الطفل وسياقات التحرُّش

الطفل وسياقات التحرُّش

سعيد بوخليط                                                                                                            

           تركت الحافلة تطوي بتؤدة دابَّة شائخة تلك المنعرجات الجبلية الوعرة، رغم جاذبية مناظرها الطبيعية؛ حين التوقُّف قليلا وإلقاء نظرة استجمام تأمُّلية.

أحسست برغبة شديدة في النُّعاس، على غير عادتي تماما، ثم غفوت قليلا .استسلمت حواسِّي وانطفأ توقُّدها. افتقد وعيي ما يجري حولي. بالكاد أضحيت جثَّة هامدة، حتى اهتزَّ كياني وانبعثت من عدم، نتيجة وقع صوت جهوريّ مزعج.

فتحت عينايّ بصعوبة متثاقلة، فالنوم يسطو على بؤرتيهما. حاولت معرفة مصدر الصوت، إنَّهما راكبا المقعدين الإمامين، رجل متوسِّط العمر، وطفل في بداية عقده الثاني:

-”أوصيتكَ ياهذا غير مامرَّة، عدم السماح لأيِّ شخص غريب بتقبيلكَ ”ماتْبوسُ ما يْبوسْكْ” وإن على سبيل التحيَّة .قلت لك، اكتف فقط بالمصافحة أو مجرّد تفاعل شفويٍّ مع ابتسامة فاترة من باب التأدُّب!”. 

ارتفعت نبرة صوت الأب، فوضعية الطرفين تحيل كليّا على هذه الرَّابطة، بينما بدا الصغير منتبها لمضمون الخطاب، مع ذلك تنمُّ نظراته المترنِّحة عن تيهٍ وعدم استيعاب لمختلف دلالات الوصيَّة الملقاة.

حينما انتهى الرجل، أشاح الطفل بوجهه نحو النافذة، ثم غَيَّر وضعية جلسته إلى شبه استلقاء مفصحا عن رغبته في النوم.

استعادت الحافلة هدوءها السالف بعد الرَّجَّة المباغتة، جرَّاء احتجاج الأب المفترض على سلوك ابنه، ثم انفلات حمولة صوته عن مجاله الخاص .مثلما استعاد المسافرون خمولهم، فالوقت ظهيرة، والشمس عمودية، وهول المنعرجات المستندة على الموت مباشرة، أدخل العابرين عنوة بوتقة صمت خاشع.

استفزَّتني تفاصيل الواقعة. تعاطفت ضمنيا مع حيرة براءة الطفل، وعدم استساغته مثلما أبانت سيمياء ملامحه، دلالات كلام أبيه. حينها، تقاطرت على خيالي، بعض سياقات ثقافة التحرُّش بطفل سواء ذكرا أو فتاة، واختلاف معايير التأويل عبر اختلاف الأجيال والأزمنة والمنظومات.

داخل فضاء مراكش العتيقة، خلال العهود السابقة عن منظومتي العولمة والنيو-ليبرالية، اشتهر كلُّ حيٍّ بزعيمه الشُّجاع الأقرب إلى نموذج الفتوَّة الذي تمثلنا أوَّلياته جيدا، الجسدية والسلوكية واللغوية، زمن ريادة السينما والمسلسلات المصرية.

امتلك الفتى الأوَّل وبطل الجماعة المغوار، معالم جسمانية معينة كالنُّزوع نحو السُّمنة، تكور البطن، شارب كثّ قد يخفي وجود شفته العليا تماما؛ أحيانا قد يكتفي بطريقة هتلر، تصاميم ندبات، كبيرة أو صغيرة، على سحنة وجهه، تذكِّر القريب وتفزع البعيد، بآثار معارك لا يشقّ لها غبار، فم تكشف أسنانه عن طقم فضيٍّ اللون أو أصفر قد يطول حجمه أو يقصر، تضفي على ابتسامته رعبا؛ لاسيما إذا كان صوته ثخينا، أجشّ، وتتداعى ارتدادات قهقهاته بعجرفة الأسياد.

لابد، أن يحمل الفتوَّة من باب مفارقات القدر أو محض صدفة، اسما غير نمطيٍّ يزيده رعبا على رعب، مثل: طبُّوخ، العقيرة، كَبِدي، الغوشي، امْصْران، ولد العسكري، ولد الحاجة، لشهب، العزيبة، الروبيو، لزعر، البودالي، محينيشة، القْلْدة، كينكو، إلخ.        

غالبا، ما ينطوي فريقه المساعد وخاصة خاصته؛ وهذا بيت القصيد، شابّا ليس بالضرورة وسيما، ولا مخنَّثا، ولا أيضا متغنِّجا أو حتى صاحب طيف ناعم أقرب إلى جنس الإناث من الذكور، ارتباطا بالمنظومة التقويمية خلال تلك الفترة، لكنه يجسد غلام متعة الزعيم وحصيره لحظات الاسترخاء أو إلحاح الحاجة. لا يفارقه قط،سوى عند الضَّرورات القاهرة، يقضي بوفاء مختلف حوائجه اليومية، ينفِّذ مهمات السُّخرة المألوفة والقذرة أيضا مثل استدراج بعض النسوة اللواتي جذبن اهتمام سيِّده وأسَلْنَ لعابه.

إذن، انطوت التشكيلة السكانية لدروب المدينة  الأثرية على ثنائي من هذا النوع، يرمز الأول إلى الفحولة والجبروت، بينما يرمز الثاني إلى المتعة والخضوع. الأول مشهور لدى الجماعة، يحترمونه خوفا اتّقاء لشرِّه، كما يتحمّل بدوره ضمنيا مع مرور الأيام، مهمَّة إبقاء الحيِّ في وضعية مهيبة لا يجرؤ الغرباء على الإخلال بنظامه العام. أما الثاني، فيعيش تحت كنف الفتوَّة، وحدهم المقرَّبون يعلمون حقيقة علاقتهما.

تبعا لمواصفات الطِّراز القديم، لم تكن تظهر على هذا الأمرد تجاوزا العلامات الفيزيولوجية الفاضحة. قد يتعرَّض لضرب مبرح وعقاب صارم من طرف الفتوَّة، إذا اقترف للحظة ما إخلالا بالتعاقد العرفي، كالغياب لفترة طويلة أو مصاحبة شخص آخر، وأحيانا بلا سبب يذكر، فقط نتيجة انغماس الفتوّة في زجاجة خمرة غاية الثمالة تماما، حينها يغدو الأمرد المسكين مجرَّد كيس ملاكمة، فتَّتسع خريطة وجهه للكمات معتبرة ثم كدمات خالدة.

عموما، بخصوص أطفال تلك الفترة، لم يكن استيعابهم لشيء اسمه التحرُّش، مثلما الوضع حاليا، وظلَّت مستويات اليقظة عند حدودها الدُّنيا، لكن ذلك لايحيل على سياق مجتمع ملائكي أو انعدم البيدوفيليون المتيَّمون بالصغار والجنس المثلي، المترصِّدون لخلوة الأطفال.

في هذا الإطار، اتَّجه آنذاك تحذير الآباء لأطفالهم بالتركيز أساسا عن تجنُّب وضعيات الاستفراد داخل الحمَّامات الشعبية، المقابر، وكذا المراحيض العمومية، لأنَّها الملاذات الأكثر تحفيزا بخصوص إمكانية حدوث اكتساح نَزَوِي سريع للغاية يغتال ذكورية الذَّكر، وقد جرت وقائع من هذا القبيل.  

أما عن بائعات الهوى، فقد احتشدن وقتها داخل أوكار ثلاثة أحياء في مراكش، على أبعد تقدير، يعود إرث واحد منها إلى الاستعمار الفرنسي. أتذكَّر تواجد صالة سينمائية عند مدخل ماخور، أضحت الآن نسيا منسيا، اشتهرت أكثر من غيرها بعرضها خلال فترات متقاربة أفلاما بورنوغرافية أو ”أفلام لاَمُورْ” كما نعتها التداول الشعبي، بحيث يسرع بعض المتفرجين بعد انتهاء الفيلم؛ وقد ارتدى أغلبهم للمفارقة جلابيب شتوية في عزِّ القيظ، ولوج أول بيت دعارة كي يعيش واقعيا ماشاهده خياليا، وتتراوح التسعيرة بين درهمين وخمسة دراهم.

هل تفضح البيدوفيلي ملامحه؟ صحيح يسهل كشفه للوهلة الأولى، من لدن كل صاحب ذكاء اجتماعي، خبر الأوضاع والحالات. مع ذلك، سنَّ له شباب الحيِّ الكبار، العارفون بالخبايا، صفتين جسديتين موحيتين فوريا بخصوص نماذج هذا الشخص: أنف طويل ومعقوف، لذلك نعت البيدوفيلي في الثقافة الشعبية بـ”المنقار”، شبه جاحظتين لا يتوقَّف دورانهما بكيفية لافتة للانتباه، ويعود ذلك ربما إلى استقراء شامل ومسح المكان حتى لا يضيِّع أيّ فرصة تذكر لاقتناص الطريدة، وأيضا ارتفاع منسوب الحرص والحذر.

أخيرا، يقع التباس مهول حينما يكون شخص معيَّن فردا منفتحا بأريحية ودون خلفيات على عالم الأطفال، عاشقا لوجودهم بجانبه، يعثر على سلواه لحظة مجالسته طفلا وخلق أجواء التَّسلية معه، قد يحدث إبَّانها الخلط والاضطراب وسوء التقدير والمغالاة في التأويل، بحيث تشير الأصابع همسا نحو هذا الشخص وينعت تعسُّفا دون رويّة، ثم تسري عليه ظلما وصيّة أب الحافلة لابنه: ”ما تْبوسُ ما يْبوسْكْ”.

كيف نربِّي طفلا سويّا، متوازنا فكريا ونفسيا وعاطفيا، قصد ضعه ضمن السِّكَّة الجديرة بأن تخلق منه إنسانا أوَّلا وقبل كل شيء؟

حتما، العملية ليست سهلة وفي غاية التعقيد والتداخل، تقتضي قدرات خاصة غير متاحة للجميع بالسهولة المفترضة. ربما، أكبر دليل، أنَّ جان جاك روسو بكل عظمته الإنسانية وعبقريته الذهنية، قد اعتراه بعد التنظير والتطبيق العجز والفشل ثم استسلم وقرَّر في نهاية المطاف الإسراع بأبنائه الستّة إلى ملجأ للأيتام وقال قولته الشهيرة: “امتلكت قبل أن أتزوَّج  ستّ نظريات في تربية الأطفال، أما الآن فعندي ستّة أطفال وليس عندي نظريات لهم”.                 

شارك هذا الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!