بين السِلّة والذِلّة… ماذا اختار حزب الله؟
نضال آل رشي
منذ تأسيسه في الثمانينيات، برز حزب الله كقوة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وسعى لتعزيز دوره الإقليمي كحليف لإيران، وكرأس حربة في محور المقاومة. طوال العقود الماضية، كان الحزب ملتزماً بخطابٍ ثابت يقوم على رفض التفاوض مع إسرائيل والتمسك بالمقاومة المسلحة كخيار وحيد لتحرير الأرض. إلا أن الأحداث التي بدأت في الثامن من أكتوبر 2023، مع تصاعد التوتر في غزة واندلاع مواجهات على جبهات متعددة، وضعت الحزب أمام تحديات غير مسبوقة.
في خطابه الأخير أكد الأمين العام السابق لحزب الله السيد حسن نصرالله ” أن توقف المقاومة وخروج المقاومة من هذه المعركة من خلال تسوية معينة و تطبيق القرار 1701 و ترك غزة وأهل غزة والضفة وفلسطين لمصيرهم، يجعل كل ما قدمه حزب الله من تضحيات وشهداء وجهود ومواجهات قاسية ودامية خلال عام يذهب ُسدى ونحن لا يمكن أن نفعل ذلك “، إلا أن الاتفاق الأخير الذي أبرمته قيادة حزب الله الجديدة وإسرائيل والذي دخل حيّز التنفيذ صباح اليوم، يعكس العديد من المؤشرات على تغييرات جذرية في مواقف الحزب، تغييرات كان من الصعب تصورها في السنوات الماضية. إلا أنّ تطورات الوضع في الجنوب اللبناني، والتدخلات الدولية، والضغوط الميدانية أدت إلى تنازلات غير مألوفة، مما يثير التساؤلات حول مدى قوة الضربة التي تلقاها حزب الله بعيداً عمّا يقوله في الإعلام لمناصريه.
فصل جبهة لبنان عن غزة، المسمار الأخير في نعش وحدة الساحات
لطالما كان حزب الله مصرّاً على ربط جبهة لبنان بجبهة غزة، في رسالة مفادها أن أي تصعيد في غزة يستدعي رداً من الجبهة اللبنانية، وأن المقاومة هي جبهة واحدة متماسكة، وأنّ الإسرائيليين لن يهنؤوا بالسلام حتى يهنئ به أهل القطاع المنكوب. هذا الموقف كان يهدف إلى خلق توازن مع إسرائيل، حيث يصبح أي تصعيد في غزة مصدر قلق دائم للإسرائيليين على الحدود الشمالية. ولكن، مع التطورات الأخيرة، بدا أن حزب الله قد وافق على فصل المسارين، في تحول يعكس قبول الحزب بتهدئة الوضع على الحدود اللبنانية، رغم استمرار الحرب على غزة وشعبها. يبقى السؤال في ضوء كل هذه الخسائر البشرية والمادية: لماذا شن حزب الله حرب الإسناد هذه إذا كان في النهاية سيوقع على اتفاق مماثل وينهي الربط مع غزة بعد كل هذا الدمار وهذه الخسائر؟ هل كانت هذه الحرب، منذ بدايتها، مجرد خطوة عبثية لم تجلب سوى المعاناة للبنان وللحزب نفسه؟
التفاوض تحت النار
من المواقف الأخرى التي تعكس هذا التراجع، هو قبول حزب الله بالتفاوض تحت النار، وهو موقف كان يرفضه في السابق بشكل قاطع. تصريحات الحزب السابقة كانت تؤكد أنه لن يقبل التفاوض أو تقديم أي تنازلات في ظل القصف أو التهديد المباشر، ولكنه شارك في ظل استمرار العمليات العسكرية.
تحرير فلسطين
الاتفاق الأخير يتضمّن انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، مما يعني ابتعاد قواته عن الحدود المباشرة مع إسرائيل. هذه الخطوة تثير تساؤلات حول مبررات بقاء سلاح الحزب في ظل غياب التهديد المباشر على الحدود، خاصةً مع انتشار الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل لضمان الأمن. هذا الانسحاب يمكن أن يُعتبر تراجعاً عن مبدأ المواجهة المباشرة مع إسرائيل وتحرير فلسطين، والذي كان الحزب يتبناه بشكل مستمر منذ تأسيسه، حيث كانت الحدود الجنوبية دائماً مسرحاً للتواجد العسكري المقاوم.
الموافقة على تعديل القرار 1701
منذ بدء الحديث عن تطبيق القرار 1701، كان حزب الله يرفض أي تعديل على هذا القرار، لكن الاتفاق الجديد يتضمن تشكيل لجنة إشراف مشتركة تشرف على تطبيق القرار وتراقب عن كثب انسحاب حزب الله من جنوب الليطاني وتفكيك بنيته التحتية العسكرية التي استغرقت 24 عاماً وكلفت مليارات الدولارات. ما يعني قبول الحزب بتعديل آليات التنفيذ وربما ببعض التنازلات في هذا السياق مثل حرّية التدخل الاسرائيلي حال حدوث خرق بطريقة أو بأخرى. بالإضافة إلى الطلعات الجوية الاستخباراتية ولربما مفاوضات مستقبلية لترسيم الحدود البرية بين البلدين.
قبول الإشراف الأمريكي، الشيطان الأكبر يصبح الضامن
لطالما وصف حزب الله الولايات المتحدة بـ “الشيطان الأكبر”، ورفض أي دور لها كوسيط أو ضامن في أي اتفاق يتعلق بالمقاومة أو بالأراضي اللبنانية. ولكن في الاتفاق الأخير، قبل الحزب بأن تكون الولايات المتحدة هي الضامن والمشرف على تنفيذ الاتفاق.
ختاماً، يمكن أن نرى هذه التغييرات في مواقف حزب الله على أنها تراجع عن بعض الثوابت التي لطالما تمسك بها، ثوابت كانت تشكل جوهر خطابه السياسي والعسكري خلال العقدين الماضيين. قد يقول البعض أنّ هذا التراجع نوعٌ من التكيف المؤقت بهدف الحفاظ على الحزب وتجنب المزيد من الخسائر الوجودية التي لحقت به، ولا شكّ في أنّ هذا صحيح ويدفع للتساؤل: هل سيسعى حزب الله إلى تحقيق انتصار على خصومه في الداخل اللبناني يمسح به عار الهزيمة التي لحقت به أمام خصمه الخارجي؟ الزمن وحده كفيل بالإجابة على هذا السؤال، ولكن الواضح أن حزب الله لم يعد ذلك الحزب الذي كان عليه قبل 17 من أيلول 2024، ولكنه لازال أقوى الأحزاب اللبنانية وأكثرها جهوزيةً وقدرةً.