المسرح السوري: حيث تتداخل المصالح وتتقاطع النيران

المسرح السوري: حيث تتداخل المصالح وتتقاطع النيران

نضال آل رشي

      يتخبط المحللون السياسيون والعسكريون منذ أربعة أيام في محاولاتهم لتفسير التطورات المفاجئة التي تشهدها الساحة السورية. فالتصعيد السريع وغير المتوقع الذي حدث في الشمال ومشاركة الأطراف الدولية والإقليمية في هذه الأزمة وعدم وضوح مواقفهم النهائية زاد من صعوبة الوصول إلى تفسير دقيق ومتماسك، مما جعل الجميع في حالة من عدم اليقين حول وجود دوافع ذاتية أو مؤامرات جديدة أو اتفاقيات خلف الكواليس بين هذا وذاك، لذا سنحاول تقديم رؤيا منطقية ومتكاملة قد تتضح أكثر في الأيام القادمة.

 تركيا تحاول الضغط على دمشق

    بدأت إشارات التقارب بين الحكومتين السورية والتركية بالظهور علناً عندما أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو في أغسطس- آب 2022 عن لقاءٍ جمعه بنظيره السوري فيصل المقداد في أكتوبر- تشرين الأول 2021، مؤكداً وجود قنوات اتصال بين الطرفين بعيداً عن الإعلام، تبعه اجتماع ثلاثي في موسكو ضم وزراء الدفاع من تركيا وسوريا وروسيا. منذ ذلك الحين تحاول أنقرة جاهدةً تطبيع العلاقات مع دمشق مدفوعةً بالعبء الاقتصادي والاجتماعي الذي يشكله ملف اللاجئين السوريين في تركيا والذي بات يثير استياءً شعبياً متزايداً ويهدد بانفجارٍ اجتماعي، بينما تواجها دمشق بشروطٍ صارمة لهذا التطبيع، أهمها انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية التي تسيطر عليها واستعادة سيادة الدولة على كامل التراب السوري والتوقف عن دعم فصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا، الأمر الذي أدى للوصول بمحاولات التقارب هذه إلى حائطٍ مسدود.

أنقرة تشعر بأن التسويف والتباطؤ من جانب دمشق يهدد بإطالة أمد الأزمة، وبالتالي يزيد من الأعباء على كاهلها، سواء فيما يتعلق باللاجئين السوريين أو التهديدات الأمنية المتواصلة على حدودها الجنوبية. لذلك، اختارت تركيا اتباع استراتيجية التصعيد العسكري لتوجيه رسالة واضحة بأن الوقت ليس في صالح النظام، وأنه يجب التحرك بخطوات سريعة وملموسة للتوصل إلى تفاهمات مشتركة.

لذا وفي 27 من نوفمبر-  تشرين الثاني، بدأت فصائل مسلحة من المعارضة السورية مدعومة من تركيا بعملية تحت عنوان “رد العدوان” كوسيلة للضغط على النظام السوري لإجباره على الانخراط بشكل جاد في المفاوضات.

 هجوم ذهب أبعد مما خطط له بكثير

    لم تكن هذه التطورات على أجندة المخططين للهجوم في البداية، حيث كان الهدف الرئيسي هو السيطرة على كامل محافظة إدلب، المحافظة التي ظلت على مدار سنوات رمزاً للمعارضة وملجأً للعديد من المدنيين الذين نزحوا بسبب المعارك في مناطق أخرى. ومع تحقيق النجاحات الأولية السريعة، استشعرت قوات المعارضة ضعفاً واضحاً في دفاعات القوات الحكومية في مناطق مجاورة، ما دفعها إلى استغلال هذا الوضع لتحقيق مكاسب إضافية لم تكن ضمن الخطط المعلنة مسبقاً.

بمواصلة الضغط، تمت السيطرة على مدينة حلب كبرى مدن الشمال وكذلك امتدت السيطرة إلى ريف حماة الشمالي، الذي يشكل شرياناً حيوياً يصل بين المناطق الشمالية والوسطى في سوريا. هذا التوسع المفاجئ أضاف عمقاً استراتيجياً لمناطق نفوذ المعارضة، ومنحها تحكماً في مناطق ذات قيمة اقتصادية وعسكرية كبيرة تُعزّز موقفها التفاوضي في أي محادثات مستقبلية.

 روسيا موافقة ولكن!

    في البداية، بدا أن هناك توافقاً بين روسيا وتركيا حول العملية العسكرية المحدودة في الشمال، حيث كانت موسكو وأنقرة تسعيان لتحقيق أهداف محددة تخدم مصالح كل منهما، وأهمها انجاز التفاهم السوري التركي لتحصين الساحة السورية والحفاظ على المكتسبات الروسية وسط التغيرات الإقليمية المتسارعة، لكن مع تطور العمليات على الأرض وخروج الأمور عن السيطرة باتت روسيا تواجه قيوداً عديدة تجعل من الصعب عليها الوقوف جانباً وفي ذات الوقت الانخراط المباشر في الأعمال القتالية.

 تتضمن هذه القيود عوامل سياسية ودبلوماسية، حيث تحرص موسكو على الحفاظ على علاقاتها مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية التي لها دور في الشأن السوري، وتتجنب بذلك التورط في عمليات عسكرية قد تؤدي إلى توترات جديدة وتهدد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التحديات اللوجستية والعسكرية تجعل من الصعب تنفيذ عمليات عسكرية معقدة، حيث تتطلب هذه العمليات تجهيزات واسعة وانتشار كبير للقوات قد يعرضها لخسائر فادحة. من ناحيةٍ أخرى، تركز روسيا على أهدافها الاستراتيجية الأكثر أهمية، مثل حماية قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، وضمان بقاء النظام السوري كحليف استراتيجي. هذه العوامل مجتمعة تفسر لماذا ستبقى المشاركة الروسية في سوريا محدودة، دون التورط في عمليات واسعة النطاق، لضمان تحقيق أهدافها بأقل التكاليف والمخاطر الممكنة.

إيران خارج التغطية

    تبدو إيران والميليشيات الموالية لها “خارج التغطية” في الأحداث العسكرية الأخيرة لعدة أسباب تتعلق بتوازن القوى والظروف الإقليمية والدولية. فقد خرج حزب الله من مواجهة مرهقة مع إسرائيل مؤخراً استنزفت قدراته العسكرية ما يجعله غير مستعد حالياً للتورط في معارك إضافية في سوريا.

في هذا السياق، تبقى أعين إسرائيل مفتوحة ومراقبة بشدة لأي تحركات إيرانية أو تابعة للميليشيات الموالية لها، مستعدةً لضرب أي أهداف بحجّة تهديد أمنها، مما يزيد من تعقيد الموقف بالنسبة لإيران ويجعلها أكثر حرصاً على تجنب التحرك.

كما أنّ الأحداث الأخيرة تزامنت ذلك مع تغييرات واضحة في الاستراتيجيات الإقليمية؛ حيث تبدو روسيا وكأنها تفرض سيطرتها بشكل أكبر على الملف السوري، مما قد يُبعد إيران عن بعض القرارات الاستراتيجية ويجبرها على العمل من خلف الكواليس. النظام السوري نفسه قد يفضل تقليص الدور الإيراني لأسباب تتعلق برغبته في إظهار استقلالية أكبر، خاصة في ظل التقارب العربي الساعي إلى إعادة بناء العلاقات مع دمشق، والذي يضغط باتجاه تقليص الهيمنة الإيرانية.

نتيجةً لهذه العوامل مجتمعة، تُجبر إيران والميليشيات التابعة لها على البقاء في الظل والابتعاد عن المشاركة المباشرة، والتركيز على حماية مصالحها طويلة الأمد دون التورط في تصعيد قد يعرضها لمزيد من الضغوط العسكرية والدبلوماسية في هذه المرحلة الحساسة.

 وماذا بعد؟

    في ساعة كتابة هذا المقال كانت قوات المعارضة السورية قد استكملت سيطرتها على الجزء الشمالي من محافظة حماة وتقف على أبواب المدينة. هذه القوات هي قوات خفيفة التسليح “بمثابة قوات خاصة” أصبحت بعيدة عن قواعدها الرئيسية في إدلب حوالي الـ 100 كم، وتبعاً للعلوم العسكرية لا تستطيع هذه القوات الإبتعاد عن قواعدها بمثل هذه المسافة لأكثر من 72 ساعة كحد اقصى، بعدها إما أن تنسحب إلى مراكز دفاعية أو يلتحق بها سلاح المدرعات والمدفعية والدفاع الجوي، وكما هو معلوم فإنها لا تمتلك هذا النوع من الأسلحة، مما يضعها أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، الأول أن تنسحب إلى خطوط دفاعية لا تبعد عن قواعدها و خطوط إمدادها أكثر من 20 على 30 كلم وتدافع عن مكاسبها، الثاني هو أن تعتصم في المدن الكبرى وتجبر القوات الحكومية على خوض حرب عصابات. الخيار الأول هو الخيار الأكثر عقلانيةً ومنطقيةً وإنسانيةً، أمّا الثاني فهو خيار انتحاري له تكلفة بشرية وتدميرية عالية جداً وخاصةً وسط المدنيين وسط غيابٍ للقدرات اللوجستية والخدمات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية.

بناءً عليه، يبقى الحل السياسي الخيار الأفضل والأكثر استدامة للأزمة السورية، لأنه وحده يمكنه معالجة الأسباب الجذرية للصراع وخلق بيئة تتعايش فيها كافة الأطراف بسلام. التدخلات العسكرية لم تجلب إلا المزيد من الدمار وتعقيد الوضع، بينما الحل السياسي القائم على التفاهمات والتسويات يضمن تحقيق الاستقرار على المدى الطويل، حل يتطلب من الجميع تقديم التنازلات، سواء من النظام أو المعارضة أو القوى الإقليمية والدولية المتدخلة، لأنه لا يمكن لأي طرف أن يحقق كل مصالحه دون مراعاة حقوق ومصالح الآخرين. التنازلات المتبادلة هي الطريق الوحيد لبناء سوريا جديدة يتشارك فيها الجميع المسؤولية والأمل في مستقبل أفضل.

Visited 39 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث