التي تلحق بأبطاله، والجنس لصيق بالجريمة والجنوح والمروق، وشخصيات هذا الكتاب مهددة بتدمير وتحطيم نفسها وهي دائما تنتظرها نهاية قاسية ومؤلمة. يقول شكري: «إن مراوغة خيال بول باولز كان يزعج جين، إلاّ أنها لم تكن تعتب على زوجها فالذي كان ينقصها لم تكن المهارات، بل المثابرة، كانت تشعر بالمرارة من عدم الاكتراث، وبنوع من الضغينة مما كان يجري، كانت تغرق في تناول الكحول حتى الثمالة، كما كانت تغرق في طموحها الذي لم يحالفه النجاح، إذ بعد بلوغها الخمسين من عمرها هجرت الكتابة، الشيء الذي زاد في تفاقم عنصر التدمير الذاتي عندها، مضافاً إلى ذلك سلوكها الإباحي غير الحميد“.
الفردوس الأرضي
ويضيف الناقد كارليس خيلي حسب ميغيل لاثارُو، «أثار شكري حفيظة بول باولز لنشره أسراراً عنه ضمن هذا الكتاب، انطلاقاً من صداقته القديمة معه، كتب هذه الشهادات الحميمية التي تزيح الستار عن العديد من الحقائق والأسرار التي ظلت طيّ الكتمان، والتي لم يتم نشرها من قبل عن المعايشات، والمغامرات الطنجوية الحالكة لهذا الكاتب الأمريكي الغريب الأطوار، في هذا الكتاب نكتشف علاقة باولز مع أبرز الكتاب المرموقين في عصره مثل وليام بورجيس، وألن جينسبيرغ، ترومان كابوتي، ومختلف الأسرار والخفايا التي أحاطت به وبزوجته جين، إنه كتاب ينبض بالعواطف، ويحفل بالعنف والحقائق المريرة والمثيرة حول باولز، وكل المحيطين به، الذين جلبوا كثيراً من المتاعب الخطيرة لشكري الذي بلغ به الأمر إلى الإفصاح عن شعوره بالمرارة من وضعه لهذا الكتاب، حيث قال: «بكتابي هذا حول باولز أشعر وكأنني قتلتُ والدي الثاني»، الأمر نفسه يراه الكاتب الاسباني الراحل خوان غويتيسولو، عند ترجمة الكتاب للإسبانية في يونيو 2012 ــ صدر الكتاب بالعربية عن منشورات الجمل عام 1997 ــ حيث وصف غويتيسولو باولز بأنه «الأب الأدبي» لشكري، وقال: «إلاّ أن هناك نوعاً من التظلّم في هذا الشأن، إذ يبدو لي أنه من الأهمية بمكان معرفة وجهة نظر مغربي مُعوز كان يعيش بين ثلة من الأمريكيين الذين كانوا يقيمون في طنجة، والذين كانوا يعتبرون هذه المدينة فردوساً أرضياً ولكنهم لم يكونوا على علم كيف كان يعيش المغاربة هنا“.
شهادات عن “الخبز الحافي” وصَاحبِه
يقول الكاتب المغربي الصّديق مصطفى بودغية بهذه المناسبة عن “الخبز الحافي” لشكري: “استطاع محمد شكري أن يتعلم وهو ابن العشرين، بعد أن تشرب دروساً قاسية في الحياة من قاع المدينة، لكنه لم يتعلم وحسب، وإنما اتخذ من تعلمه سلاحاً للكشف عن ذلك الواقع المنسيّ في المجتمع، ذلك الواقع البائس القاسي الذي يعرفه الجميع، ويتنكر له الجميع أيضاً، ذلك الواقع (المسكوت عنه) المدفون تحت طبقات ضبابية من (الأخلاقيات الزائفة)، استطاع شكري أن ينتشل حياة المُهمشين من القاع المنسيّ، ومن ظلمة التهميش إلى أنوار (شمس الحقيقة)، فـكتابه “الخبز الحافي” كونه عملاً إبداعياً في المقام الأول، لكنه أيضا وثيقة مهمة اجتماعياً وتاريخياً، إنه صرخة في وجه النفاق الاجتماعي، وصرخة في وجه مجتمع يتنكر لأبنائه المُهمّشين. كتب محمد شكري «الخبز الحافي» بلغة بسيطة وسهلة نعتها أحد النقاد بـ (اللغة العارية)، أيّ خالية من البلاغيات، والمُحسنات اللفظية، كُتب بلغة عارية تماثل عراء الواقع الذي يكتب عنه، لغة مباشرة مثل حياة المُشردين والصعاليك الذين لا أقنعة لديهم يلبسونها، إنه عمل أدبي حافٍ من كل المُحسنات، لكنه حادّ جارح كالسّيف، جعل الكثيرين يتساءلون عن أسباب الفقر، والتشرّد، والجريمة، وتعاطي المخدرات والاغتصاب، والدعارة، والعنف، والجريمة، حيث يتربّص بهم الموت البطيء والإحباط الشامل دون أحلام ولا آمال ولا طموحات“.
ويشير الكاتب محمد سيف المفتي وهو (روائي ومترجم عراقي-نرويجي مقيم في النرويج) عن رواية شكري (الجارحة) من جهته في ذات الاتجاه فيقول: “الخبز الحافي رواية محمد شكري المغربي الأمازيغي تناولت كلّ ما يخدش الحياء العربي الغيور كما قيل عنها. أنتقده كثير من النقّاد وهاجمه كثير من المثقفين لأنه أخذنا معه صغاراً وكباراً الى مواقع الرذيلة، إلى سنوات طفولته التي لم يقضِ ليلةً فيها إلاّ سكراناً أو راقداً بجوار غانية أو بتفريغ رغباته الجنسية في لعبته الجنسية التي صنعها من الطبيعة. حدثنا شكري في روايته عن الحُفاة الحالمين بنعل، والباحثين عن فتات الخبز في زمن المجاعة. كان الروائي صريحاً فيما يتعلمه أطفال الشوارع في العالم السُفلي، الموجود تقريباً في معظم المدن الكبيرة“.
ويضيف نفس الكاتب: “بما لا يقبل الشكّ فإنّ كلمات محمد شكري قد خدشت الحياء العربي فهاجمت مجتمعاتنا كلمات الرواية ونسيت الطفل الذي نشأ في الشارع ومعاناته، ومعاناة الكثير من أمثاله حتى هذا اليوم في بلداننا، أن الواقع يخدش جبين الإنسانية وهو دليل دامغ على أنّ مجتمعاتنا المريضة لا تملك إحساساً إنسانياً بمستوى مأساتنا. ناموا ولا تستيقظوا.. هنيئاً لكم نوم النعامات“.
ونختم هذه العجالة عن هذا الكاتب المُعنّى بشهادة حيّة للكاتب المغربي المقتدر، والشاعر المُميّز، والناقد الحاذق، الصّديق صالح لبريني جاءت فى مقالٍ قيّمٍ رصين له عن صاحب الخبز الحافي وزمن الأخطاء تحت عنوان: (الكاتب محمد شكري: السّرد التشريحي) حيث يقول: “الكتابة المحفورة في ذاكرة الذات والمقبلة منها باعتبار الذات سيرورة في الزمان والمكان وتخضع للتبدّل والتحوّل تكون دوماً فالحة في المكوث والاستمرار في ذاكرة القرّاء لا لشيئ إلاّ لقدرتها على التعبير عن الوعي الجمعي المسكوت عنه، وغير المرغوب فيه ،نظراً للذهنيات المتخلفة والمتكلسة التي تسعى لإخفاء أعطاب الذات باسم القيم والمشترك، ولعلّ الذي بوّأ الكاتب الطنجاوي محمد شكري المكانة اللاّئقة هو هذه اللفتات الإبداعية التي بصمتها كتاباته انطلاقاً من “الخبز الحافي” ومرورًا بزمن الأخطاء ووقوفاً عند وجوه، بدون إغفال السّوق الداخل، والخيمة، والشحرور الأبيض، هذا الأخير كشف عن كون شكري لم يكن كاتباً فقط وإنما كان ناقدًا يُشرّح الأعمال الإبداعية لكبار الكتّاب العالميين، وفيه أبان عن علوّ كعبه في توجيه انتقاداته لهم وعلى رأسهم نجيب محفوظ وغيره“.