غاستون باشلار: بروميثيوس (3-6)

غاستون باشلار: بروميثيوس (3-6)

ترجمة: سعيد بوخليط 

      أعيد التَّذكير بمقطع نصِّي تضمَّنه كتاب التَّحليل النفسي للنار: ”يضمر الإنسان إرادة تعقُّلية حقيقية.نستخفُّ بالحاجة إلى الفهم مثلما تصوَّرته وفعلت حياله البراغماتية ومعها البرجسونية، بالاعتماد مطلقا على مبدأ الفعَّالية. لذلك، أقترح تصنيفا تحت اسم عقدة بروميثيوس مختلف الميول التي تدفعنا كي نعرف ضمن مستوى آبائنا، وأكثر منهم، ثم عند ذات مستوى أساتذتنا، بل وأكثر منهم”.

تضاف غالبا إشارة التمرُّد إلى مختلف الإشارات التي أضفيت على أسطورة بروميثيوس، بحيث نتحسَّس راهنية العقدة. نحتفظ فقط من أسطورة بروميثيوس غواية التمرّد. بناء عليه، تمتلك العقدة واقعية جليَّة. لكن ليس مستعصيا العثور على أثر ضمن أقدم الأساطير. سأشير إلى بعضها، حسب أسلوب علماء الإثنولوجيا (6) المحايد طوعيا.

مثلا، السَّرد المسهب لصاحبه جيمس فريزر، بين صفحات كتابه ”أسطورة أصل النار” في بولينيزيا (ص 78)، بحيث نرى أبا يتجنَّب إخبار ابنه عن مكان وكيفية طهوه الطعام. يحذَر الأب من ابنه ”المفعم بالسخرية والعاشق للهزل”. يدفع الفضول الطفل كي يسرق النار.

سرد مشحون بالوقائع،يرتدُّ إلى سجالات لانهائية.حينما سُرِقَت النار من القدامى، ينبغي إظهار مزيد من التمرُّد نحو الأب الذي يأمر ابنه كي :”لايحمل النار معه؛غير أنَّه مرة أخرى يفشل الفكر المتوازِن للأكبر سنّا أمام شيطنة الأصغر سنّا”. 

تنطوي كل سرقة،وعصيان على إحالة إلى بروميثيوس،فقد أضاف جيمس فريزر على نحو بديهي(ص 81) :”هناك شيء في أسطورة تونغا الفظَّة،يذكِّرنا ببروميثيوس الإغريق الكلاسيكيين”.

سأمضي قُدُما. يجسِّد البطل بروميثيوس العصيان البنَّاء. ينبغي التمرُّد على الآباء قصد إنجاز أفضل منهم. يمثِّل التمرُّد بهدف التأثير، شعار المبدع. تاريخ البشر في تطوُّراتهم، تعاقب لأفعال بروميثيوسية. لكن، بين طيات نسيج الحياة الشخصية نفسها، يتأتَّى الاستقلال المتحقَّق نتيجة سلسلة جداول من التمرّد منشأها بروميثوسيا، حاذقة، مترابطة جيدا، ومتواصلة بأناة. قد يكون التمرّد ذكيّا جدا قصد تفادي العقاب ويبقى مجرد ذَنْبٍ مشبوه، وذائع. توجد دلالة حسب اعتقادي، بدراسة دينامية التمرّد التي تحفِّز كل معرفة.

لقد سَخَّرَ بروميثيوس النار فكريا. إنَّه سارق النار. عندما نسرق كنزا، نضع بين قوسين أحلام الجَشَع، وكذا التأمُّلات الشاردة الناعمة جراء امتلاك ثروة معينة. نتفاعل ضد الآخرين، ويحضر الوعي بالجسارة.

صادفتُ ثانية استمارة كارل غوستاف يونغ، حين تأكيده بأنَّ بروميثيوس يمثِّل وعيا. وضعت تصميما لعقدة بروميثيوس، في كتاب ”التحليل النفسي للنار”، دون اكتشافي تصور غوستاف يونغ حول هذه النقطة. بعد عشرين سنة، اطلعتُ على ماكتبه بهذا الخصوص: ”تحضير النار فعل وعي ”بامتياز” و”ينهي”حالة غموض الارتباط بالأمِّ” (كارل غوستاف يونغ، تحوُّلات النفس ورموزها، ترجمة يفيس لي لاي، جنيف، 1953، ص 356 ).

يستدعي تشكيل شعرية بروميثيوس، الاشتغال على مقاربة نفسية منفتحة على مختلف قيم النفسية (7). وحدها مقاربة نفسية متكاملة، تبدي حساسة نحو مختلف انعكاسات الواقعي والمتخيَّل، يمكنها إدراك بروميثيوس مكتمل.

بروميثيوس كائن حُدُودي، ليس بإنسان أو إله، ربما يجسِّد خلال الآن ذاته إنسانا وإلها. التحليل النفسي الذي يصف، لا يمكنه الهيمنة على القيم الفاعلة ضمن حدود الإنساني وكذا مافوق الإنساني. يلزم تحديدا، شعرية تحرِّكها مشاركة دائمة بخصوص تسامٍ فَعَّال لمختلف الوقائع النفسية. أخيرا، تحتفظ القيم الشعرية، أكثر تحديدا قيم شعرية نفسية، على اهتمام ينبعث باستمرار نحو الصور البروميثيوسية.

يمكن نعت المحلِّلين النفسانيين لمدرسة غوستاف يونغ، بالمتخصِّصين في مقاربة نفسانية متكاملة. يتوسَّعون نحو مجال الأبحاث النفسية منذ أقدم الأنماط المثالية للوعي الجمعي غاية أقصى توتُّرات الروحية الفردية.

هل يتعلق الأمر بأسطورة بروميثيوس؟ سيرى نفساني يستلهم غوستاف يونغ، في تلك الأسطورة أكثر من سرقة للنار. حامل النار، يحمل أيضا ضوء الفكر-الصفاء المجازي-الوعي. انتشل بروميثيوس الوعي من الآلهة، كي يمنحه إلى البشر.تفتح منحة النار/الضوء/الوعي، أمام الإنسان مصيرا جديدا. كم يبدو شاقّا واجب البقاء  ضمن هذا المصير للوعي، وكذا الروحانية.

أبرز جيرهارد أدلر دراما هذه الوضعية الجديدة لنفسية تستدعي الروحي: “تعكس أسطورة بروميثيوس المخاطر المرعبة الملازمة لمنحة نور الوعي، إلى درجة أنّ حامل هذا النور وجهة الأموات لايمكنه القيام بذلك سوى باقتراف جريمة انتهاك قوانين الآلهة، ويلزمه التكفير عن هذا الفعل عبر جرح أبديٍّ بين طيات حياته الغريزية”(8).  

مجد الوعي، انتهاك للغرائز!

    كيف لانرى توافق هذا التأويل الذي أبرزه جيرهارد أدلر بين طيات سطور معينة، مع ترجمة لغة رفيعة قادرة على طرح الأسئلة من ناحية الروحية المهيمِنة.

في الواقع، تقتضي دراسة أسطورة على أساس مقاربة نفسية متكاملة، كما الشأن مع بروميثيوس، امتلاك ثلاث لغات على الأقل:

أولا، هناك لغة مألوفة، لغة المنفعة. وردت عدَّة أساطير عند جيمس فريزر تحكي صراحة جدوى النار من أجل طهي الأطعمة. إنَّها نفس الدلالة، التي استأجرها ”بروميثوسيو” جزيرة تاسمانيا، ميلانيزيا، بولينيزيا، ميكرونيسيا… لن ننتهي من حصر منافع النار بواسطة لغة مألوفة، يسهل ترجمتها إلى مختلف اللغات الأخرى التي يتكلَّمها البشر. في المقابل، أشارت دائما الأساطير التي استحضرها جيمس فريزر مِحَن الإنسانية بغير النار.   

لكن قصد إبراز قيمة النار الإنسانية، يلزم فيما يبدو، التحدُّث عن لغة أخرى غير لغة الفعَّال والنافع. وجب الكشف عن قيم الحياة الساخنة بلغة أقل رِفعة. أعضاؤنا بمثابة مواقد. تقدِّم لغة ساخنة مقياسا لغرائزنا. تحتاج وجودية المتعة الحسية-هناك أخرى؟- إلى هذه اللغة/السفلى.

يستدعي السياق الإحساس بأنَّ النار تحت الرماد ثروة كامنة وموضع رعاية. تخبرنا آلاف أحلام الدِّفء الحميمي عن الجاذبية نحو النيران المدفونة، هي كنوز ساخنة. بالنسبة إليها،نشتعل شهوة.يحفِّز يقين معين أحلامنا البروميثيوسية، مؤكِّدا بأنَّ النار داخلنا،يحتويها جسدنا ويدّخرها. عديدة جدا الأساطير التي تناولها جيمس فريزر، حيث انبعاث النار الجسد الإنساني.   

هامش:

Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :100-130

(6) بهذا الخصوص وجب الإفصاح للقارئ باعتراف مفاده: لم أمتثل بذات الكيفية نحو بروميثيوس الإثنولوجي وكذا بروميثيوس عالِم الآثار. لكن ربما من الجيد بالنسبة إلي، كبح اندفاعي نحو الفخم!

بناء على أيِّ مرجعية ينبغي قراءة كتاب مثل الذي أنجزه جيمس فريزر؟ ما المحور الذي ينبغي وفقه توجيه الاهتمام بالقراءة؟ بعد أسطورة، تحضر أسطورة أخرى ثم ثالثة. التغيرات نفسها رتيبة. بالنسبة لحالم، تعدُّ قراءة كتاب فريزر عملا مُمِلاًّ .

(7) استحضر كارول كيريني أقوال توماس مان في خطابه المبتهج سنة 1936، “فرويد والمستقبل”: ” الاهتمام الأسطوري فطري بالنسبة لعلم النفس مثلما الاهتمام النفسي بالنسبة لكل قصيدة” (أسطورة الإغريق).

(8) جيرهارد أدلر: دراسات في نظرية وتطبيق التحليل اليونغي. ص 192

Visited 24 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي