إلى اللقاء صديقي حسونة المصباحي

إلياس الطريبق
لم أتأثر بوفاة كاتب معاصر كما تأثرت بوفاة حسونة المصباحي، ربما لأنه الوحيد الذي أنعاه وقد كان من رفاقي ذات يوم.
لم أكن قد سمعت من قبل كاتبا عربيا يدعى حسونة المصباحي، كان ذلك في “مكتبة بيت الحكمة” بتطوان قبل ست سنوات. وبما أن لدى الكتاب الكبار الحقيقيين دوما، شيء يجذب إليهم، شيء غامض كالسحر لا يُفسَّر، سيجتذبني غلاف كتابه محن تونسية الذي تزينه شرفة متوسطية قادمة من سماء سيدي بوسعيد الفياضة. اقتنيت الكتاب واستغرقت في قراءته، سأكتشف أن حسونة المصباحي ليس كالآخرين، لغته، عوالمه، تجاربه، مرونة مروره بين الأجناس من كتابة روائية، تاريخ، يوميات، رحلة… كل ذلك، يُعطيه صفة الفرادة بين مجايليه. كاتب يكتب ما يعيش… وكم هم قلة في وطننا العربي !
ليس هذا فقط فالراحل كان صديقا وفيا للمغرب منذ أن اكتشفه في بداية الثمانينات إلى فوزه بجائزة محمد زفزاف للرواية بأصيلة، حسونة الذي عشق المغرب من خلال محمد شكري وإدريس الخوري ومحمد زفزاف والكثيرين…
في ربيع 2021م حل بالمغرب، وقد وصل إلى أكادير، كنت حينها بنفس المدينة، التقينا لأول مرة وكأننا كنا نلتقي باستمرار، تحدث عن الثورة وخيبة الأمل، عن الأنظمة العربية، عن الوحدة المغاربية وعن موقفه الداعم لمغربية الصحراء. وفي حانة على شاطئ البحر، استغرق حسونة المصباحي مرفوقا بسائقه ودليله السياحي في الحديث عن الأدب والسينما بحِسٍّ يَنِمُّ عن مثقف كبير، صاحب ذائقة فريدة، وما أقل كتابنا المثقفين !
رأيت الرجل صاحب موقف ثابت ورؤية نقدية واعية وإن كانت بأسلوب لاذع أحيانا، لكنه كان صادقا مع نفسه، ومتسامحا إلى أقصى حد، وهذا ما يميزه.
سفرُه إلى المغرب الذي استغرق أشهرا هو السفر الذي أسفر فيما بعد كتابه الرحلة المغربية، كتاب يحتفي بالمغرب الثقافي الإنساني السياسي والحضاري. كتاب يُلخِّص قصة المصباحي مع قُطر عربي شقيق، رأى فيه امتدادا ثقافيا وجماليا وحضاريا منذ الصغر.
كاتب مثل حسونة قضى ربع قرن في الغرب وتحديدا في ميونخ الألمانية، بعدما لم تَرُقه باريس عاصمة الأنوار، ذهب حيث المغامرة صفحة بيضاء، وحيث العزلة والصمت وتحديات الاغتراب على أشدها، ذهب حيث يختبر نفسه، ويُتَوَّجَ بعزلته الروحية. أخذ المصباحي عن الألمان الدقة والصرامة، واحترام العمل، وهو الكاتب الذي كان مُحِبّا للحياة، عاشقا للذائذها، مُتحررا من سطوتها عاشقا للتسكُّع والتيه. عاد وأسس زهرة برية لتكون قبلة للمثقفين والكتاب والفنانين وصغار القرية، ينهلون من كنوزها في قلب قريته الذهيبات ومسقط رأسه بريف القيروان. القيروان الكبيرة والصغيرة التي لم تعرف كيف تتعامل مع كاتب من طينه حسونة المصباحي فتجاهلته.
مع ذلك سيظل المصباحي خالدا في نفوس محبيه وقرائه وأصدقائه، هو الذي لم يؤسس عائلة صغيرة له ولكنه ترك عائلة كبيرة من أبناء إخوانه وأخواته والعشرات من كتبه ومؤلفاته، وآلافا أخرى جمعها من خلال تطوافه الطويل والقصي في دنيانا هاته.
حسونة المصباحي الذي عاش كما أحب، ولم يكن مرضه إلا مواصلة للحياة وفيها، شاء أن يُوارى جُثمانه بحديقة بيته العامر تحت ظلال الزيتون والزهور البرية، وقد كان له ما شاء، جنازته التي حضر فيها الإسلاميون إلى جانب العلمانيين حيث أجمع الكل على حُبِّ الرجل وعلى تشييعه بهدوء إلى مثواه الأخير، عائلته التي تفخر به كان لها الفضل الكبير في أن يظل حسونة المصباحي رمز الحياة والنضال والجمال في تونس والوطن العربي. إذ رغم المرض العَصيب الذي أقعده فراش المشفى العسكري بعد تدخل وزارة الثقافة ظل حسونة المصباحي يكتب، ويكتب ويكتب، نكاية في الألم ونكاية في الموت، وهو ما أثمر آخر أعماله “يوم موت سالمة” على غرار هلوسات ترشيش، وداعا روزالي، لا تسبح في النهر مرتين، ليالي حديقة الشتاء والعشرات من المقالات والكتب والأبحاث والرسائل والقصص. وبه أُقِرُّ يا عزيزي أنني لم أقرأك بعد حقَّ القراءة، فكيف سأوَفيك حقّك، كيف سأعيد فيك الحياة بغير القراءة؟
رحم الله حسونة المصباحي، ستظل خالدا في الروح والتاريخ يا صاحب القلب الطيب والموقف النبيل… فلترقد في سلام.