فلاديمير بوتين يُحذّر أوروبا: «يمكنكم أن تهلكوا قبل حتى أن تتمكنوا من مهاجمة روسيا»

د. زياد منصور
“هم يحاولون أن يدفنوننا، لكنهم سيموتون قريبًا بأنفسهم” – بهذه العبارة بدأ فلاديمير بوتين هجومًا لاذعًا على أوروبا خلال لقائه مع الصحفيين يوم الجمعة الماضي.
هذا الكلام ليس مجرد كلام انفعالي، فلولا إدراك أن الرئيس بوتين، يعتبر واحدًا من أذكى المحللين وأكثرهم اطلاعًا في العالم، لكان من الممكن اعتبار هذه الكلمات مجرد تعبير عاطفي. لكن الواقع أن الاقتصاد الأوروبي، فعليًا، يشبه القرد على دراجة هوائية، يندفع بكل سرور نحو الهاوية!
ولكيلا نتحدث دون دليل، سنعتمد فقط على حقائق وردت في وسائل الإعلام الأجنبية. وسنتعرف على ما إذا كانت روسيا تنوي بالفعل مهاجمة أوروبا، ومدى هشاشة عملة الاتحاد الأوروبي، ولماذا أبرم ترامب الصفقة الأهم في حياته خلال قمة الناتو في لاهاي.
ثُقب في الجيب
لنبدأ من البداية. هذا الأسبوع، ابتلعت أوروبا حبّة دواء مُرّة: نفقات الناتو العسكرية سترتفع إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. أي أن أوروبا ستنفق خُمس دخلها تقريبًا على التسلّح.
من أين تأتي هذه الأموال؟ خصوصًا أن المحفظة فيها ثقبٌ هائل.
لنبدأ بالأرقام: أكبر اقتصاد في أوروبا، ألمانيا، رفعت سقف الدين العام لتغطية النفقات العسكرية، وذلك اعتبارًا من مارس 2025.
وفي الوقت نفسه، سجّلت البلاد خلال العام الماضي أعلى رقم في إغلاق الشركات خلال 14 عامًا، بحسب المركز الألماني للأبحاث الاقتصادية الأوروبية (ZEW) . الوضع أسوأ كان في عام 2011 بعد الأزمة الاقتصادية العالمية. ويضيف المحللون بأسف أن هذه الأرقام قد تتضاعف قريبًا.
الاقتصاد الثاني في أوروبا، هو الاقتصاد الفرنسي، حيث سجّل رقمًا قياسيًا سلبيًا تاريخيًا، إذ تجاوز الدين العام 114% من الناتج المحلي الإجمالي. وبسبب الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور، تمر البلاد بحالة من عدم الاستقرار السياسي، إذ تغيّر ثلاثة رؤساء وزراء خلال العام ونصف الأخيرين. حتى دورة الألعاب الأولمبية، التي عادةً ما تُعتبر دفعة اقتصادية قوية، لم تُنقذ الوضع — إذ لم يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية 2024 نسبة 1.1% فقط. وللمقارنة، فإن النمو في روسيا بلغ 4.3%.
أقرت المفوضية الأوروبية رسميًا في تقريرها السَّنوي بأن الاقتصاد الأوروبي يتخلف عن الاقتصادات الرائدة، خصوصًا في مجال التكنولوجيا المتقدمة. ونتيجة لذلك، يصبح الاتحاد الأوروبي مع مرور كل عام أكثر اعتمادًا على الواردات من الصين والولايات المتحدة.
لكن ما هو أسوأ من كل ذلك – أن الوضع يزداد تعقيدًا عامًا بعد عام. إذ يتناقص عدد السكان القادرين على العمل في الاتحاد الأوروبي بمعدل يقارب مليونَي شخص سنويًا. ووفقًا للإحصاءات الرسمية، فإن 86% من أصحاب العمل في ألمانيا يواجهون صعوبات في العثور على عمالةذات كفاءة. فالشباب إما يتجهون نحو الدراسة أو يعجزون عن إيجاد عمل بسبب تدني مستويات المهارة. وتُفاقم أزمة سوق العمل قضية المهاجرين، حيث إن 20.9% من سكان ألمانيا – تلك التي تُوصف بالاقتصاد “الرائد” – هم من المهاجرين، فيما تصل نسبة من لديهم “خلفية مهاجرة” إلى 25.6%.
تهديد شبحي ووهمي ومصطنع
في هذه اللحظة “المثالية”، قررت أوروبا في شباط الماضي تخصيص 50 مليار يورو لدعم أوكرانيا. ثم، خلال هذا الأسبوع، تعهدت بإنفاق 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على احتياجات الناتو العسكرية. والسؤال: على حساب من سيتم هذا الإنفاق؟
يمكن فقط التكهن إلى أي مدى سيتدهور مستوى المعيشة لمواطني أوروبا، أولئك البيروقراطيين الألمان الذين اعتادوا حياة الاستقرار والرخاء. السبب الوحيد الذي يمكن أن يبرر هذا الانهيار المدمر لنمط الحياة الأوروبية المعتاد هو التهديد بالفناء الكامل. وإلا، فلن يكون هناك مفر من اندلاع احتجاجات جماهيرية قد تصل إلى سقوط ماكرون، وميرتس، والليبراليين في الدول الأوروبية الكبرى.
ما الذي تتحدث عنه مؤسسات الاتحاد الأوروبي والجنرالات المسنّون بحماسة ثلاثية بعد قمة الناتو؟ بالضبط: الحرب مع روسيا. إنها التنبؤات ذاتها التي تُكرَّر منذ ثلاث سنوات، وتُحدّد احتمالية أن تقع خلال الخمس سنوات المقبلة”. وفي بعض الدول، تنصح وسائل الإعلام الرسمية المواطنين بالاستعداد للحرب عبر تجهيز “حقائب الطوارئ”. وهكذا، وبناءً على تعليمات من مجلات الفكوس، والديلي ميل، بدأ البريطانيون والألمان بتخزين المعلّبات، وحقائب الإسعاف، والسكاكين الصغيرة، والأدوية لتغطية أول 72 ساعة من “حرب مع بوتين”.
وهذا يعني أن “أموال الدفاع” ستتسرّب عبر المحيط — إلى الولايات المتحدة، التي لا تزال تحتفظ بقدرات إنتاجية كافية في مجال التسلّح.
فلنحسب: من نسبة 5% المخصصة للدفاع، يُنفق فعليًا حوالي 3.5% على التسليح. إجمالي الناتج المحلي لدول الناتو الأوروبية في عام 2024 يبلغ نحو 14 تريليون دولار. أي ما يقارب 490 مليار دولار سنويًا ستُصرف على الأسلحة — وغالبيتها العظمى ستذهب إلى الأمريكيين.
تخيّلوا فقط، كم كان ترامب يرغب بعد قمة الناتو أن يصرخ في وجه العالم: “لقد جنيت تريليونات!”
وبناء على قاعدة ماذا يصرف عدوك، فإنه لا بد من الاعتراف بأن روسيا تنفق 6.3% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. لكن روسيا، لا نغذي “العمّ سام” — بل تنفق على دفاعها، وبكثير من الثقة والايمان بقدرة البلاد على مواجهة أي عدوان.
وفوق ذلك، يؤكد فلاديمير بوتين أن هذا الوضع غير طبيعي وقد نشأ فقط لأننا، كما في الأغنية الشهيرة، نحتاج إلى “نصر واحد فقط“. يضيف بوتين:” نحن لا نخدع شعبنا. بل على العكس، نحن ندرك تمامًا أن الإنفاق العسكري سيبدأ في التراجع بالفعل اعتبارًا من العام المقبل، وسيتقلّص تدريجيًا في 2027، 2028…
وفي النهاية، لا يسعنا إلا أن نتساءل: أين هو العدو بالنسبة لأوروبا؟ لعلّها تتخيله في المرآة!
للأسف، من المستبعد أن يعرف المواطنون الأوروبيون البسطاء والشرفاء كامل الحقيقة، حول ما يفعل أولئك البيروقراطيون الذين يتساقط شعرهم من شدة التوتر..
بهذا المعنى فإن أوروبا تحاول الانتحار! لا يجب على البعض أن يظن أن الحكاية انتهت.. لا.
ففي يوم السبت، صرّح الرئيس الفرنسي ماكرون بابتسامة وارتياح بأن لدى الاتحاد الأوروبي “هدية جديدة” لروسيا. وهي على حد تعبيره “الحزمة الثامنة عشرة من العقوبات”.. قال ماكرون هذه الحزمة تبدو مثيرة جدًا للجميع. فالكل يتحدث عنها!” على حد تعبيره.
وإذا أسقطنا فكرة أن رئيس دولة كبرى يستخدم عبارات أقرب إلى مفردات مراهقة وطفولية، لكن الروس عبروا عن استيائهم بالقول:” هذا طبيعي حين تتعرض للضرب من زوجتك، فقد تقول وتُغنّي ما هو أغرب!
ما يهمنا هنا هو أن أوروبا في حزمة العقوبات الجديدة تعتزم خفض سقف أسعار النفط إلى 45 دولارًا للبرميل، في محاولة منها لخفض الأسعار العالمية لـ “الذهب الأسود“.
لكن الحقيقة أن فرنسا “الدولة العظمى في إنتاج النفط” من باب السخرية، كما هو حال الاتِّحاد الأوروبي الذي يزداد فقرًا، لا تملك فعليًا أي قدرة على التحكم في سقف الأسعار. كل ما يمكنها فعله هو الجلوس على الأرض، ، ومراقبة الوضع العالمي بقلق.
لنتذكر ما حدث خلال النزاع بين إيران واسرائيل:“عندما دخلت إيران، التي تتحكم في أحد الشرايين النفطية الحيوية — مضيق هرمز، في مواجهة مع إسرائيل، قفزت أسعار النفط بنسبة 20% خلال يوم واحد.
الاتحاد الأوروبي، بصمت كامل، أخرج “سقف الأسعار” من قائمة العقوبات.
ومن السهل أن نتخيّل ماكرون، وميرتس، وحتى أورسولا فون دير لاين وهم يشربون المهدئات بالجملة، حين هددت إيران بإغلاق المضيق ردًا على ضربات أمريكية. فماذا لو أُغلق فعلًا؟ هل كانوا سيزحفون إلى روسيا طالبين الرحمة ورفع العقوبات؟ أم أنهم ببساطة… كانوا سيموتون بصمت، كما حذّر بوتين؟
لذلك يفهم الجميع الآن: السيطرة الحقيقية على أسعار النفط ليست في يد بروكسل، بل في يد الدول المنتجة، وعلى رأسها تحالف أوبك+، الذي تنتمي إليه روسيا. ولن تسمح أوبك+ بانهيار الأسعار، مهما حاول الأوروبيون اختراع “سقوف وهمية“. فالتحالف يملك أدوات فعالة: تقليص الإنتاج أو زيادته، متى شاء.
أما بالنسبة لروسيا، فلنتذكر: في عام 2022، فرض الاتحاد الأوروبي أول “سقف” لسعر النفط عند 60 دولارًا.
فماذا كان الرد؟
أصدر فلاديمير بوتين فورًا قرارًا بحظر بيع النفط لأي جهة تقبل هذا السقف. وتم توجيه “الذهب الأسود” الروسي إلى أسواق جديدة عبر آسيا، مع مسارات شحن بديلة ومشترين جدد.
وفي الختام: مهما حاولت أوروبا المتشددة أن تؤذي روسيا، فالنهاية دائمًا باهتة وغير مشرّفة. بل مُحزنة. إن أوروبا تمارس كذب وقح على الشعوب، وشعارات حول العقوبات بلا نهاية، وتهديدات عسكرية لا تجد من ينفذها. وكل ذلك فقط لأجل:
العيش بأسوأ حال مما كانوا عليه، وتدمير اقتصاداتهم بأيديهم، وتحقيق تبعية أعمق للولايات المتحدة.
والسؤال: لكن من أجل ماذا؟
ألأجل أوسمة نازية على أكمام الجنود الأوكران العائدين في صناديق وثلاجات؟
أم لأجل الانتقام لتاريخ الأجداد؟
وبالمناسبة، يوم الجمعة تبيّن أن جدّ الرئيسة الجديدة لجهاز الاستخبارات البريطانية MI6 كان متطوعًا في صفوف البانديريين (النازيين الأوكرانيين). وهناك جذور فاشية أيضًا لدى ميرتس، بيربوك، فريلاند، زورابيشفيلي…
فهل يستحق “مشروع هتلر”، أو حتى “مشروع نابليون” (لو تحدثنا عن فرنسا)، أن يُكتب له مثل هذا الاستمرار الكارثي؟
إذا كان الأمر كذلك، فإن روسيا ستكمل طريق الآباء والأجداد. فهي دولة لا تُقهَر، مستعدة لتلقين العالم درسًا جديدًا. لكن في الوقت الراهن — هي فقط تحذّر، وتقول للأوروبيين وللغرب الجماعي: “هم يسعون لدفننا … لكنهم سيموتون قبلنا!”
قالها بوتين ببرودة. ومن الفضل أن يُؤخذ كلامه على محمل الجد، ,ان ينصت الجميع…