مسرحية “ريحة الليل”: قراءة في الشكل والدلالة

مسرحية “ريحة الليل”: قراءة في الشكل والدلالة

جمال الفزازي

         شكل عرض مسرحية “ريحة الليل” لفرقة ديوزينوس، بمراكش، حدثا فنيا استثنائيا بهذه المدينة، وذلك، لاعتبارات منها: غياب مسارح تليق بمدينة لها ذاكرة عريقة في الحكي والمسرح، ولكون العرض منجزا دون دعم مالي من مؤسسات الدولة، وأيضا، لأنه ينأى بنفسه عن المسرح الفكاهي الذي “يتسول” شرائح من المجتمع باسم الكوميديا، مقترحا فرجة مختلفة معرفيا وجماليا بدءا من عتبة العنوان.

  • مفارقة العنوان:

     ينبني العنوان على مفارقة تقابل بين المدرك بحاسة العين “ظلام” والمدرك بالشم “ريحة”، وهذا الإسناد الاستعاري (إسناد الرائحة لليل) يخفي مجاز الكناية عن موصوف، يتمثل في كون الرائحة دليلا على إخفاء جريمة في جنح الظلام، كما قد تكون  رائحة الدخان  مؤشرا على إكرام العابرين ليلا.. أو تكون الرائحة أثر عطر فاضح للعشق والعشاق… الخ ولا تخفى الشحنة الدلالية للهجة الدارجة بحيث يشير التعبير “ريحة الليل” إلى وضع غامض ملتبس بفعل وقوع محجوب عن النظر، بسبب الليل أو محظور حافز على البحث وإضاءته.

  • ملخص نص العرض:

     (ريحة الليل) فضاء درامي لممارسة عنف مادي ورمزي تكابده ثلاث شخصيات، مسكونة برهاب (الأعور) وما يسببه لهم من وساوس قهرية محكومة بمصائر قاسية. وهي:

  • البحار والنقابي عباس “تشخيص مهدي حلباس”، توهم اغتيال “الأعور” لزعيمه البحار النقابي الذي كان يجسد حلمه في التحرر
  • المحارب القديم “تشخيص نجيب عبد اللطيف” لم يرث من الحرب الهند الصينية سوى الخرف ورهاب “الأعور” كابوسه المتكرر في المنام واليقظة.
  • المشرد المدمن “تشخيص أبو جمال لحجاب” مدججا بالسكين، لا يفتأ ينتقم من زوجته/الدمية بسبب استيهاماته المرضية متهما إياها بخيانتها له مع الأعور اللعين الذي تسبب في إجهاضها المتكرر.
  •  نص ملغز:

نستنتج مما سبق أن “الأعور” هو القوة الفاعلة الأكثر حضورا في الخطاب المسرحي رغم غيابه البدني على الركح، لأنه المحور الموجه لكل القوى الفاعلة نصيا، بل هو السلطة الرمزية التي تتناسل منها كل المحكيات والأحداث والأزمنة والأمكنة، تتفاعل في أخيلة الشخصيات وأفعالها الدرامية برؤيا نقدية وعبثية.

إنه نص ملغز يثير أسئلة نفسية واجتماعية ووجودية ويفترض قراءات متعددة بأنساق تأويلية متنوعة أهمها:

  • قراءة نفسية: توجهنا المسرحية إلى قراءة نفسية للشخصيات الثلاث التي أصيبت بأعراض رهاب الأعور، ما يجعلنا أمام حالات مرضية متداخلة كالاكتئاب والفصام والوسواس القهري والذهان والعصاب ويتبين أنهم مرضى يعرفون أنهم مرضى أحيانا، وتنتابهم سرعة الإثارة بالأوهام وانحرافات المزاج إلى حد الاندفاع اللاإرادي نحو القتل أو الانتقام من صورة “الأعور” المتوهمة، كما يمكننا اعتبار الأعور صورة رمزية للأنا الأعلى الذي تشكله الطبقة المستبدة مالكة الرأسمال والسلط التشريعية والتنفيذية والإعلامية والقضائية..

ولا شك أن هذا المنحى القرائي سيجعل المسرحية تضيء أمراضا نفسية وعضوية يمكن تشخيص أعراضها وعاداتها ونزواتها وطبائعها لمعالجتها أو الحد من آلامها، بحيث يتساوى الفقراء والأغنياء في الإصابة بالوسواس القهري، وبالتالي قد ينغلق المعنى على اعتبار العلة المرضية فردية نابعة من الجسد ذاته، وليس من عوامل خارجية سياسية أو ثقافية أو اقتصادية.

  • قراءة اجتماعية: المسرحية -من منظور آخر- تكشف ظواهر اجتماعية في مجتمع مغربي اختلت موازينه الأخلاقية والقيمية، وانحدرت بالشخصيات لتدحرها في دوامة الأعطاب السياسية والاقتصادية والعائلية والمؤسسات التعليمية والصحية والقضائية…

ويتخذ هذا المنظور مداخل أهمها القراءة الماركسية التي ترى في المحارب القديم حطبا في طاحونة الرأسمالية التي أنتجت صراعا استعماريا إمبرياليا لبست فيه البورجوازية الغربية لبوسا إقطاعيا مدمرا للشعوب والأفراد على حد سواء.

فبالنسبة لشخصية النقابي، شكل اغتيال الزعيم النقابي حدثا صادما له، ليضع الذاكرة النقابية أمام أسئلة الاغتيالات السياسية لزعماء نقابيين غيروا مسارات مجتمعات، بإرادة الحرية والعدالة.

أما القراءة السوسيولوجية فيمكن أن تؤشر على الوضعية المعيشة للشخصيات مثيرة مسائل عديدة ومتشابكة مثل التشرد والطلاق والإجهاض والتربية والتقاعد… إلخ، وإذا كانت الشخصيات تعاني من استبداد الأعور فإن المرأة تعاني من الأعور ومن عنف ضحيته الجانح المشرد السكير، ومن علاقة التشييء والتسليع بعد أن صارت مجرد دمية بلاستيكية بلا روح.

من هاته الزاوية القرائية، يمكن مساءلة الدولة والمجتمع لافتقارهما إلى مؤسسات اجتماعية إصلاحية وحقوقية متعلقة بالمرضى العقليين والمهمشين كالعجزة والنساء والعمال والمتقاعدين أو المدمنين.

نستنتج ان الصراع الاجتماعي -النفسي تذكيه الفوارق الطبقية والقيم المحافظة وتشعله الاختيارات السياسية المستبدة اللاإنسانية.  

  • قراءة وجودية: لا يتعلق الأمر بقراءة بل بموضعة الخطاب العرضي في حاضنته الفلسفية لأن مسرح العبث وقرينه القسوة، نشأ وترعرع في مقامات التيار الوجودي، هكذا يمكن وضع مقارنات بين “ريحة الليل” و”في انتظار غودو” EN ATTENDANT GODOT فإذا كانت شخصيات بيكيت BECKETT ترى في غودو موضوعا للرغبة أي أملا موعودا، فإن الأعور يشكل عاملا معيقا للشخصيات الثلاث، فهما معا قوتان فاعلتان غير متجسدتين فوق الركح، غير أن “الأعور” قوة سلب و”غودو” قوة إيجاب، وشخصيات المسرحيتين تشترك في العيش في الوهم لكل منها تجربة وجودية خاصة ومتفردة، وبلغة سارتر SARTRE فإن الإله قد تركها تكابد اختياراتها وتجتر مصائرها لوحدها، حيث الآخر هو الجحيم، وبرؤية ألبير كامي A.CAMUSفإنها تعيد إنتاج أسطورة سيزيف  SYSIPHE، فكلما اقتربت من الإيقاع ب”الأعور”، كلما خاب توقعها، عادت إلى نقطة الصفر، لتعيش في دوامة آلام لامتناهية. وجدير بالملاحظة أن الكاتب وضع الشخصيات في وضعيات القسوة تتيح لنا أن نستعير ما قاله أرطو A.ARTAUD عن وظيفة المسرح الأسطورية، من خلال سعي الشخصيات بتفجير العمق الحيواني في الإنسان صمتا أو صراخا .. الخ، والتنفيس عن الاستيهامات الميتافيزيقية وبالتالي جسدت جسر تقاطع بين الوقائع والأحلام والمكبوت والمقموع ، من ذلك ما ردده  المحارب القديم:
  • ” واش حنا كاينين؟ علاش بوغطاط يديه باردين؟ وإذا قتلنا الأعور آش غاد نديرو؟”
  • أو الصراخ “الدم اكحل، الدم فالرية “

 ويجسد “الأعور” فعلا هذا القرين le double الذي يتردد على هيأة شبح تاركا لوثته في الشخصيات الثلاث: المرايا المتقابلة  

  • ريحة الليل” تُشَرّحُ الذوات وتعري الأقنعة…

 بناء عما سلف، نعتبر “ريحة الليل” مسرحية ممتعة جديرة بالمشاهدة والتأمل، مسرحية تذهب بالواقعية إلى حد القسوة، وبالسخرية إلى تخوم العبث، فالشخصيات لا تجد ما تحكيه للمشاهد سوى ذواتها المنسية في الشارع والليل، لتعري أقنعة عديدة منها قناع اللاشعور والمرض العضوي وأقنعة السياسي والنقابي المستبد أو الرأسمالي المتوحش أو قناع سادن الأضرحة، وراعي الخرافات، ومحيي الوحوش التي لم يتم دفنها في الماضي بشكل جيد.

  • التشخيص ودوّاَمة العبث:

الملاحظ هو أن الممثلين وهم يحكون وساوسهم ورهابهم من “الأعور”، لا يكفون عن تكرار منظومة التحركات والحركات المتشنجة، بقدر تكرارهم لبعض المقاطع النصية الحوارية عن الأعور لإبراز دوامة العبث التي تسيج الشخصيات، حيث لا وجود للبطل، إنها كائنات تجردت من أسمائها، والاسم الوحيد “عباس” نجهل سيرته تماما… وبالتالي، فما يهم في هذه المسرحية العبثية هو الكينونة لا الكائن بمحدداته في السجلات الرسمية، وقد أبدع الممثلون في تشخيص أدوار متباينة حركيا، ولاحظنا كيف أن التشخيص ارتكز على الجانب الأيسر، حيث عمود الإنارة جامعا النقابي والمحارب القديم، مما جعل الركح غير متوازن نسبيا، تاركين الجهة اليمنى للمتشرد وعربته، أما وسط الركح، فلم يشكل بؤرة مشهدية إلا في مشهد “نوسطالجيا الأم” وقد أجاد فيه الممثلون إبراز سيماهم التعبيرية الوجهية والحركية، مبرزين مشهدية تذكر أمهاتهم بكثير من الشجن ، كما برع مهدي حلباس  ونجيب عبد اللطيف بصوته الجهوري في تشخيص المشاهد الثنائية المتعلقة بأثر الأعور الرهيب، وأبدع أبو جمال في تشخيص التمثيل بجثة الأعور إلى درجة القسوة.

  • السينوغرافيا وفضاء اللعب:

أكيد أن متتبعي هذه المسرحية قد لاحظوا أن السينوغرافيا البسيطة ساهمت في تيسير فضاء اللعب، مستثمرة ديكور عمود إنارة الشارع العام لإضاءة المكان، والكشف عن وضع الشخصيات البئيس، وتعرية بواطنها النفسية، وما تبقى أكسسوارات وظيفية: أكياس يحفظ فيها عباس أسرار اغتيال زعيمه النقابي… وعربة تحمل دمية “زوجة المتشرد” وسطل لإحراق الأوراق السرية…

وإذا كان لباس وماكياج كل شخصية وظيفيا، فإنه، رغم ذلك، يحتاج إلى تجويد، خاصة المتشرد السكير الذي كان بالإمكان “تقبيح صورته بالأوشام وآثار الجروح… والانتباه إلى أن هاته الفئة من الشرائح الاجتماعية هي الأكثر إنتاجا للفكاهة والنكتة المفترض كتابتها في النص الأصلي والاشتغال على الرقص والغناء أكثر حتى تكون صدمة الأعور أقوى وفجائية، كما أن توظيف الكيسين بالنسبة للنقابي يحتاج إلى اشتغال أعمق فضلا عن الأعطاب التقنية التي كانت تصيب عمود الضوء، وتفرض على شخصية المحارب الخروج من الدور، ولعب دور التقني… وإذا كانت الإضاءة شاملة في معظم العرض، فإن أهم التأثيرات الضوئية الوظيفية تحققت بحصر دائرتها حين الحكي عن الأم وعمود الإنارة وسطل النار… لكن العرض كان يحتاج إلى إضاءة تركز على الوجوه لإبراز ملامحها القاسية، وخلق حركية إضاءة /إظلام بتنويع زوايا الإضاءة ومساحاتها وقوتها لبناء إيقاع عرضي مع نظام التصويت المستقى من بيئة الشخصيات الموسيقية وقد تحقق فقط في مشهد المتشرد عازفا على “آلة الكنبري”.. وذلك لفتح العرض على جماليات أكثر إيحاء وتأثيرا في المتلقي.

  • إخراج بأقدار “دموية”:

لا شك أن الإخراج تمكن من إبلاغ رؤيته إلى العالم انطلاقا من التحكم في فضاء اللعب لشخصيات تعيش سيولة زمانية ملتبسة ومكانا غير محدد، فالهنا ملتبس بالهناك، والماضي مقنع بالمستقبل، والمتفرج وحده يتابع صورا تراجيدية لكائنات تكابد التيه والاغتراب دون أن يستطيع إنقاذها من أقدراها ” الدموية” ولو بتكسير ما أسماه بريشت بالجدار الرابع.

  • نخلص، مما سبق، إلى أن “ريحة الليل” -العرض أول – اكتسب قوته من تأثير التشخيص، ومن نسيج النص المسرحي، وإعادة بنائه بناء دراميا بخطاب معرفي وجمالي بليغ، في انتظار ان يتم تجويد نظام الإضاءة والمؤثرات الصوتية في العروض المستقبلية لمنح الرؤية الاخراجية بعدا فنيا أكثر اتساقا وتأثيرا.

__________________________________________________________________________________________________________________________

  • مسرحية (ريحة الليل) عرضتها  فرقة ديونيزوس في مراكش بقاعة فاطمة المرنيسي مؤسسة العراقي يوم السبت15 نوفمبر 2025
Visited 34 times, 34 visit(s) today
شارك الموضوع

جمال الفزازي