القوقاز على مفترق طرق: ممر زنغزور وتحديات النفوذ الروس
د. زياد أسعد منصور
يُعَدّ إقليم القوقاز، على امتداد قرون، واحدًا من أهم المناطق الاستراتيجية في الفضاء الأوراسي بأسره، ومرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بالمصير التاريخي لروسيا. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، تشابكت في هذه المنطقة مصالح عدد من القوى العالمية الكبرى، لكلٍّ منها أهدافه الخاصة، التي قد تكون بعيدة كل البعد عن الاعتبارات الاقتصادية. وبالنسبة للدول الغربية، فإن أحد الأهداف الرئيسة خلال العقود الثلاثة الماضية هو استخدام القوقاز كأداة لإضعاف روسيا، من خلال زعزعة الاستقرار على حدودها. ولتحقيق ذلك، تُستَخدم ذرائع شتى، من بينها اليوم ما يُعرف بـ”ممر زنغزور”.
تعود جذور هذه المسألة إلى عقود ماضية، وترتبط بإرث الحقبة السوفييتية. فقد نشأت المشكلة بسبب خصوصية شبكة النقل بين أذربيجان وجيبها المنفصل على الحدود مع تركيا، جمهورية ناخيتشيفان الذاتية الحكم، والتي كان الاتصال بها قبل اندلاع حرب كاراباخ الأولى مع أرمينيا يتم عبر عدة طرق برية وسكك حديدية تمر عبر سلسلة جبال زنغزور. غير أنّ هذا الاتصال انقطع مع اندلاع العمليات العسكرية عام 1992، وانتقال المناطق القريبة من الحدود الإيرانية إلى سيطرة “جمهورية ناغورنو كاراباخ” غير المعترف بها، كما تم تفكيك ممر بطول أربعين كيلومترًا من خط السكك الحديدية في القوقاز.
على مدى العقود التالية، أرجأت باكو ويريفان هذا الملف، إذ أصبحت قضية ناغورني كاراباخ هي المحور الرئيسي للخلاف بينهما، وهو الملف الذي حسمته أذربيجان عسكريًا عام 2020 خلال حرب كاراباخ الثانية. حينها وصلت القوات الأذربيجانية إلى القطاع الجنوبي من الحدود مع مقاطعة “سيونيك” الأرمنية، ثم أحكمت سيطرتها على كامل الحدود، باستثناء “ممر لاتشين” الذي بقي يربط ناغورنو كاراباخ بأرمينيا. وفي عام 2024 توقفت “جمهورية ناغورنو كاراباخ” عن الوجود، وأصبحت كل أراضيها تحت السيطرة الأذربيجانية. ومع ذلك، لا تزال باكو تفتقر إلى خط نقل مباشر مع ناخيتشيفان، التي يقطنها نحو نصف مليون نسمة، ويجري الاتصال بها حاليًا عبر الجو أو عبر الأراضي الإيرانية.
أُعيد طرح مسألة استعادة الاتصال المباشر بين أذربيجان وناخيتشيفان على الطاولة في خريف عام 2020، وذلك بعد توقيع بيان مشترك في العاشر من تشرين الثاني 2020 بين رئيس أذربيجان ورئيس وزراء أرمينيا ورئيس روسيا، أعلن فيه عن وقف كامل لإطلاق النار، منهياً حرب كاراباخ الثانية. ونصّ البيان على إعادة فتح جميع الروابط الاقتصادية والنقل في منطقة النزاع، وضمان أرمينيا لأمن المواصلات بين أذربيجان وناخيتشيفان في كلا الاتجاهين، مع إمكانية إنشاء خطوط نقل جديدة، على أن يتولى حرس الحدود الروس الإشراف على ذلك. ويُذكر أنّ البيان لم يتضمن مصطلح “ممر زنغزور”، بل أدخله إلى التداول السياسي الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف.
وفقًا لخطة باكو، ينبغي ألا توجد أي عراقيل أمام الاتصال مع ناخيتشيفان، ويمر الطريق المقترح بمحاذاة الحدود الإيرانية ليتصل بشبكة النقل في غرب أذربيجان. كما يُخطط لمد خط سكة حديد وطريق بري سريع من مدينة “قارص” التركية إلى ناخيتشيفان. وفي المجمل، يُراد لممر زنغزور أن يكون جزءًا من “الممر الأوسط” أو “المسار الدولي العابر لبحر قزوين” الذي تدعمه الدول الغربية بقوة، لربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى وتركيا متجاوزًا الأراضي الروسية. وكان علييف قد صرح عام 2021 بأن زنغزور “أراضٍ تاريخية” تابعة لأذربيجان، وأن الممر سيفتح سواء وافقت يريفان أم لا، وإذا لزم الأمر فـ”بالقوة”.
صراع الممرات في القوقاز: رهانات جيوسياسية بين باكو ويريفان
إن الخطط التي يطرحها أذربيجان، والتي كان يراها كثيرون في يريفان عدوانية، لا ترضي بطبيعة الحال أرمينيا، إذ إن تنفيذ المشروع يعتمد مباشرة على موافقتها، حيث يفترض أن يمر المسار عبر مدينة ميغري في مقاطعة سونيك (ولهذا يُطلق على الممر أحيانًا اسم الممر الميغري أو السونيكي). وكما أشار سابقًا رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، فإن مجرد المصطلح الذي اقترحته باكو “يُستخدم عنوانًا لطرح مطالبات إقليمية ضد أرمينيا”. وتخشى يريفان بجدية أن يؤدي هذا المسار إلى فصل البلاد عن حدودها مع إيران وفقدان مقاطعة سونيك.
لذلك، طرحت أرمينيا في تشرين الأول/أكتوبر عام 2023 مشروعها البديل الذي أسمته “مفترق طرق السلام”. ويهدف هذا المشروع إلى توسيع الروابط بين أرمينيا وتركيا وأذربيجان وجورجيا وإيران عبر تحديث وبناء بنية تحتية للنقل والطاقة في المنطقة. وتشدد يريفان على الحفاظ على سيادتها، وترغب في الإشراف بنفسها على حركة العبور في أراضيها، بما في ذلك القيام بمهام الجمارك ومراقبة جوازات السفر وضمان الأمن.
خلال السنوات الماضية، فشلت أذربيجان وأرمينيا في التوصل إلى توافق، مما أعاق أيضًا توقيع معاهدة سلام بين البلدين، ولم تحقق حتى اللقاءات رفيعة المستوى تقدمًا يُذكر. ففي حزيران، وخلال لقاء باشينيان بالجالية الأرمنية في إسطنبول، دعا إلى عدم إثارة الذعر، مؤكدًا أنه “لن يكون هناك ممر زنغزور، بل مفترق طرق السلام”، القائم على “الاحترام المتبادل، وسيادة الدول، وولايتها القضائية”.
في المقابل، أعلن الرئيس الأذربيجاني بعد لقائه باشينيان في الإمارات في العاشر من تموز، وخلال مشاركته في المنتدى الإعلامي العالمي الثالث في شوشا بتاريخ التاسع عشر من الشهر نفسه، أن الجزء الأذربيجاني من خط السكك الحديدية في ممر زنغزور سيكتمل بحلول ربيع عام 2026، وأن المشروع سينفذ بالفعل. وإلى جانب التصريحات، تباشر باكو أعمالًا ميدانية واسعة، منها بناء خط سكك حديد غورادِز – آغبيند بطول يزيد على 110 كيلومترات، وإنشاء طريق سريع موازٍ بطول 123,5 كيلومتر، فضلًا عن مشروع خط سكك حديد من مدينة قارص التركية إلى نخجوان بطول 224 كيلومترًا، المقرر إنجازه خلال خمس سنوات.
القوقاز بين موسكو وواشنطن: من ممرات العبور إلى خطوط المواجهة
تعارض طهران مقترحات باكو، إذ تعتبر ممر زنغزور مشكلة قد تؤدي إلى فقدان إيران لدورها كبلد عبور في المنطقة، وفي المدى البعيد قد تساهم في تعزيز نفوذ كل من تركيا وأذربيجان هناك. ولهذا السبب، طرحت إيران مشروعًا بديلاً يتمثل في ممر عبور بطول 107 كيلومترات يُسمّى «ممر آراز» يمر عبر أراضيها (أغبند – كالاله – جلفا)، وقد بدأت بالفعل الأعمال التنفيذية له. وتكمن أهمية هذا المشروع في أنه لا يثير اعتراض روسيا، إذ يمكن دمجه ضمن عملية تشكيل الإطار الموحد للنقل الأوراسي، الذي تروج له موسكو بنشاط لمواجهة مشروع «الممر الدولي العابر لبحر قزوين (TMTM) .
في الوقت نفسه، تشير التطورات الأخيرة إلى أن عددًا من القوى الغربية يخططون لمنع مشاركة موسكو في عملية التفاوض، لما قد يعزز ذلك من موقع روسيا في المنطقة. ونتيجة لذلك، شعرت باكو بدعم لم يعد يقتصر على تركيا، بل شمل أيضًا دول الغرب. وقد ظهرت آثار هذا الدعم في الأشهر الأخيرة، مع التدهور السريع في العلاقات بين أذربيجان وروسيا، وإقدام باكو على خطوات وُصفت بالعدائية تجاه موسكو. وفي النصف الثاني من شهر تموز، صعّدت الولايات المتحدة الموقف بإبداء اهتمام مفاجئ بمصير ممر زنغزور.
فقد طرحت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تحت غطاء «الوساطة والسلام»، خطة تقضي بأن تتولى شركة لوجستية وتجارية أمريكية إدارة طرق النقل في المنطقة. وأعلن السفير الأمريكي في تركيا، توم باراك، عن استعداد بلاده لاستئجار ممر زنغزور لمدة مئة عام، بحجة تطوير البنية التحتية للمسار.
ومن الواضح أن هذا المقترح يستبعد روسيا تمامًا من مسار تسوية القضية، وينقل إدارة الممر إلى الولايات المتحدة. وقد سارعت بعض وسائل الإعلام الغربية إلى الحديث عن «مذكرة سرية» بين أرمينيا وأذربيجان والولايات المتحدة لإنشاء ما أسمته «جسر ترامب»، على أن تحصل يريفان بموجبه على 30% فقط من عائدات استخدام الممر، مع منح الأمريكيين الحق في نشر قواتهم على الأراضي الأرمينية. ورغم أن هذه الأنباء لا تزال مجرد شائعات، وقد نفت الحكومة الأرمينية تقرير صحيفة Periodista Digital الإسبانية حول هذه الصفقة، فإن ابتعاد يريفان مؤخرًا عن حلفائها السابقين في منظمة معاهدة الأمن الجماعي قد يجعل من الصعب استبعاد وجود قدر من الحقيقة في هذه المعلومات.
فضيحة زنغزور: كيف منحت أرمينيا للولايات المتحدة حقوق تطوير ممر استراتيجي بالرغم من نفي باشينيان
تبين أن تصريحات نيكول باشينيان القائلة بأن أرمينيا لن تؤجر أراضيها لأي دولة، كانت زائفة. وفقًا لتقرير صدر عن رويترز نقلاً عن مصادر مطلعة، ستمنح أرمينيا الولايات المتحدة حقوقًا حصريّة لتطوير ممر زنغزور، والذي يعدّ عنصرًا محوريًا في اتفاق السلام – تحت رعاية البيت الأبيض – بين أرمينيا وأذربيجان.
ستُمنح واشنطن حقوق تطوير طويلة الأجل حصرية لهذا الممر المترامي والذي سيربط أذربيجان بجزئها المنفصل نخجوان (نختشيفان) عبر جنوب أرمينيا. الممر سيُعرف باسم “مسار ترامب للسلام والازدهار الدولي” (TRIPP)، وسيُدار وفقًا للقانون الأرمني بواسطة تحالف مشترك (كونسورتيوم) .
يُشار إلى أن الاتفاق، تم توقيعه في مراسم بحضور دونالد ترامب، وجاء أيضًا ليُبعد روسيا من دائرة الوساطة ويُعزز النفوذ الأمريكي في القوقاز، وفقًا للتوضيحات، لن تتولى الولايات المتحدة إدارة المسار مباشرة، بل ستقوم بتأجيره من الباطن إلى تحالف خاص تم إنشاؤه خصيصًا لهذا الغرض، والذي سيتولى بناء كافة البنى التحتية اللازمة ومن ثم جني الأرباح منها. وللتأكيد على أن الممر تابع لأرمينيا، ستطبق القوانين الأرمنية داخل منطقة الممر.
في وقت سابق، كان باشينيان يقرع صدره بتصريحات مؤكدة أنه لا يمكن الحديث عن أي تأجير للأراضي، واصفًا هذه الادعاءات بأنها “أكاذيب واستفزازات”.
في هذا السياق، يجب التذكير بأن مصالح الولايات المتحدة، مثل مصالح دول الاتحاد الأوروبي، بعيدة كل البعد عن الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة. بل إن البعد الاقتصادي في هذه المشاريع أقل أهمية من البعد السياسي، إذ إن واشنطن، رغم خطابها «السلامي» على لسان ترامب، لا تميل إلى تغيير جوهري في سياستها الخارجية، المبنية إلى حد كبير على مبدأ «فرّق تسد». وبناء على ذلك، تنظر الولايات المتحدة إلى القوقاز باعتباره منطقة يجب أن تبقى في حالة توتر دائم، وخاصة على حدود روسيا، بحيث تواجه موسكو باستمرار أزمات تستنزف مواردها واهتمامها. وإضافة إلى ذلك، فإن السيطرة الأمريكية الكاملة على المنطقة قد تجعلها منصة لإطلاق عمليات ضد إيران، بل وحتى الصين. ومع الميل الواضح لباكو نحو حلف الناتو، قد يتحول ممر زنغزور إلى أحد الشرايين العسكرية الرئيسية للحلف في القوقاز، بما يحمله ذلك من تداعيات استراتيجية خطيرة.
موسكو وممر زنغزور: بين استراتيجيات الاحتواء وخطر التصعيد
للأسف، لا تملك روسيا كثيرًا من الأدوات التي يمكنها استخدامها لمنع تطوّر سيناريو سلبي بالنسبة إليها في المنطقة. ومن هذه الأدوات تطوير ممر الشمال–الجنوب، الذي يهدف إلى دمج محاور النقل في روسيا وأذربيجان وإيران والهند. ومشاركة الطرف الهندي في هذا المشروع لا تقتصر على بُعدٍ اقتصادي فحسب، بل تحمل دلالات جيوسياسية أيضاً، إذ إن انخراط نيودلهي كحليف لموسكو سيكون له أثر رادع تجاه أذربيجان.
في الوقت نفسه، تبذل روسيا أقصى ما لديها من جهود كي لا يخرج إيران من تدفقات النقل ولا تفقد دورَها في المشاركة بتطوير منظومة اللوجستيات في القوقاز وآسيا الوسطى. ومن المعروف أن أحد أهم المشاريع في هذا الإطار هو بناء خط سكة حديد رَشْت (إيران) – أستارا (إيران/أذربيجان)، وقد خصصت روسيا لهذا المشروع أكثر من مليار وثلاثمائة مليون يورو. وإذا أضفنا إلى ذلك سعي روسيا للمشاركة في مشاريع البنية التحتية والطاقة والأمن الغذائي ومشاريع أخرى في المنطقة، يتضح أن موسكو ليست مستعدة للتنازل عن موقعها بسهولة.
ورغم ذلك، سيعتمد تطور الموقف إلى حد كبير على مدى ثقة سلطات أذربيجان بنفسها وعلى حجم الدعم الذي وعدهم به شركاؤهم من تركيا والدول الغربية. فإذا قررت باكو أنه بعد الحرب الثانية على كاراباخ وبتراجع نفوذ طهران في القوقاز يمكن تجاهل مصالح أرمينيا وإيران وحتى روسيا، فقد ينزلق الوضع إلى أزمة ليست سياسية فحسب بل قد تصبح عسكرية أيضاً، وهو ما قد يرحب به كلٌّ من واشنطن ولندن.
لذلك، وعلى الرغم من الانتقادات التي قد توجهها باكو لموسكو، سيتعين على روسيا في مسألة ممر زنغزور أن تتصرف بِأقصى درجات الحذر والدقّة، وأن تدرس كل خطوةٍ من خطواتها بعناية وتستعد لسيناريوهات متنوّعة لتطوّر الأحداث، ولكن…
