الترجمة في المغرب و”عُقْدةُ” الفرنسيَّة

سعيد بوخليط
بمجرَّد طرح سؤال الفرنسية في المغرب، يتوارى نسبيا المنحى الموضوعي، لصالح الأحاسيس الجياشة والعاطفية؛ انحيازا صوب هذه الجهة أو تلك، نتيجة ارتباط سياق هذه اللغة بالفترة الاستعمارية الفرنسية، وماتثيره المسألة من ندوب غير قابلة للاندمال.
تفقد اللغة الفرنسية، ضمن سياق من هذا القبيل، إطارها اللغوي واللساني والابستمولوجي، أولا وأخيرا، كي تغدو منذئذ حَمَّالة أوجه مقارنة مع وضعية لغات أخرى، فتنزاح عن التقويم العلمي المجرَّد الذي يتعامل مع اللغة دون انحياز إيديولوجي مُشَوِّش، باعتبارها منظومة خطاب قوامه علامات لغوية دالَّة تعكس فكر أهلها الأصليين ورؤاهم نحو العالم، على منوال باقي لغات الثقافات الإنسانية الصامدة غاية الآن، التي تجترُّ خلفها تراثا بشريا هائلا؛ على جميع المستويات الحضارية.
لقد اتَّسم النقاش اللغوي في المغرب؛ أقصد تحديدا طبيعة العلاقة مع اللغة الفرنسية، بنوع من الحساسية المفرطة سواء لدى هذه الجهة أو تلك، وكلَّما ازداد ضيق السوق اللغوي وانحصاره، على حساب التعدُّد والانفتاح مع صدارة لغة رسمية وطنية معمَّمة، إلا واكتسي النقاش طابع الدوغماطيقية السياسوية والانحياز المتعصِّب لوجهة نظر بعينها،على حساب تأويلات أكثر بناء وتطويرا وتاريخية.
ضمن هذا السياق، يندرج بالتأكيد سؤال الترجمة من الفرنسية إلى العربية، وترسُّخه بكيفية أضحى معها تقليدا قائما بذاته، جعل المغاربة طيلة كل هذه العقود مترجِمين مجتهدين للمتون الفرنسية في مختلف حقول العلوم الإنسانية؛ لاسيما الفلسفة والنقد الأدبي، بحيث برزت مجموعة من الأسماء الرَّائدة، التي أثْرت حقيقة الساحة الثقافية بمنجزها الرَّصين منذ سنوات السبعينات، كما وضعت اللبنات الأولى على مستوى تكوين أجيال منفتحة بشغف على آفاق الحداثة الغربية، يميِّزها وعي فكري كوني عميق:
عبد الكبير الخطيبي، محمد بنيس، عبد السلام بنعبد العالي، محمد سبيلا، سالم يفوت، إبراهيم الخطيب، سعيد علوش، محمد برادة، مصطفى المسناوي، أحمد بو حسن، محمد البكري، أحمد المديني، محمد الولي، محمد العمري، سعيد بنكراد، حميد الحمداني، عبد الكبير الشرقاوي، لحسن حمامة، خالد التوزاني، عبد المجيد جحفة، فريد الزاهي، عز العرب الحكيم بناني، محمد مشبال.
بفضل مشاريع هؤلاء، من خلال إصدارات شخصية أو المساهمة في نقاش صفحات مجلات “أنفاس”، “أقلام”، “آفاق”، ”لاماليف”، ”بيت الحكمة”، ”الثقافة الجديدة”، ”علامات”، ”دراسات سال”، اكتشف القارئ المغربي، المعتاد على نصوص المشارقة، كتابات مغايرة عن المنحى الثقافي المألوف، دَبَّجتها أقلام أسماء كبيرة في مجالاتها:
جاك ديريدا، لوي ألتوسير، ميشيل فوكو، لوسيان غولدمان، جوليان غريماس، بيير بورديو، جوليا كريستيفا، رولان بارت، تزفيتان تودوروف، جيرار جينيت، ريجيس دوبري، روجي غارودي، ميخائيل باختين، جورج لوكاتش، جان كوهين، خورخي بورخيس، ريمون آرون…
حقيقة، لا يصيب هذه الترجمة من الثقافة الفرنسية، سوى بقايا شظايا القذائف التي توجَّه أساسا وتحديدا إلى النزوع الفرانكفوني، وحجر زاويتها المتمثِّل في الاستناد المرجعي لمرافق الدولة الإدارية ومؤسَّساتها على تبني اللغة الفرنسية، وتهميش العربية والأمازيغية، ثم أبعد من ذلك، السياسة اللغوية فيما يتعلق بتدريس العلوم والمعارف الحديثة في الجامعات والمعاهد العليا، رغم توافق الرأي العام على الإقرار بتخلُّف اللغة الفرنسية مقارنة مع الانجليزية، والمؤشِّرات التحليلية الميدانية تعضِّد ذلك.
بمعنى ثان، جانب الترجمة الموصول باللغة الفرنسية، قد لاتسلَّط عليه أضواء النقد السلبي بذات الكيفية والحِدَّة، مثلما يحدث حيال المعطى الأول، أسّ النزاع اللغوي الدائم، حينما تنزاح المعرفة عن أصالة وعي الوعي وبناء الإنسان، إلى منحدرات الهيمنة الثقافية والسيطرة الطبقية والتبعية الاستعمارية وانعدام استقلال القرار السياسي.
ربما، يغدو بدوره مشكلة وموضوع سجال نقدي، عندما تجري عملية الترجمة من لغات أخرى كالانجليزية والألمانية والاسبانية والبرتغالية، عبر واسطة الفرنسية، يأخذ معها تأويل النص الأصليِّ، منعرجات بدل مراعاته التواصل المباشر، وماتنمُّ عنه المغامرة حسب الرافضين، من إمكانية مضاعفة أخطاء التأويل، فلا ضمانة تذكر بخصوص وفاء المترجِمِ الأول لمعنى النص، لأنَّه قد يسقط في براثن الخطأ، التضليل أو التلفيق.
طبعا، هذه المسألة رغم جانب وجاهتها، تظل مبعث إشكالات حين الرضوخ إلى منطق هوية أو هويات المعنى، وضرورة تكسير المنظورات الشمولية والأحادية.
يأخذ نقاش الترجمة إلى الفرنسية داخل الفضاء المغربي، ثلاثة أبعاد رئيسة:
*إيديولوجية اللغة كأداة للسيطرة والتحكم السلطوي؛
*المشروع الشخصي للمترجِمِ وشغف اللغة الواحدة، تعبيرا عن منطقة الراحة؛
*المشروع الرسمي للترجمة وفق أبعادها المؤسساتية، وحتمية التعدُّد اللغوي.
تظلُّ الإشارة الأولى، مكمن سجال دائم. بينما الثانية، فلا تُطرح هنا بذات الوقع، مثلما ورد سابقا، لأنَّ هاجس الترجمة يحيل أكثر على جوانب مشرقة مثل التثاقف، الحوار الحضاري، التواصل بين الإنسانية، التعريف بتراث البشر، وقيم أخرى من جنس هذا النوع الايجابي جدا، بالتالي تتراجع مستويات النقد أمام هذا الجانب مقارنة مع معطى التوظيف السياسي لاختيار اللغة الفرنسية كلغة مجتمعية حاضرة، جنبا إلى جنب، معيَّة اللغة القومية، وتركِّز منظومة الانتقادات بهذا الخصوص على تقييمات محض معرفية، من قبيل جودة الترجمة أو ضعفها، جدوى المترجَمِ،جدارة المترجِمِين، ثم تأثيرات متونهم بخصوص تطوير هذا المجال أو ذاك.
المؤاخذة الصامتة العالقة ضمنيا، تكمن في ضرورة اجتهاد المترجِمِ كي ينفتح على لغة غير الفرنسية ويثري أثره،فلا أحد بوسعه إنكار غنى وثراء وعمق تراث الحضارة الفرنسية، باعتبارها واحدة من أعرق الحضارات. فقط يحتدُّ النقاش عند التحوُّل من الأفق المعرفي الجمالي إلى الإيديولوجي، واستئثار اللغة الفرنسية بالمجال التداولي قصد بلورة محدِّدات السياسات العمومية،داخل بلد هويته مختلفة.
وجهة منظومة المترجِمِ، مغايرة تماما لمختلف النزعات السياسية الضيقة، لذلك فالتقليد المترسِّخ في المغرب على مستوى الترجمة من الفرنسي، غير معنِيٍّ بتاتا، ويبدو أقرب إلى دلالات قولة كاتب ياسين الشهيرة: ”الفرنسية غنيمة استعمارية”.
حسب معرفتي، بالمشهد الثقافي المغربي منذ زمن طويل، أكاد أجزم بأنَّ أغلب المترجمين الذين أغنوا الساحة بكتاباتهم عن أهمِّ أعلام فرنسا البارزين، ولجوا بوَّابة الترجمة تدريجيا نتيجة إحالات موضوعات أطارحهم الجامعية أو مقتضيات اهتماماتهم الأكاديمية، بالتالي يعتبر أغلبهم خلاصة تكوين عِصامي، أرغمته ضرورات البحث والتأليف على سبر أغوار النظريات الفرنسية نظرا طبعا لريادتها في مجالات النقد والفلسفة والأدب.
وجب إعادة التأكيد، تبعا لمناسبة هذا الحديث، أنَّ مغرب سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات، عرف نخبة قوية راكمت بفضل دأبها على الترجمات الفرنسية، متونا معرفية مهمَّة للغاية.
أما بالنسبة للإشارة الثالثة، التي تحيل على قضية المشروع الرسمي للترجمة، وحتمية تخصيب التعدُّد اللغوي ومأسسته، فإنَّها مصير مشروع مجتمعي متكامل يفترض مبدئيا امتلاك الدولة لرؤية فكرية عميقة، ممتدَّة في الزمان والمكان، تضع الإنسان في قلب مخطَّطاتها، توجِّه بوصلة السياسي والاقتصادي كي لا يضيع التَّوازن المطلوب، حينها تغدو الترجمة مؤسسة وطنية كبيرة منظمَّة هيكليا تحكمها سياسة ثقافية شاملة، تفتح أوراشا بنَّاءة، بهدف فتح حوار لا يتوقف مع لغات كثيرة، وترسيخ أفق نهضوي من أجل تطوير الإنسان، البنيات، السُّلط، الرمزيات، فلا نهضة ولاتقدُّم ولاتاريخ يسير سوى من خلال عوالم الترجمة، والمختبرات الفكرية الجماعية المؤسَّساتية التي يفترض وجودها أبدا ودائما، تمدُّها الدولة بمختلف الوسائل اللوجيستيكية والمادية قصد إنجاز النَّقلة النوعية المطلوبة عبر جسر الترجمة وإبداع المترجمين. تتعدَّد لغات العمل، تتجاوز جدليا حضور لغات بعينها، نحو غاية إرساء مرتكزات مجتمع حيٍّ وقويٍّ باختلافه.
في خضمِّ هذا الاجتهاد الجماعي، ضمن واجهته اللغوية، يشتغل كل مترجِمٍ دون عقدة نفسية؛ إن صحَّ التعبير، منكبّا بأريحية على ترجمة نصوص اللغة الأجنبية التي يعرف قراءتها وتأويلها جيدا، أكثر من غيرها، حتى لاأقول يحسنها كتابة وتكلُّما، ثم يصبّ رافد منجزه وجهة بوتقة صميمة، جعلها أيضا زملاؤه داخل الوطن، مترجمو لغات أجنبية أخرى، نواة محفِّزَة لتطلُّعات التقدُّم والتطور.
عموما وكخلاصة، يمكن القول بأنَّ حقل الترجمة في المغرب، انتعش أكثر خلال العقود الأخيرة، بإبداعات نصوص لغات غير الفرنسية، وإن بقي التقليد مهيمنا بخصوص العناوين الصادرة واستئثاره بالحصة الوافرة. هذا المكوِّن، يظلُّ في منأى عن الانتقادات التي انصبَّت على تغلغل اللغة الفرنسية والتيار الفرانكفوني على أجهزة الدولة والمؤسسات التعليمية على حساب العربية و الأمازيغية.
الاستنتاج الثاني، يستدعي حتمية الورش الجمعي للترجمة، حسب المشروع المجتمعي الذي يضع المعرفة سلطته المرجعية الأولى قصد التطور والبقاء. منظومة ترعاها توجهات الدولة العامة، تجعل منها مختبرا للتفكير في مختلف القضايا المجتمعية، وكذا الإجابة عنها بلغة حديثة، جادة، منفتحة، تعبِّر عن الاهتمامات والأذواق والقدرات، وتطرح أمام المجتمع وجهات مشاريع تغني إنتاجه الجمعي.