تشكيل الهوية في العمل الأدبي

إبراهيم أبو عواد
إنَّ الهُوِيَّةَ في العملِ الأدبيِّ تَتَشَكَّل مِنَ الأحلامِ الفَردية، والطُّمُوحاتِ الجَماعية، والتَّجَارِبِ الشَّخصية، والإفرازاتِ الثقافيةِ، والعواملِ النَّفْسِيَّة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى وَضْعِ العَملِ الأدبيِّ في أقْصَى مَدَاه، وإعادةِ إنتاجِ السُّلطة المَعرفية مِنْ مَنظورٍ اجتماعيٍّ قادر على اكتشافِ دَوافع الشَّخصيات، ودَلالةِ الألفاظ، والأُطُرِ المَرجعية للمَعَاني والصُّوَرِ الفَنِّية.
والهُوِيَّةُ لَيْسَتْ بُنْيَةً ثابتةً، أوْ نَسِيجًا خَطِّيًّا، وإنَّما هِيَ شَبَكَة مُعَقَّدَة مِنَ السُّلوكياتِ والمَشاعرِ وأنماطِ التَّفكير، وأساليبِ التَّعبيرِ. وهَذا يَنعكس بشكلٍ واضح على اللغةِ، باعتبارها الحاضنة الاجتماعية للأفكارِ، والرَّافعة الثقافية للشَّخصيات.
والعَمَلُ الأدبيُّ هُوَ أفضلُ تَعبيرٍ عَن الهُوِيَّة بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا الحَيَوِيَّة، وَتَعْقِيدَاتِهَا الاجتماعيَّة، وتَجَلِّيَاتِهَا المَعنويَّة، وتَفْسِيرَاتِهَا المَادِيَّة. وفي وَاقِعِ الأمْرِ، إنَّ الهُوِيَّةَ هُوِيَّاتٌ كثيرة ومُتَعَدِّدَة، تَرْتَدِي أقنعةً كَثيرةً وَفْقَ طَبيعةِ الذِّكْرَيَاتِ، ومَاهِيَّةِ الرَّغَبَاتِ، وحَقيقةِ الأفكارِ.
وَمِنَ الكُتَّابِ الذينَ اهْتَمُّوا بِمَسألةِ الهُوِيَّة، الرِّوائيُّ اللبناني الفرنسي أمين معلوف (وُلِدَ في بيروت 1949، وانتقلَ نهاية السَّبْعينيات إلى فرنسا). في كِتابه (الهُوِيَّات القاتلة/ 1998)، وهو مَجموعة مَقالات صَحَفِيَّة، تَحليلٌ اجتماعيٌّ وتاريخيٌّ لِمَفهومِ الهُوِيَّة الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة، والأهواءِ التي تُثيرها، وانحرافاتِها القاتلة، وكَيفيةِ تَحَوُّلِ بَعْضِ الجَمَاعَاتِ المُتعايشة مَعًا إلى مُتعادية تَعتمد على العُنْفِ والإقصاءِ. والكِتَابُ يَطْرَحُ أسئلةً عديدة: لماذا لا يَستطيع هؤلاء الناسُ تَقَبُّلَ انتماءاتهم المُتعددة؟، لماذا يُجْبَرُونَ باستمرار على اختيار أحَدِهَا؟. يُحَاوِلُ مَعلوف الإجابةَ عَنْ هَذا السُّؤالِ: “بسبب عادات التفكير والتعبير المُتجذرة فِينا جميعًا، وبسبب المفهوم الضَّيِّق، والإقصائيِّ، والمُتَعَصِّب، والتَّبسيطي، الذي يَختزِل كُلَّ هُوِيَّةٍ إلى انتماء واحد”.
ويَعتبر مَعلوف أنَّ العَوْلَمَة إذا كانتْ تَهْدِف إلى دَعْم حضارة مُهَيْمِنَة (غَرْبية)، فإنَّها سَتَقُود البشريةَ إلى مَصيرِها المَحتوم، لذلك يَجِبُ ضَمَانُ ألا يَشْعُر أحَدٌ بالإقصاءِ مِنَ الحَضارةِ الإنسانية المُشتركة، وأن يَتَمَكَّنَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ إيجادِ لُغَةِ هُوِيته الشَّخصية، وَرُمُوز ثَقَافَتِه الخَاصَّة، وأنْ يَتَمَاهَى _ وَلَوْ قَلِيلًا_ مَعَ مَا يَرَاه ناشئًا في العَالَمِ مِنْ حَوْلِه، بَدَلًا مِنَ البَحْثِ عَنْ شرعية الحاضر المُؤلِم في الماضي المِثَالي. في الوَقْتِ نَفْسِه، يَنْبغي أن يَقُوم الفَرْدُ بِتَضمين مَا يَعْتبره هُوِيَّتَه عُنْصَرًا جَدِيدًا، وهَذا العُنْصُرُ سَيَزْداد أهميةً في القَرْنِ الحادي والعِشرين، وَهُوَ: الشُّعُور بالانتماء إلى المُغامرة الإنسانية بِمَفهومها الكُلِّي الشامل.
وبِمَا أنَّ الهُوِيَّة مُتَعَدِّدَة ومُتَشَظِّيَة، فلا بُدَّ أن يَشْعُرَ البَعْضُ بِالضَّيَاعِ، وأنَّهُ في مَتاهةٍ اجتماعية، وهَذا مَا تُمثِّله أعمالُ الرِّوائي الفرنسي باتريك موديانو. وُلِدَ عام 1945، مِنْ أبٍ يهوديٍّ إيطاليٍّ وأُمٍّ بلجيكية. وَقَدْ نشأ موديانو بَيْنَ غِياب أبيه عنه وبين أسفار أُمِّه المُتعددة، ولَمْ يَتمكن من إتمام دراسته الثانوية إلا بِعَوْنٍ مِنَ الحكومة.
تَتَمَحْوَرُ كُتُبُه حَوْلَ البحث عن الأشخاص المفقودين والهاربين، وأُولئك الذين يَخْتَفُون، والمَحرومين من أوراق ثُبوتية، وأصحاب الهُوِيَّات المَسروقة. وَجَمَعَ في أعمالِه الرِّوائية بَيْنَ مَسْألَتَيْن بارزتَيْن: البَحْث عَن الهُوِيَّة، والبَحْث عَن الذات مقرونة بقضية عَصْرية، وهي الشُّعُورُ الإنسانيُّ الفَرْدِيُّ بِضَعْفِ الإنسان.
حَصَلَ موديانو على جائزة نوبل للآداب عام 2014، حيث أعلنت الأكاديمية السويدية في بيان لها أن موديانو كُرِّمَ “بفضل فَنِّ الذاكرة الذي عَالَجَ مِنْ خِلالِه المَصائرَ الإنسانية الأكثر عِصْيَانًا على الفهم، وكَشَفَ عَالَمَ الاحتلالِ”.
تَخُوضُ رِواياتُ موديانو في لُغْزِ الهُوِيَّة، ومُحاولة تَتَبُّع الأدلة على وجودها من خلال آثار الماضي، كما أنَّه هَاجَمَ فَترةَ الاضطرابِ وَالفَوْضَى أثناء الاحتلال النازيِّ لفرنسا، وَهُوَ يَسْعَى جاهدًا إلى بِنَاءِ عَمَلٍ سَرْدِيٍّ مُتجانِس، والاعتناءِ بالتفاصيلِ الدَّقيقةِ والأشياءِ الصَّغيرة، التي هِيَ في النِّهَاية جُزْء مِنْ ذات الكاتب، كما أنَّه يكتب باستمرار عن مدينة باريس، واصفًا تَطَوُّر شوارعها وعاداتها وشعبها.
إنَّ موديانو يُمثِّل دِقَّةَ الذاكرةِ، ومَفهومَ الهُوِيَّةِ المُعَقَّد، حَيْثُ يَتَّضِح الشَّغَفُ بالماضي، والبَحْثُ عَن الذكريات، وتفاصيل الحياة القاسية في المُدن الخالية من المشاعر والأحاسيس. وَرَغْمَ كُلِّ هَذه المَعَاني ذات الزَّخْمِ الفِكري، تَمتاز روايات موديانو بالهُدوءِ والتَّقَلُّبِ والرَّحْمَة.
وتَتَرَكَّز رِواياتُهُ مُنْذُ بَدْءِ مَشروعه الكِتابيِّ في نهاية السِّتينيات عَلى طُفولته الصَّعبة، التي نَتَجَتْ عَنْ تَرْبيته في كَنَفِ وَالِدَيْنِ لَمْ يَعْتَنِيَا بِه، ونَشْأته في ظِلِّ تداعيات الحرب العالميَّة الثانية، مِمَّا جَعَلَ النُّقَّادَ يُجْمِعُونَ عَلى أنَّه أفضلُ مَنْ كَتَبَ عَن هذه الفَترةِ الحالكةِ في تاريخ فرنسا، وعَن الأُبُوَّةِ المَفقودةِ، والهُوِيَّةِ الضائعة، والذاكرةِ المُتَشَظِّيَة، وانكسارِ المَعْنَى في الفِعْلِ الاجتماعيِّ.
وكِتَابَاتُهُ انعكاسٌ للمَشَاعرِ المَحفورةِ في أعماقِ نَفْسِه، حَيْثُ الشُّعُور بالضَّيَاعِ، والافتتان بِالتَّجْرِبَةِ الإنسانيَّةِ للحَرْبِ العالميَّةِ الثانية، والهَوَس بالمَاضِي هُوِيَّةً وذاكرةً وسُلْطَةً، والبَحْث عَن الأملِ في ظِلِّ تداعيات الأحداث المأساوية على مَصائر الأشخاص العاديين.