رواية “لهيب الجهات” أو العنف الرمزي للأمكنة…

رواية “لهيب الجهات” أو العنف الرمزي للأمكنة…

محمد امباركي

           في الواقع، تُعتبر رواية “لهيب الجهات” لمحمد بنسعيد الصادرة حديثا، مرآةً ناصعة تعكس توترات الانتماء المتحرك… حراك الأمكنة الذي يظل ملتهبًا جيئًا وذهابًا… نقطة الانطلاق والعودة هي موطن المولد والنشأة “توزليفت”… بين توزليفت الطفولة وحرقة معاناة الأب وشباب القرية وبطش السلطة والاستقلال المنقوص، والمدن الإسبانية العريقة برائحة باسكية في وجدان وهوية أهلها (غرناطة، بلباو…)، و”دوار الليل” حيث تشتد المراقبة لتطال العشق نفسه، فيكون الملاذ هو “النسيان تحت تأثير مخدر الشيرا”، والهجرة مرة أخرى، بما فيها هجران العشيقة القروية “الزهرة” التي تقتل نفسها احتجاجًا على عنف اجتماعي وثقافي مركب تكون فيه المرأة هي الحلقة الأضعف في معادلة زواج غير مرغوب فيه وعقم ذكوري مسكوت عنه… النساء هن الناقصات والعاقرات في جميع الظروف والأحوال…

بين كل هذه العوالم ظل حماد، ابن القطارات كما سمته “روكسانا”، ينتقل من مكان إلى آخر يجر معه روح السوسيولوجي القلق الذي يبحث عن المعنى: أي معنى للظلم الاجتماعي والمجالي؟ أي معنى للعيش بكرامة؟ أي معنى لعلاقة غير متكافئة بين الأمكنة والناس، بين “بلباو” المدينة الباسكية الساحرة، عاصمة “البسكايا”، شوارع واسعة تعج بالحياة، وحدائق بأشجارها العالية وورودها المختلفة الأشكال والألوان تحضن العشاق والغرباء، وجبالنا نحن أيضًا شامخة وأهلها مقهورون: أطفال عراة ورجال قهرهم الفقر وقلة ذات اليد، ونساء غارقات في الأمية، ومسؤولون ظالمون” (ص 27).

في خضم رحلة التنقل بين محطات القطار والمطارات، والارتماء في أحضان الشقراوات والحانات، وسطوة الذاكرة ماضيًا وحاضرًا، ظل “حماد” مسكونًا بمستقبل “توزليفت”، وهي تتعرض لمسلسل من عمليات الهدم المفتوحة: هدم بنيات بسيطة لاقتصاد زراعي معاشي وتضامن قروي حي، ثم سطو الملاكين الكبار على الأراضي قصد نقلها من طابعها الزراعي الحي إلى عقارات جامدة لكنها مربحة. يتجسد اسم هؤلاء الملاكين وسماسرة العقار في “الحاج الرباطي” الذي يحيل على المتروبول واختلال العلاقة بين الهامش والمركز، “من هو هذا الرباطي الذي جاء من بعيد وبنى سدًا في الوادي؟” (ص 87)، وبالتالي، دفع الأهالي نحو أن يصبحوا “فلاحين بدون أرض” عبر البيع القسري لأملاكهم والهجرة إلى المدينة، كي يحتل فضاؤهم الحيوي أعيان جدد يشرفون على تحولات “مشوهة” تطال البادية المغربية، وتنتج معها كل أشكال الفوضى والانحراف الاجتماعي. ظل “با إدريس” يقاوم هذا الواقع البئيس والمركب المصالحي عبر أسلحته الرمزية البسيطة: “السبسي” والتشبث بالأرض، إلى أن سقط شهيدًا بشكل يستحق معه أن يحمل لقب “شهيد توزليفت”، وهو “الحكيم المناضل والصامد في وجه سماسرة ترحيل أهل توزليفت واقتلاعهم من جذورهم” (ص 151).

إن تعدد الأمكنة الملتهبة لم يطل فقط تلك الفضاءات العمرانية والطبيعة المادية، بل طال أيضًا الجانب الرمزي من هوية البطل: بين حماد، ومحمد، وأحمد، يظل البحث عن هوية متصالحة مع نفسها سؤالًا مفتوحًا، كما ظل الجواب كامناً في الصمت والقطار، ومكر الصدفة العذب، والنساء العاشقات المستكشفات للآخر العربي القادم من بعيد… هكذا ظلت النساء أيضًا بالنسبة لـ”حماد” أمكنة رمزية تعج بالأنوثة والحياة وحروب التملك والسيطرة، بين الزهرة، وروكسانا، وماريا وصوفيا، وجوليت، وكارمن، والحاجة ربيعة، ولوسيل، تنتصب جدلية الألم واللذة، تعدد الحيوات والثقافات، قلق المعايشة ومعاناة التذكر، جدلية الحرية والمراقبة…

من خلال حكيه المتنقل بين الماضي والحاضر، بين الوطن الأم الجريح الذي طارده كما طارد أهل بلدته، ولم تعرف الدموع المذرفة وجهتها: على من أبكي؟ أبكي أمي التي تركت في قلبي غصة لن تبرأ أبدًا، أبكي نفسي التي ضيعتها بين البلدان ومحطات الحافلات والقطارات، أم أبكي وطني الذي ما زال حبه يسكنني رغم كل شيء؟ (ص 58)، وبين بلاد الغربة التي منحته لقبًا أكاديميًا رفيعًا واحتضانًا دافئًا عبر ناسها ومؤسساتها، فرضت عليه أن يقارن بين أهل المسجد البخلاء وإنسية الكنيسة، يمد حماد جسورًا قوية بين عوالم اجتماعية متعددة تظل فيها “توزليفت” إنسانًا ومجالًا، شاهدة على هول الفوارق بين نحن والآخر، على بطش السلطة والتقليد و”الحداثة” المفترى عليها… كل هذه العوالم والجهات هي لهيب ممتد لم يجد “حماد” من خيار لمقاومته وإنقاذ ما تبقى من “توزليفت” غير حراك الأمكنة واستعادة البعض من آخر قلاعه في حروبه ضد التيه والاقتلاع من الجذور (ص 120)، وذلك بدعم من حضن الاستقرار الأخير “كارمن”… وهكذا لم تعد المرأة ترمز إلى حب السيطرة والتملك في العلاقة بالرجل، بل إنها ذلك الخلاص من ويلات المتاهة وفقدان الهوية.

لعل من المناسب أن أقول إن ما شدني في هذا النص الروائي الغني، ليس فقط أحداثه المتسلسلة والمركبة التي جعلتني أغوص في قراءته وأنا أستحضر ما تعرضت له مناطق زراعية بمدينة بركان، ومنها الدوار الذي ترعرعت فيه “بني مهدي” التابع لجماعة زكزل القروية، من زحف أسمنتي متوحش وفوضوي، بل أيضًا أسلوب الروائي “محمد بنسعيد” ولغته السلسة الواضحة، البعيدة عن التجريد المفرط والرمزية الفارغة، سيما أنه كتب بضمير المتكلم الذي لما يحكي يحاول على الدوام ألا تظل ذاته هي المهيمنة. لهذا السبب، يمكنني القول بكل تجرد إن محمد بنسعيد تفوق كثيرًا في أن يصنع لروايته أبطالًا متعددين وليس بطلًا واحدًا… فقط ظل عنف الأمكنة الرمزي أو لهيب الجهات عبر السيرة المركبة لتوزليفت هو الذي يصوغ ملامح تلك البطولات…

شارك هذا الموضوع

محمد امباركي

باحث في علم الاجتماع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!