الكفيف ولذَّة الكفوف

سعيد بوخليط
بدأت تنتشر رويدا رويدا حكاية هذا الكفيف، بعد أن لاحظ ساكنة الحيِّ سلوكا مشينا، مارسه في حقِّ الآخرين أو بالأحرى الأخريات على امتداد حقبة زمنية، إلى أن صار متداولا تلوكه الألسن حسب سياقات ومقامات الحديث، بكثير من التفكُّه، بنفس مقدار سخطهم وعدم رضاهم، وصبِّ شتى اللَّعنات على رجل يعيش خريف العمر، يتعاطف معه الناس لعاهته المستديمة، فيسرعون إلى الاهتداء به وإرشاده نحو مقصده، بأسرع مما لو حاول فعل ذلك وحده؛ وربما تعثَّر وسقط.
دأب طيلة الفترة السابقة عن انكشاف أمره، على مغادرة منزله صباحا؛ غالبا بين الثامنة والثامنة ونصف، راغبا في الذهاب إلى المنطقة الأخرى من الحيِّ، المتواجدة عند ملتقى السُّبُل الرئيسة المفضية إلى مختلف دروب المدينة، بحيث يساعده دبيب الحركة وتقاطر حشود العابرين، على الصمود واقفا عند ركن رحب من الشارع والتسوُّل خلال ساعات، ثم العودة مساء إلى بيته الذي يؤويه وحيدا منذ فترة غير بعيدة بعد وفاة زوجته؛ ولم ينجبا.
يترك منزله، يبدأ في نسج الخطى قليلا، ثم يشرع في مناداة العابرين:
-”ياأهل الله! يامحسنين! من يأخذ بيدي؟ أسأل المولى أن لا يحرمه من نعمة البصر والبصيرة معا”. يخفض صوته، كي يهمس بنبرة فاترة:
-”آه! أيُّتها البصيرة”.
يكاد صوته لا يسمع، ويحرَّك شفتيه بكيفية لا يلتقط مضمونها سوى من كان بمحاذاته، دون أن يشعر الكفيف بوجوده:
– ”أيُّها العميان، تتوهّمون ثقب عيونكم بصيرة، شتَّان مابين فقدان البصر ونعمة البصيرة !”
يصمت الكفيف بعدها، يجرُّ رجليه بتؤدة معتمدا على عكَّازه في انتظار من يمدُّه بالمساعدة المنشودة، كي يرفع وتيرة الإيقاع ويبلغ بسرعة قصوى مكان وقوفه اليومي قصد الاستفادة أكثر من صدقات المارَّة، قد لا تكون دائما وفق المطلوب، لذلك عاد غير مامرَّة إلى وكره بدريهمات قليلة؛ بالكاد توفِّر له صحن عدس و كأس شاي، وأحيانا خاوي الوفاض وقد انقضت ساعات سدى مرسلا عبارات استجداء؛تنهل من هنا وهناك، قصد استدرار العواطف وتليين الأحاسيس.
يستجيب أحدهم، يمسك به، يحاول الكفيف لملمة خيوط حديث يستدرج ضمنيا من خلاله صاحب المساعدة إلى عالمه كي تتحرَّك مشاعره أكثر ويبثّ الألفة بينهما، يخفِّف شيئا من عبء مسؤولية الاقتياد، مادامت العملية تبطئ زمن المساعِد؛ وربما كان في عجلة من أمره، غير أنَّ سلطة الواجب الإنساني بدت أكثر إلحاحا. يعرف الكفيف بذكائه التواصلي، مايجول في ذهن مرشده، بالتالي التجأ إلى اصطناع حوار كيفما اتّفق، حتى يخفف من الإحراج وطيِّ المسافة التي رسمها في خياله، ثم بلوغه الوجهة المتوخاة.
غير أنَّ الكفيف، تكتنفه من البداية مشاعر الضجر، إذا وجد فاعل الخير رجلا راشدا، يصعب التخلُّص منه؛ وأحيانا بعبارات أبويّة متعالية، مثلما يصنع بكل يسر عندما يحسُّ بكون الممسك هو طفل أو شاب في مقتبل العمر، بعد أن تحسَّس يده، وسمع صوته، فاستوعب جنس الشخصية الماثلة أمامه:
-”اذهب يابنيَّ إلى حال سبيلكَ، سيعطِّلُكَ اجترار خطواتي الثقيلة عن المدرسة أو العمل”.
إذا صمَّمَ المبادِرُ على مبادرته، وأراد إكمال سعيه، يرفع حينها الكفيف نبرة صوته أكثر، وقد أزاح بسرعة اليد الممسكة:
– ” شكرا يابنيَّ، لقد بلغتُ هدفي، اتركني هنا، ويمكنكَ الذَّهاب”.
في المقابل، يغدو النفور سعادة عظيمة، حينما تقتاد الصدفة امرأة كي تمسك بيد الكفيف، متوخيَّة إرشاده إلى موقعه المعتاد، لحظتها ينتعش وجود الكفيف ويشعر بأنه في كنف نعمة لا يتوقَّعها دائما، لاسيما إذا تركته المرأة يمسك بيدها وتحسُّسِ جلد كفِّها بأريحية، فيغدق عليها خطابا تنويميا بأدعية أبويَّة تجعله ضمنيا في مقام أبيها.
لم يعد حينها، راغبا في نهاية مدى المسافة، مثلما لا يترك حكيه مجالا للفراغ أو الصمت، حتى تستمرّ اليدان ملتصقتين قدر ما يمكن، مبتغى مكمن اللذة كلما استكانت المرأة لحركته أو لحركاته ولم تصدَّه بطريقة من الطرق، ثم تتضاعف سعادته إذا بدا الكفّ أملسا، ناعما، لامرأة مكتنزة ذات أصابع طريَّة.
انقضت فترة زمنية، بدأ أمر الكفيف يفتضح شيئا فشيئا بين حكايات الساكنة، شخص يستثمر عاهته ويستغلّ تعاطف الناس، النساء بالدرجة الأولى ويتحرَّش بهنّ مجانا على طريقته، فأطلق البعض عليه نعت: ”الكفيف عاشق الكفوف”.
إذن، ذاع خبر الكفيف، وطريقة انتقائه الأيادي النسائية بدل الذكورية، غير أنَّ لاأحد تعامل بالحزم مع شذوذ السلوك والجهر علنا بالفضيحة، غاية حدوث الأمر مع عَمَّة أمِّي؛ ذات صباح، فلم تتردَّد قط في دفعه، وجمعت خلق الله كي تشهدهم على أفاعيل كفِّ الكفيف، واستغلاله الجبان للمساعدة كي يستمتع مجانا بطريقة محتالة.
حقيقة، ليس غريبا أن تكون عَمَّة أمِّي جدارا مفصليا، تحطَّمت عليه رغبات الكفيف، وافتضحت أخيرا شخصيته مما اضطرَّه إلى الرحيل عن الحَيِّ.
شخصية فولاذية استثنائية لقَّبناها داخل الأسرة، بـ”جيمي القوية” إحالة على بطلة السلسة التليفزيونية الأمريكية الشهيرة أواخر السبعينات، وأحيانا أخرى نعتناها بـ”الشينيوية” (الصينية) أخت بروسلي الهاربة، نظرا لقرب ملامحها من الآسيويين، لاسيما وأنَّ أخيها الكبير جدِّي من جهة أمِّي، شارك في حرب الهند الصينية .جملة نكت ساخرة، تقتلنا ضحكا خلال تلك الأمسيات العائلية، نظرا لحذقها وحيويتها المفرطين. اشتغلت لسنوات طويلة قبل تقاعدها، خادمة لاغنى عنها، عند عائلة أوروبية مكثت في المغرب؛ بعد مغادرة المعمِّرِين.
كائن يدمن الحركة طيلة اليوم، مثلما عاينت ذلك بأمِّ عيني، طيلة سنوات الطفولة قبل موتها. تستيقظ يوميا الساعة الخامسة صباحا، وتنام بعد صلاة العشاء مباشرة. قاعدة عسكرية، لم تتنازل عنها كيفما جاء سياق الظروف. تنهي أشغال البيت، مع بداية شروق الشمس، طبخا وعجينا، ثم تقضي ماتبقى من ساعات اليوم، منكبَّة على إنجاز حرفها اليدوية كالخياطة والتطريز اليدوي، ولاتتناول أبدا أكلا سوى خلال الوجبتين الرئيستين والاكتفاء بحساء ساخن ليلا.
عاشت بين جدران منزل كبير، تواجد بجانب منزل ثان مهجور من ساكنته، داخل نفق مظلم أشبه بعتبة كهف، لا تعرف له الشمس سبيلا؛ أو ماكان يسمى في مراكش القديمة بـ”الصَّابات”. اكتسحني دائما رعب شديد، كلما بعثتني أمِّي عندها لغرض ما،خاصة ليلا، بحيث يلزمني المشي لأمتار محفوفة جميعها بالمخاطر، كأنِّي داخل قبوٍ لمومياء الفراعنة، قبل بلوغ عتبة الباب، ثم أطرق بلهفة عطشان الصحراء أمام بئر ماء.
بمجرد نهاية الطرقة الأولى، يصدح نباح الكلب الضخم المسمَّى جاك، القابع منذ أن وعيي بحكاية عَمَّة أمِّي، داخل قفص كبير في سطح المنزل، لا يغادره أبدا ولا يعلم من حقيقة العالم سوى رَبَّته، لذلك كاد يلتهمني ذات شغب طفولي حينما تجرَّأتُ وصعدتُ إلى السطح، متسلِّقا في غفلة من الحاضرين السلَّم المترهِّل المعلَّق هواء، ولولا يقظة جيمي قوية لكنت منذئذ في عداد أهل المقابر.
نباح أشبه بعويل ذئب شائخ على امتداد غابات موحشة. أنتظر قليلا، يضاء مصباح خافت جدا، تخيَّلتُ باستمرار طيفا من الأرواح الشرِّيرة واقفا خلفي، سأكتشف ملامحه الرهيبة مع انقشاع أولى خيوط الضوء. كلمّا تأخَّر فتح الباب، تضاعف رعبي وتمثَّلت بين ثنايا تلك الظلمة أشكالا مخيفة عدَّة.
عاشت عَمَّة أمِّي مع ابنتها المتبنَّاة داخل هذا المنزل الكبير الأنيق والنَّظيف والمُرَتَّبِ حقيقة، بغضِّ النظر عن مقدِّمة ولوجه العسيرة، تؤنس صحبتهما قِطَّتان سمينتان في غاية النظافة والأخلاق الحسنة قدر إبائهما وكبريائهما، يكشف وَبَرُهما الكثِّ والرَّطب عن عناية وتغذية، ولازلت أذكر كيف كانت تتجاوب معهما عَمَّة أمِّي لغويا وإيمائيا على نحو مثير للدهشة.
في زاوية أخرى من صحن الدار، تدبُّ بخيلاء عزلة الكبار سلحفاة حكيمة، نحو طبق من بقايا قشور الطماطم والخسّ.
عموما، كانت حياة تلك السيِّدة/الأيقونة، ديناميكية تماما، مغايرة للسائد، مزاجها مختلف، غير مقبلة على جلسات الأسرة، وحتى إن اضطرَّت لا تطيل الجوس، لا تحضر مناسبات سوى لماما وبشكل عابر، لذلك جَسَّدَت نموذجا شاذّا قياسا لنمط الثقافة الاجتماعية المستتبَّة التي نهلت الأسرة منها؛ كباقي الساكنة.
صبيحة نهاية لعبة الكفيف، انطلق كعادته ينادي مثلما دأبت تسخيناته، على فاعل خير يأخذ بيده، لسوء حظِّ المسكين تصادف تطلُّعه مع مرور جيمي قوية، وهي مسرعة نحو سوق الخضر، تجاوبت بسرعة مع دعوته رغم نفورها الشديد من البطء والثِّقل، مدَّت يدها، التقت يداهما، تحسَّسَ الهديَّة المسمومة، افتقدت حقيقة للطراوة المنشودة التي تشعره بالحرارة. مع ذلك، لا ضير، المهمّ هويتها النِّسائية.
فرح الرجل، بهذا الصيد من الوهلة الأولى، بدا يشدُّ ويضغط ويمرِّر، شعرت عَمَّة أمِّي بذكائها الفطري أنَّ الأمر غير أخلاقي، جذبت يدها بسرعة البرق، ثم تداعى خيط شتائمها، تحلَّق حولهما العابرون ومظاهر الاستنكار بادية على ملامحهم وجهة الكفيف المطروح أرضا، لأنَّ سيرته بخصوص الكفوف صارت متداولة، لكن لا واحدة من النسوة اللواتي أتاحت أناملهنّ مرتعا خصبا لانتشاء الكفيف، بادرن إلى صدِّه وكشف صنيعه علنا، غاية مجيء عَمَّة أمِّي، فوضعت حدّا له، وفق بصمة شخصيتها المعهودة.