مساهمةُ مشروع “دفاتر الجديدة” في الدبلوماسية الثقافية

حمادي كيــروم
أطلق الباحث المغربي المصطفى اجْماهْري سنة 1993، بتشجيع من المفكر عبد الكبير الخطيبي والمؤرخ غي مارتيني، مشروع “دفاتر الجديدة”، وهي عبارة عن سلسلة مؤلفات تُعنى بالتاريخ الكوسمبوليتي لمدينة الجديدة ومنطقة دكالة عموما. وقد بلغتْ إصدارات هذه السلسلة، المموّلة على نفقة مؤلفها، حوالي ثلاثين كتابا فضلا على أكثر من 500 مقالة منشورة بمختلف المواقع الرقمية والمجلات المطبوعة كشهرية “زمان” وغيرها.
وقد حقّق هذا المشروع الشخصي التطوعي للباحث المصطفى اجْماهْري وكذا البحوث التي أنجزها في الثلاثين سنة الأخيرة تراكما محمودا جعله يحظى بتقدير عدد من الباحثين والمثقفين المغاربة وفعاليات المجتمع المدني، كما نظّمتْ له “جمعية دكالة” بالجديدة يوم السبت 21 يونيو 2025 لقاء تكريميا تقديرا لمجهوداته في النبش عن ذاكرة المنطقة والتعريف بتراثها. وهو اللقاء الذي عرف مشاركة نوعية للوزيرة نزهة الصقلي والباحثة سمية نعمان كسوس التي تمنّت في مداخلتها “أن يكون لكل مدينة باحث مثل اجْماهْري”. وقد جاء التكريم الأخير بعد مناسبة احتفائية مماثلة نظمها له المعهد الفرنسي بالجديدة في مارس 2004 خُصصت للحديث عن مسار هذه السلسلة طيلة العقود الأخيرة، وقبلها جرى احتفاء مماثل احتضنته حديقة محمد الخامس بالجديدة من تنظيم المديرية الإقليمية للثقافة بالجديدة وسيدي بنور إبان إدارة ذ. عبد السلام أمرير.
لقد جاء المصطفى اجْماهْري إلى مجال الدراسات المحلية مسلحا بتكوين أكاديمي في مجال الصحافة والإعلام وبتجربة متنوعة في الكتابة الأدبية ومن إلمام باللغة الفرنسية (كغالبية أبناء جيله). كما كان لاحتكاكه بمثقفين مغاربة وأجانب الأثر الحاسم في توجهه إلى هذا الحقل. ومن الميزات الأساسية لكتاباته كونها تحتكم لرؤية إنسانية تعددية ومنفتحة على الآخر، ومن ثمة فهي فبقدر اهتمامها بالمحليين تهتم، في الوقت نفسه، بالوافدين الأجانب على اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم. بمعنى أن القاسم المشترك هو الانتماء إلى الأرض، أي لمدينة الجديدة ومنطقة دكالة عموما، بغض النظر عن كل اعتبارات أخرى. ومن هنا نجحتْ كتاباته باللغة الفرنسية في أن تقيم رابطا فكريا ووجدانيا مع القارئ الخارجي.
أما الميزة الأخرى لكتابات هذا المؤلف فتتمثّل في كونها كتابات كاشفة، جاءت بالجديد على مستوى المعلومات والسياقات. نلاحظ ذلك في نصوصه عن وقائع وشخصيات بناها بتفاصيل فريدة، والتي لقيت وما زالت تلقى تجاوبا وفضولا من القراء، مغاربة وأجانب. وتتجلى قيمتها تحديدا في العلاقة الإنسانية التي خلقتها ومازالت تخلقها مع الآخر. مثال ذلك الكشف عن زيارة أنطوان دو سانت إيكزوبيري لإقليم الجديدة وقصبة بولعوان سنة 1927 وأثر تلك الزيارة في تأليف كتاب “القلعة”. بل كان ذلك ما خلق تواصلا بين الباحث وورثة سانت إيكزوبيري في باريس،
علمنا أيضا من خلال بحثه المنشور بالمجلة الشهرية “زمان” كيف عثر اجْماهْري على قبر الجندي النرويجي لارسن مدفونا بالمقبرة الأوروبية بالجديدة، وهو ما كانت تجهله سلطات بلده منذ 1941. هذه الأخيرة كانت على علم بوفاة الجندي في المغرب، لكن مكان دفنه ظل مجهولا لديها. مما جعل وزارة الثقافة في النرويج تهنئ اجْماهْري على صنيعه، بل شارك وفد من السفارة بالرباط في مائدة مستديرة نُظمت بالجديدة يوم 27 يونيو 2024 نوّه فيها بهذا الاكتشاف. يضاف إلى ذلك الاستطلاع الميداني الّذي أنجزه الباحث في سيدي موسى بمنطقة الولجة التابعة لإقليم الجديدة والذي حدّد فيه موقع سقوط طائرة الإيروبوستال هناك في ثلاثينيات القرن الماضي.
في نفس السياق، اكتشفنا من خلال مقالات الباحث كيف أن الروائي مارك بيرنار الحائز على جائزة الغونكور سنة 1942 قد أقام بقيسارية الجديدة، كما اطّلعنا على قائمة المعمرين، من مختلف الجنسيات، الذين استغلوا ضيعات فلاحية بدكالة في فترة الحماية وبداية الاستقلال. بل حصل كتابه عن المعمرين الأجانب بدكالة (والذي ترجمه إلى العربية الدكتور مصطفى الطوبي) على الرتبة العشرين في قائمة أفضل الكتب في العالم بالفرنسية والإنجليزية عن تيمة “الفلاحين”. وهو الترتيب الذي أنجزه موقع غرافياتي في بوسطون.
وساهمت كتابات أخرى للباحث المذكور في التعريف ببعض أوجه الحضور الأجنبي بالجديدة ودكالة، ككتاباته عن الجاليات الفرنسية والإنجليزية والألمانية والسويسرية بل أيضا عن الطائفة الأرمينية الصغيرة إبان الحماية، وعن الوجود الأمريكي القصير بالجديدة إبان الحرب العالمية الثانية. ويُعد كتابه “الجديدة، قرنان من التاريخ القنصلي” الصادر سنة 2011 مرجعا وثائقيا فريدا في المجال. ويُذكر أنه إبان صدور هذا الكتاب، توصّل المؤلف بطلبات اقتناء نسخ منه من عدد من الملحقين الثقافيين بالسفارات الأجنبية بالرباط.
من بين مساهماته الأخرى في هذا المجال، مداخلته عن “تجارب السويسريين بالجديدة ودكالة” والتي جرت بكلية آداب الجديدة في اليوم الدراسي المنظم يوم 16 فبراير 2023 في إطار “مائة سنة من العلاقات المغربية-السويسرية”، بحضور السفير السويسري بالرباط. كما رافق القنصلة الفرنسية بالدار البيضاء حين زيارتها إلى المقبرة الأوروبية بالجديدة يوم 25 أبريل 2025 ليعطيها لمحة، من عين المكان، عن العائلات المازغانية بالمدينة، وعن قبر الطبيب غابريال بلان المتوفى بالجديدة سنة 1906.
***
خارج المغرب ساهم الباحث المصطفى اجْماهْري في التعريف بمدينته وبمكوناتها البشرية المختلفة، حيث نشط في باريس سنة 2020 لقاء حول “المكون اليهودي بالجديدة ودكالة”، ولقاء عن “الجديدة المدينة والذاكرة” احتضنه قسم الدراسات العربية بجامعة رين بفرنسا. وفي 2023 قدم كتابه “الجديدة آثار خطى على الشاطئ” أمام أعضاء جمعية قدماء مازغان في مدينة روزاس بإسبانيا، وفي سنة 2024 ألقى محاضرة بمدينة سيت (توأم الجديدة) في موضوع “الهوية البحرية لمدينة الجديدة”. وهو مدعو في أكتوبر المقبل للمشاركة في المؤتمر 19 للأحجار الجافة بالنمسا بعد قبول بحثه حول تراث التازوطا بدكالة.
وفي فاتح فبراير 2020 كتب المصطفى اجْماهْري مقالة موثقة عن القنصل البلجيكي بمازغان نهاية القرن التاسع عشر، فليكس ديغان، الذي كان ينتمي لمدينة أنفيرس، وذلك بطلب من الباحث مارنيكس بيانْ من مركز التاريخ السياسي بجامعة أنفيرس البلجيكية. وقد نُشرت الدراسة مترجمة إلى اللغة الفلامانية في الموقع الرقمي للمركز المذكور.
كما يساهم منذ بداية التسعينيات كمندوب لودادية قدماء مازغان بالكتابة في نشرتها الدورية الصادرة بالفرنسية والمسماة “الجديدي”، بمقالات تعريفية عن الجديدة ودكالة.
لقد أشار بيرونسيل هوغوز، كبير المراسلين السابق بجريدة لوموند، في مقالة له بموقع 360 بتاريخ 9 شتنبر 2016 بأن المصطفى اجْماهْري يُعتبر “الرجل الذي يعرف كل شيء عن الجديدة”. ولم يحصل هذا بالصدفة بل جاء نتيجة اجتهاد وعمل متواصل ومن خلال رؤية متفتحة وإنسانية جعلت من مشروعه الكتابي نافذة على الداخل والخارج وعلى الأنا والآخر، من أجل تعزيز روح الإخاء وإشعاع المجهود الثقافي المغربي.
وتجدر الإشارة إلى أن سلسلة “دفاتر الجديدة” متوفرة في عدد من المعاهد ومكتبات مؤسسات جامعية أجنبية مثل جامعة برينستون، وجامعة لايدن بهولندا ومعهد العالم العربي في باريس وغيرها.
وبموازاة مع نشاطه الكتابي يقوم هذا الباحث بالاستجابة إلى طلبات مختلفة يتوصل بها من بعض القراء الأجانب أو الزوار الذين يطلبون منه معطيات عن عائلات قديمة أو عن أماكن تتعلق بالذاكرة المشتركة.
في الخلاصة يجوز القول إن مشروع “دفاتر الجديدة” للباحث المصطفى اجْماهْري يُعد، على مستوى مدينته وجهته، مساهمة محمودة في تنمية الدبلوماسية الثقافية، باعتبارها مبادرة تحول التراث إلى اقتصاد ثقافي يُقرب الشعوب والمجتمعات من بعضها البعض، وأداةً فاعلة في بناء جسور التواصل وتعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب والثقافات.