المعطي قبال يفكك تصور علمين من أعلام الاستعمار الفرنسي..

المعطي قبال يفكك تصور علمين من أعلام الاستعمار الفرنسي..

 وادي النون – حميدة معاشو

بيار لوتي الشاهد على التحولات العميقة للمغرب

           عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء، تنزل على رفوف المكتبات للكاتب والصحفي ورئيس التحرير المساعد لـ”موقع السؤال الآن” دراسة بعنوان «في الحميمية الكولونيالية لفاس: بيار لوتي وغايتان غراسيان دو كليرامبو»، تجمع بين الريبورتاج الحي، تاريخ الرحلات، السرد الأدبي، الفن الفوتوغرافي والتحليل الإثنوغرافي للباس المغربي، وبالأخص الحايك بصفته زي المرأة المغربية. وبذلك تكون الدراسة قد عالجت أحد الجوانب المنسية في الثقافة المغربية.

 اختار المعطي قبال علمين من أعلام الأدب والطب النفسي يمثلهما كل من بيار لوتي وغايتان غراسيان دو كليرامبو. فالاول كان أحد كبار رحالة القرن التاسع عشر حيث جاب الشرق الأوسط، الشرق الأدنى وبلاد المغرب العربي وبالأخص المغرب الأقصى. كان بيار لوتي أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية، كما شغل منصب ضابط بالبحرية الفرنسية.

 ولد بيار لوتي باسمه الحقيقي جوليان فيو، في 14 من يناير 1850 بمدينة روشفور وتوفي في 10 من يونيو 1923 بمدينة هونداي. كانت رحلاته سندا لمخياله الروائي حيث نهل منها نصوصا روائية أصبحت تدرس بالمدارس والجامعات مثل رواية «زواج لوتي» التي حضرت فيها بلدة تاهيتي أو السينغال الذي ألهم نصه: «رواية الوحدة العسكرية الفرنسية» أو اليابان الذي وفر المادة لرواية «مدام أقحوان» لكن تبقى تركيا بعبقها الإيروسي ملجأ مخياله حيث ألف عام 1879 روايته الشهيرة «أزيادي» ورواية «شبح الشرق». وعليه تبقى أغلب رواياته نصوصا أوتوبيوغرافية. بعد عدة سنوات من الأشغال سيدشن بيته ب «روشفور» مدينة الولادة في شهر يونيو. علاقة بيار لوتي بالمغرب علاقة افتتان وتبرم، يتزاوج فيها الانبهار بالطبيعة، السذاجة بالجهل  الخ… وخلال الرحلة لم تتوقف الأمطار عن التساقط، مع تبرمه من المواطنين الفقراء، البؤساء المنغمسين في الدين والعبادة.

 ثنائية التناقض هذه هي ما يتكرر في تحقيقه. يسعى المعطي قبال إلى الإمساك أولا برأس الخيط لسرد دواعي ودوافع رحلة لوتي للمغرب التي توجها كتابه «بالمغرب» الصادر عام 1890 وهو عبارة عن تحقيق (روبورتاج) نشرت حلقاته بالمجلة اليمينية الكولونيالية آنذاك «ليليستراسيون» l’illustration لما عين جيل باتنورت سفيرا جديدا لفرنسا بالمغرب، طلب في البداية من القاص والروائي غي دو موباسان مرافقته في رحلته الديبلوماسية لفاس لتسليم أوراق اعتماده للسلطان مولاي الحسن الأول. كانت فاس العاصمة الديبلوماسية التي تتردد عليها البعثات الأجنبية ورجالات الاقتصاد لعقد صفقات مع المغرب. كما كان المغرب محط أطماع من طرف الدول العظمى. إلا أن غي دو موباسان رفض اقتراح السفير الفرنسي الذي توجه بخطاب لبيار لوتي مبديا إعجابه برجل الآداب وبالرحالة الذي يرجع له الفضل في اكتشاف مجتمعات غير معروفة مألوفة لدى الفرنسيين. وعد السفير بيار لوتي بتوفير الإمكانيات اللازمة مع ضمان حرية القلم في كل ما يكتبه عن البلد.

 كانت فرنسا تسعى إلى التسلل إلى المغرب وبسط هيمنتها على المرافق الاجتماعية والاقتصادية. سعى السفير إلى الحفاظ على التقليد النابليوني القاضي بمرافقة الأدباء والعلماء للبعثات الديبلوماسية أو للهيئات العسكرية. لم يتردد بيار لوتي في قبول الدعوة وكان ضمن بعثة ضمت طبيبا و17 شخصا. في 19 من مارس غادر بيار لوتي روشفور ليلتحق بمدينة بيربينيون ليتوقف يوما لزيارة المدينة والتمتع بالهدوء، العزلة، والشهوانية. خرجت السفينة في 26 من مارس وكانت في اسم «سيتوري» لتصل في نفس اليوم إلى جبل طارق ثم طنجة.

 أهم شيء أثار انتباه لوتي عند وصوله إلى طنجة هو الصمت والهدوء اللذان يخيمان على المدينة. سجل أن مدينة طنجة كانت وكأنها «تعتمر كفنا أبيضا». قام بجولة على أطراف المدينة وبالأخص على السوق الكبير. يشدد لوتي على «مفرخة» الجواسيس التي تعج بها المدينة. لم تستهويه كنج نظرا لحداثتها الواهية والوهمية. كان يميل إلى كل ما هو تقليدي وعتيق. بما أن القافلة المكونة من أحصنة، جمال، بغال سجلت تأخرا في رحلتها لفاس، انتهز الفرصة لزيارة مدينة تطوان التي وجدها على تقليد أصيل، أهدأ وأنظف من طنجة على الرغم من الشحاذين والبؤساء والبراز الذي يلطخ المسارب.

 على أي تحظى المدينة بتوصيف جيد. في 4 من أبريل انطلقت القافلة لتستسلم لرحمة المطر، الرياح والبرد. حتى بفاس كانت القافلة على موعد مع المطر. سجل لوتي انطباعاته، عن البلد العميق الذي قد يستسلم إلى رحمة السبا المناهضة للمخزن، عن ملاحقة المتسيبين وقطاع الطرق. يركز الحديث عن ولاءات القبائل للقصر والتي تستقبل قافلة السفير، بتقديم وجبات الغذاء والعشاء بالمستوى اللائق. لما دخلت القافلة مدينة فاس، خرج المواطنون لاستقبالها. عبروا عن حالة يمتزج فيها الحقد تجاه هذا الوفد من النصارى باللامبالاة ورغبة الفضول.

خلال حفل تقديم أوراق الاعتماد كان البروتوكول خفيفا وسريعا. جاء توصيف بيار لوتي مثخنا بالسريالية التي طبعت الحفل: المطر، الأحصنة البيضاء، جوقة العازفين وهي تصدح بموسيقى نشاز، هرولة الأحصنة بعد هطول المطر الخ… نزل لوتي لوحده في بيت وضعه تحت تصرفه ليناريس، طبيب السلطان الذي عمل بالقصر الملكي. يميز لوتي بين فاس وبين السلطان الحسن الأول الذي ابدى في حقه إعجابا كبيرا نظرا لتمسكه بالتقاليد، رفضه للحداثة التي تطالب بها القوى المتواجدة بالمغرب بل وحتى السفير الجديد لم تعجبه فكرة دفاع بيار لوتي عن السلطان وأفكاره الرجعية التقليدية. تزيا بيار لوتي بالجلباب والنعل والطربوش المغربي. ولم يكن هذا التظاهر من باب الإيكزوتيكا السياحية بل تأتى من عمق تصوره واندماجه في قيم الحضارة المغربية. 

أهدى السلطان بيار لوتي سيفا مرصعا بالذهب وبندقية. يمثل السلطان الحسن الأول في نظره الرجل المتشبث بالإسلام، الملك المناهض لابتكارات العلم والتكنولوجيا الحديثة من سكك حديدية، برلمان، صحافة ، طرق معبدة الخ… فهو مبتكر المخزن العميق. وهذا التوجه هو الذي  استمال بيار لوتي. وفاؤه لما هو تقليدي يتجسد في تعلقه أيضا بـ «الشرق البدائي» الذي دخل في حقبة  التفكك وشرعت القوى العظمى في نهش جسده. تماهى مع المشارقة باللباس وابدى عشقه المطلق لمحبته آزيادي التركية التي جعل منها بطلة روائية استأنس بها الغرب وبالأخص فرنسا. في الثامن والعشرين من أبريل 1889 غادر بيار لوتي مدينة فاس. عرجت القافلة على مدينة مكناس التي خصها بارتسامات لامعة.

قضى لوتي ما مجموعه 6 أسابيع بالمغرب ألف خلالها تحفة أدبية، فنية، سياسية تخبرنا عن المجابهة بين المخزن والقبائل المتمردة أو الداعية إلى السيبة، تخبرنا أيضا عن المغرب، « بلد السرعتين » قبل أن يدخل في السرعة السريعة وتبسط الحماية الفرنسية سلطتها على البلد.

فاس وجمالية الحايك

      لا توجد اية علاقة بين بيار لوتي وغايتان غراسيان دو كليرامبو، الطبيب النفساني، الشاعر والمصور الفوتوغرافي. فارق السن بينهما يناهز 22 سنة ولم يتعرف الواحد منهما على الآخر. إن كانت زيارة لوتي لدواعي ديبلوماسية، فإن زيارة دو كليرانبو تمت لأسباب طبية. وهو على جبهة القتال بشمال فرنسا، تلقى هذا الأخير رصاصة في الكتف استدعت إرساله إلى مدينة فاس لفترة نقاهة. كما كلف بمهمة إعادة تأهيل وتنظيم المستوصفات الطبية التي كانت في حالة يرثى لها. وصل دو كليرانبو إلى المغرب وقد سبقته شهرته كعالم فائق الدقة وطبيب نفساني دقيق ورؤي وبالأخص «شغيل لا يمل». بالمغرب، بقي على الهامش ولم يخالط مجموعة التحليل النفسي والطبي المقيمة بالأساس بمدينة الدارالبيضاء. يذكر المعطي قبال أن دو كليرامبو لم يكن مستشرقا على نمط لوتي الذي كان دائم الحراك عبر القارات، بل كان راصيا إما بمكتبه وإما بالمستشفى. كما كان يراوح مكانه بحديقة بيته الواقع بمنطقة مالاكوف بباريس. سبق له أن زار بعضا من المدن مثل الدارالبيضاء، مراكش، آزرو، ازمور، مكناس. لكنه أقام لمدة 5 سنوات بمدينة فاس حيث اشتغل على لباس الحايك وقام بأخذ قرابة 40 ألف صورة لموديلات نسائية يرتدين اللباس المغربي وبالأخص الحايك الذي رأى فيه مرآة  للصنعة المغربية.

للإشارة فإن دو كليرامبو يعتبر الأستاذ بلا منازع لجاك لاكان. فهو سليل أصول من نبلاء مدينة تورين. ينحدر من  والدته من جهة الكاتب الفريد دو فينيي ومن جهة أبيه من الفيلسوف رونيه ديكارت. تابع دراسة الطب وتخصص في التحليل النفسي وابتكر «عرض الإيروتومانيا» (العرض الجنسي) والذي أصبح يعرف بـ «عرض دو كليرامبو». إن عايش بيار لوتي مغرب ما قبل الحماية مع التصادم بين قوى المخزن وقوى السيبة فإن دو كليرامبو عايش مغرب الحماية الفرنسية والتفكك الذي احدثته في البنية الاجتماعية والسيكولوجية للمجتمع المغربي. وقد مهد مولاي عبد العزيز لهذا التفكك. مع نظام الحماية انتقل ثقل السياسة من فاس إلى الرباط التي أصبحت عاصمة البلاد. ومع ذلك بقيت فاس المدينة الشريفة والمقدسية، قطبا للدين والعرفان ولم تفقد دورها ومكانتها.

 يبقى السؤال الأساسي الذي طرحه المعطي قبال: هل دو كليرامبو ينتمي إلى المؤسسة الكولونيالية. يجيب ضمنيا بالإيجاب لما يشير بأنه عمل مستشارا تقنيا في الطب النفسي لدى  المارشال ليوطي. تتأتى غواية كليرامبو بالمغرب كون البلد طور صنعة الحايك وهو ما يضفي جمالية فائقة على الجسد المغربي الذي يعرف كيف يلبس، يعتمر ويتزيا بالحايك. هذا التصور نقيض لما جاء في توصيف بيار لوتي لما ركز على الاسمال، الخرق، الجلاليب الصوفية الخشنة التي تعطي انطباعا بالبؤس والتخلف وعدم الجمالية.

بعد عودة دو كليرانبو إلى باريس، لم تعترف به المؤسسة الطبية والجامعية بعد أن كان نجم المدرجات الأكاديمية. اختلى لعزلته المألوفة. إن رجع بيار لوتي من المغرب بأغراض وهدايا تعرض بمتحفه بمدينة روشفور، فإن دوكليرامبو اختار شاهدا للقبر أوصى بوضعه على رأس قبره بعد مماته. لكن عائلته ما فتأت أن أزالته ليعاد نصبه مرة أخرى بعد أن قضت المحكمة بإرجاعه.

في 17 من نوفمبر 1934 وضع دو كليرامبو مسدسه في فمه وأطلق طلقتين أردته قتيلا. هذه الموتة التراجيدية لم تطمس مسار ونتاج دو كليرامبو الذي كان عاشقا شغوفا بفاس وأسرارها الداخلية وإن لم يتجرأ على التجوال في الساحات والأسواق والأماكن العمومية. واليوم كما يذكر المعطي قبال، يحيا نتاج دوكليرانبو في مجالات تعددية في أبحاث اليابانيين، الإنجليز، الهنود الأمريكو-لاتينيين. أما المغاربة فعليهم قراءة هذا النتاج على ضوء تيمات الطيات les plis طيات الحايك وثناياه كما ورد في بعض تحاليل جيل دولوز.

Visited 31 times, 11 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة