المقام.. مجال مفتوح للمبدعين الشباب

كاركاسون – المعطي قبال
سبق أن أشرنا في معرض حديثنا عن المقام الواقع بمدينة تحناوت، أن الفضاء مجمع يستقبل الكفاءات الفنية بمختلف تكوينها وتوجهاتها الفنية، كما يفسح المجال للمواهب الشابة في مجال الرسم، التشكيل، النحت، لصورة الفوتوغرافية. ولم يتردد محمد المرابطي، الراعي والقائم على تسيير وتنشيط المقام، في فتح أبواب الفضاء على مواهب جديدة اختارت الستريت آرت أو فنون التخطيط على الحيطان التي عرفت ولادتها على جدران العمارات والأزقة بأوروبا وأمريكا. وقد خرج ممارسو الستريت ارت إلى الشوارع والأزقة لاحتلال جدرانها والتعبير عن ذاتهم الطليقة في الخلاء الذي جعلوا منه مجالهم الخاص. ومن بين الأسماء الوازنة التي حولت التخطيط على الجدران نذكر كلا من برانسكي الفنان المختفي والمقنع الذي يتدخل سرا وأحيانا ليلا للتمكن من الجدران والاستحواذ عليها كما لو كانت قنصا.

وشهد الستريت آرت النور على حيطان وجدران العمارات سواء منها الاهلة أو المهجورة. غير أن وضعية هذا الفن الذي ياخذ مساحات مقلصة بالمغرب لتوقيع مشاهد وصور لم يكسب بعد كامل أوراق اعتماده الرسمية لكسر المحرمات وتوصيل رسائل رمزية. بمعنى أنه لم يدخل مجال الديمقراطية, لم يصبح فنا ديمقراطيا يعالج بطلاقة قضايا الجنس، السياسة والدين…
أفسح المرابطي المجال وذلك بتوفير (إقامة كاملة) لخمسة من الشبان (ثلاث شبان وشابتين) لإنجاز إما لوحات وإما منحوتات أو رسومات يجد بعضها تجسدها على الحائط أو ضمن عمل تشكيلي. قدمت هذه الأعمال في إطار «أرت فاير» الذي انعقد مؤخرا بمدينة مراكش… وإن اعترف الجميع بالتفاتة المرابطي الفنية، وسخاءه الفكري فتحدوه رغبة تجاوز الذات والانصهار ضمن العمل المنجز. يتعارض ذلك مع النرجسية والانانية اللتان تتحكمان في سلوكيات بعض الفنانين.
في القسم الأول من اللقاء، جرت بيننا دردشة مفتوحة على النمط المبسط والساخر. وقد أضفىً. عليها المرابطي نكهة من الصراحة في قضايا تهم السياسة، والثقافة وبالأخص التربية وكانت خالية من أي تصنع أو تكلف. بقيت تحاليل الفنان أقرب إلى ما هو رائج في منظومة الفكر التقليدي. يجب وضع موقف المرابطي في إطار انحداره من الوسط الشعبي ومن عصاميته كفنان – حرفي. Artiste-artisan
أحد الشواغل التي يلح عليها المرابطي هو شاغل التربية، نوعها وأساليبها في المجتمع المغربي. يعتبر أن ثمة تسيب، عنف وجهل تسود سلوكات الفرد المغربي. في نظره نعيش حقبة حاسمة من الجهل المقدس. ولتقويم وعلاج هده الانزلاقات يتطلب الأمر العودة إلى الطرق التقليدية لتقويم سلوكات الانحراف والتسيب التي بدأت تطغى وتهيمن على منظومة المجتمع المغربي. ليس هم المرابطي تقديم دروس أخلاقية بل همه هو السعي إلى أن ينبثق مغاربة جدد لهم الكفاءات الفكرية والجمالية النظيفة الكفيلة بتكريسهم في مجتمع سوي وخالي من العاهات والانحرافات. وفي هذا الإطار تندرج مبادرته الرامية إلى استقبال شبان وشابات اختاروا مشوار الرسم والفن بشكل عام وتفرغوا له بالكامل. خمسة رسامين أغلبهم وافد من الدارالبيضاء عملوا في محترفات منفردة أو مشتركة لإنتاج رسومات، منحوتات أو منتوجات من الصوف…

خديجة مكتفي من موالد الدارالبيضاء عام 1996 هي فنانة بصرية عصامية تقوم أبحاثها على الربط بين التقليد والاستدامة. حاصلة على دبلوم الآداب الإنجليزية. بدأت مشوارها الفني بالمسرح قبل أن توسع نطاق اهتمامها إلى الرقص الحديث والشرقي وإلى أنشطة حرفية مثل ابتكارها للحلي ، الفخار. لما تستلهم الأساليب التقليدية فإنها تعيد استغلالها وابتكارها من جديد. تأثير الأم والأب المنحدرات من الريف أو البادية واضح في عملها وتصرفها الفني. وقد أثرت هذه الممارسات تجربتها الفنية. ولما استقرت بالدارالبيضاء، أدمجت في ممارستها الفنية الدينامية الحية للمدينة مكتشفة التيمات المرتبطة بالتحولات الاجتماعية، المعمارية والبيئية. أنجزت أعمالا تقوم بالأساس على ممارسة الكروشيه وهو تقليد يهدف إلى نسج بقضبان لباسا يهدى إلى معوز أو فقير. وممارسة هذا الفن تطرح علاقة الفنان بالجسد، بالزمن، بالحضور… من خلال إبداعاتها المحملة بالتفكير والشاعرية تعيد خديجة النظر في التصورات المعتادة في مجال الفن، كما أن اهتمامها بقضايا البيئة تعيد طرح علاقتنا بالعالم . لذا فإن عملها يقيم رابطة بين التراث والاستمرارية، بدعوة هذا العمل الجمهور إلى التفكير في الترابطات والارتباطات الدقيقة بين الماضي، الحاضر والمستقبل.
تخاطب أشغال سكينة العطاوي الفنانة الثانية البصر والبصيرة حيث تؤكد على تيمات ومشاغل الذاكرة، الهوية والمكان. تتراوح ممارستها الفنية بين الصمود والرهافة لما توظف البحر والسماء كاستعارات للامنتهى والعبور. لها علاقة صميمية وحميمية مع الصويرة مدينة الأصول، تنهل سكينة إبداعها من أنماط الخشب المشغولة في معمل أو ورشة عمل والدها بإيقاعات البحر وبلحظات الحياة الشاطئية. لوحاتها التي يطغى عليها اللون الأزرق تعكس ثنائية السكينة والتوتر، النور والظل لتوحي بالعواطف الإنسانية لمركبة وبالانسياب الزمني. خريجة معهد الفنون الجميلة لمدينة تطوان عام 2020، شاركت سكينة العطاوي في العديد من المعارض الجماعية وتستمر في تطوير تقنية فنية حميمية وتأملية. من خلال عملها تبتكر فضاءات يلتقي بها المخيل والذاكرة بدعوة المشاهد إلى استكشاف اللحظات الصامتة والعميقة التي تصنع فهمنا.

عادل أروك فنان بلاستيكي وخطاط مصور على حيطان مدينته الأصل آسفي. لم يدرس الستريت آرت لا في الجامعة ولا في معهد مخصص لهذا الفن بل كانت مدرسة الشارع هي المجال الذي أتاح له التعبير بحرية وطلاقة عن إلهامه وأحلامه. ثم إن الشارع بصفته مجالا مفتوحا لت تحكمه قيود أو ضوابط هو معبر لحرية التعبير. من ناحية أخرى يحرص عادل على التمييز بين من لهم الإمكانيات ومن لأ يتوفرون عليها ومع ذلك يتوفرون على كنز إبداعي يدفع بهم إلى خوض غمار التجريب لأشكال فنية جديدة. الستريت آرت توقيع جسدي على الحيطان لكن عادل ينهل من الموروث الشعبي ونقله على الحيطان أو اللوحة. من هنا تمكنه من ميثولوجيا المنمنمات التي كانت تزين غرف النوم أو الصالونات وتلعب دور حرز واقي من العين. ولنا في صور سيدنا علي وراس الغول، أمنا حواء وبونا آدم والبراق الخ…أحسن مثال. فيما يخص البراق أنجز عادل تركيبا مميزا لميثولوجية هذا «الكائن» الغريب-العجيب. استعادة عادل لهذه الميثولوجيا تقربه من الموروث الشعبي ومن بعدها القدسي. في البداية أبدى الجمهور بعض التحفظ تجاه هذه الصور المثبتة على الحيطان، لأنها تخدش الأخلاق، لكنه ما لبث أن تعود عليها وطالب البعض منه الاستيلاء على حيطان الحي الذي يقطنونه. على أي لم يأخذ هذا الفن حقه ومكانه بعد. لكن هناك أمل في أن يصبح تيارا فنيا قائما بذاته.

سمير التومي من مواليد الرباط لكنه نشأ بالدارالبيضاء. ويعرف باسمه الفني تحت اسم أرامو هو فنان عصامي يجد مساره في أصول رياضة كرة القدم. منذ حداثة سنه عبر عن حبه لفريق الوداد البيضاوي من خلال تخطيطات على الحائط. من تم تزايد اهتمامه بالستريت آرت. ويلقي إرامو الضوء على مشاهد من الحياة اليومية المغربية… هذه المشاهد التي تحمل طابع النوستالجيا والمصداقية . يحتل ما هو أنساني مكانة أساسية ترافقها ألوان تذكرنا بالذكريات الدافئة. وهو يدعو الجمهور إلى السفر عبر حكايات تطبعها رقة التقاسم ولحظات معلقة يلتقي فيها الماضي والحاضر ضمن هارمونيا رقيقة. يشتغل إرامو الآن على قطعة الصابون كمادة أساسية تحيل استعاراتها بالدراجة المغربية إلى معاني كثيرة. يقال «دارو ليه الصابون» أي انتزعوا منه حقه». رمزية السلب والنهب متضمنة في هذا المعنى. «ثم لي ميل وانجذاب إلى الشمع الذي ينير الحياة ويستمر في الإنارة إلى أن تنطفيء الحياة» يقول إرامو. للشمع قداسة خاصة نجدها في كل الأديان لكن في ديانة الإسلام تأخذ أبعادا طقوسية خاصة ولا زالت حية في المخيل الشعبي.

مع أشرف خالص نلج عالم الجسد والجسد المثنى الذي يخاطب ويستدعي إشكالية الجندر. أشرف خالص فنان ذوي تخصصات عديدة بحيث يمارس التصوير الفوتوغرافي، الرقص المعاصر والمسرح . خلال السنوات الأربع الأخيرة، طور توجها خاصا ومميزا ساعده على مساءلة الروح الإنسانية والدينامية الاجتماعية عبر مختلف الوسائط الفنية. بدأ مشواره الفني في سن الثانية عشرة لما لاحظت والدته فضوله وأهدته آلة تصوير تعلم بفضلها التصوير الفوتوغرافي مخلدا لحظات هامة بين الدارالبيضاء والجديدة. لما اقتنى أول هاتف محمول تحول الشارع إلى مجال لرؤيته وملاحظته . جاءت الكائنات التي صورها بصيغة المجهول. وباتكائه على نظريات كارل يونغ وجان بيجي طور فهمه واستيعابه للنفس البشرية ولتطور التصرفات الاجتماعية. ساعدته تأملات ألبير كامي على استكشاف العبث وكانت لنظريات سارتر في الموضوع أثر قوي في تصوراته يضاف إليها تأثير كل من غوستاف لوبون وأبحاثه عن الحشد أو الجمهور. يشير أشرف إلى أن السلسلة التي يشتغل عليها هي الأولى التي أنتجها عن موضوع سيولة ومرونة الجندر. «استلهمت هذا المشروع من المجموعات التي كانت تربطني بها علاقة حيث ساءلت طرق عيشهم وحياتهم، مرونتهم في المجتمع، أسلوب تأقلمهم. لاحظت أن الناس تلبس قناعا من البلاستيك تتخفى من ورائه. في الأفق تبقى التيمات التي تراودني هي الهوية، المركب، كيفية تفكير الناس، ما يجمع بينهم في الذاكرة الجماعية سواء منها الفردية أو الجماعية. الهوية هي في الواقع هويات وأنا منغمس في أحضانها. ثمة قضية يعاني منها أغلب الفنانين الشباب هي قضية العوائق والصعوبات بحيث يكرر من هم في موقع السلطة الفنية إنجازاتهم ولا يهتمون بما أنجزه وينجزه الشباب. بالمغرب ثمة عراك دائم وعليك أن تقوم وتنفذ كل الأشياء حسب إمكانياتك. ومع ذلك فالشباب «يتقاتل» في الحقل الفني بما أوتي من إمكانيات ووسائل.