الكاتب المُجِدُّ والكاتب الكَسُول

إلياس الطريبق
الكتابة حرية وتحرُّر، وهي كذلك مسؤولية والتزام. لكن ماذا عن الكتابة إذا ما أصبحت عِبئًا على صاحبها أو فرضا وواجبا لا فكاك منه؟ ومتى تصبح فعلا الكتابة عِبئا يتبرَّمُ الكاتب منه ويهرب من أوزاره؟
تحكي عبلة الرويني الكاتبة والصحافية عن زوجها الشاعر أمل دنقل أنه كان مُقِلَّا في كتابة الشعر، وكان يمكن أن تَمُر سنة كاملة دون أن يكتب قصيدة واحدة. ومع ذلك فأمل دنقل ترك تراثا شعريا لا يقل عن سبعة دواوين شعرية وعشرات القصائد، الشاعر الذي فجّر طاقته الإبداعية دفعة واحدة ثم رحل وبقيت أعماله حية بعده؛ سواء ديوانه الأول “زرقاء اليمامة” “مقتل القمر”، أو “أوراق الغرفة 8” الذي كتبه في المشفى وهو يصارع المرض.
أما محمود درويش الذي سكن القاهرة ما بين عامي 1970 و 1972م واشتغل في مبنى الأهرام جنبا إلى جنب مع كل من يوسف إدريس ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، فيحكي في حوار أجراه مع الشاعر اللبناني عبده وازن، أن الشخصيتين؛ نجيب محفوظ ويوسف إدريس شخصيتان مختلفتان لا يشبه أحدهما الآخر في شيء، يقول محمود درويش: «محفوظ وإدريس الشخصيتان المتناقضتان: محفوظ شخص دقيق في مواعيده ومنضبط، يأتي في ساعة محددة ويذهب في ساعة محددة. وكنت عندما أسأله: هل تريد فنجان قهوة أستاذ نجيب؟ كتن ينظر إلى ساعته قبل أن يجيب، ليعرف إن كان حان وقت القهوة أم لا. أما يوسف إدريس فكان يعيش حياة فوضوية وبوهيمية وكان رجلا مشرقا».
محمود درويش الذي كان يؤنبه ضميره لتضييعه ثلاث ساعات كاملة في مشاهدة مباراة كرة القدم كما صرح في أحد الحوارات التلفزيونية من كان الأحب إلى قلبه من الرَّجلين؟ محمود درويش الذي كان يستيقظ كل صباح ليجهز قهوته ويكتب… كل صباح. وكأنه موظف في خدمة الشعر كما قال أحد الأصدقاء.
عرف عن نجيب محفوظ الانضباط والصرامة، الفتى القاهري الذي ينتمي إلى أسرة بسيطة تسكن حي الجمالية ومكونة من 11 فردا كان عليه ألا يلتفت يمينا أو يسارا إذا ما أراد تخليص نفسه وأسرته من الحاجة. هكذا صار نجيب محفوظ الروائي الوفي للكتابة، الملتزم بها وبقضاياها، حيث ترك 40 مؤلفا سرديا لعل أهمما الثلاثية وأولاد حارتنا دون أن نستثني البقية، حتى أن نكتة حِيكَت عن صرامة نجيب محفوظ أنه إذا صادف وقت انتهائه من الكتابة وهو على وشك كتابة جملة خرج علي من البيت، ووقف عند كلمة علي، فإنه يضع القلم ولا يكملها إلا في المرة الاحقة لأن الوقت قد انتهى!
وكأن بها ثنائية التلميذ المُجد الذي يسخر منه زميله الكسول في القسم إما بُغضا وإما مداعبة لا تفسد للود قضية.
ساراماغو البرتغالي وغويتسيلو الإسباني كلاهما لا يؤمن بنظرية الإلهام، يؤمنان أن الإلهام هو الجلوس على الكرسي والشروع في الكتابة حتى والرغبة في ذلك متمنعة أو شبه غائبة.
الفنان التشكيلي المغربي فريد بلكاهية، يقول عنه خادمه في قصره البديع بمدينة مراكش، أنه يبتدئُ التشكيل والرسم على الساعة الثامنة صباحا وينهيه على الساعة الرابعة والنصف، كأنه موظف في خدمة نفسه، يعمل في تفانٍ ولا يسمح لأحد بإزعاجه.
فهل الكتابة تتولد بفعل مخاض متجدد وعناية مستمرة وجُهد حثيث، يسترعي أكثر من كتابة؛ تنقيحا، تشذيبا، حذفا، إضافة… أم أنها تنبثق دفعة واحدة كالسيل ثم تنقطع مرة أخرى في انتظار غيث جديد، وخصوصا ونحن نعلم أن عددا كبيرا من الكتاب يكرهون العودة إلى نصوصهم سواء لتنقيحها أو لقراءتها؟
النظرية التي تقول إن الفنَّ قائم على المزاجية والبوهيمية والتحرر، لا تَروقُ الكتاب الذين يَعِدُّون الكتابة مشروعا أو التزاما مع جهات معينة. تصبح الكتابة عندهم شبيهة بطقس ديني أو وظيفة مقابل أجر. بالمقابل هناك فنانون وشعراء لا يضيرهم في شيء إذا ما هم لم يكتبوا سطرا واحدا على مدار أشهر أو سنوات، ولا يلقون بالا لشيء اسمه الحبسة أو هاجس الورقة البيضاء لأنهم موقنون بأن الكتابة ضربة شمس، أو برق خاطف، لا تتنبأ بموعده ولكن موعده حدث باهر، عظيم.