تَـوْقُ الحَـمَـامَـة

تَـوْقُ الحَـمَـامَـة

 أحمد بوزفور

           و(توقُ الحمامة) هو عنوان ديوان شعر جميل للصديق الشاعر ومترجم الشعر الأستاذ حسن حلمي. صدر الديوان هذه السنة عن دار (الكتب خان) في القاهرة.

ــ تشيع في الديوان كله أجواءُ الأندلس: زخارفَ وظلالاً.. وأصواتاً وأصداء.. وروائحَ وأذواقاً.. وشخصياتٍ وأشعاراً..

 ــ ويشـعُّ في الديوان ذلك الضوءُ الأندلسي المتميز:

ذلك أن ضوءَ الشمس في الأندلس، وفي الصيف خصوصا:

ــ ضوءٌ صافٍ لا تشوبُه شائبةُ غيمٍ أو غبار.

ــ وضوءٌ باهر حـادٌّ تبرز فيه الألوانُ على حقيقتها. وعن هذا الضوء يبحث الرسامون، وعنه ــ ربما ــ كان فان كَوخ يبحث حين هاجر إلى الجنوب.

ــ وهو أخيرا ضوءٌ حـارٌّ ساخن. ضوءٌ مُفَـلْـفَـلٌ كأنه (شَطَّةُ) النهار.. حتى إذا انعكسَ على حقول القمح والبرتقال في قصائد لوركا، صار نهارُهُ مُقْـمِـراً و(شَطَّـتُهُ) عسلاً.

هذا الضوءُ أندلسي خاص. وأنا أحبه، حتى حين أراه متنكراً هنا في المغرب. أحبه كحب تلك الأعرابية العاشقة التي سألوها عن مبلغ حبها لصاحبها، فأجابت:

(أرى الشمسَ على جدار بيته أجملَ منها في أي مكان آخر).

 الأندلس: المكان ما يزال هو الـمـكان، لكن الزمان.. خرج من مرحلة (الطوق) إلى مرحلة (التوق).

وحسن حلمي ليس ظاهريا، فيما يبدو، فخلف كل صورةٍ/ كلمةٍ من صوره وكلماته.. باطنٌ عميقٌ من النصوص والمشاعر والحكايات.

اخترتُ لكم صديقاتي/ أصدقائي قِـطَـعاً مُشَـهِّـيـةً من هذا الديوان الجميل.. بعناوين الشاعر نفسه، وبتعليقات خاطفة من عندي:

الظَّـاهِـري (1)

(.. مِـرْآةٌ

تعكسُ

 مرآةً

تعكسُ

مرآةً.

من يستطيعُ أن

يَـسْـبُـرَ أغوارَ المـرايا؟

له البواطن

وليس لنا سوى الظواهر..

.. ..

ها أنت تنظر إلى الأمامْ.

ها أنت تنظر إلى الآلامْ.

أتخشى أن تلتفتَ فتتلاشى (نُـعْـم)؟ (2)

إن كنت حقا تخشى هذا

فلأنك متشبثٌ أبداً بالظاهر.

لو تنازلتَ قليلاً

واستبطنتَ كما الشيخ الأكبر،

لسمعتَ نجوى الرعـد،

ولَـرويتَ  من مِـدْراره المَطير. لو تنازلتَ قليلا

واستبطنت،

لأدركتَ أن الظاهرَ قاصرٌ

عن صفاء الصفات العلوية،

لأدركت أن العبارة لا تُغني عن الإشارة،

وأن الفَـلَـكَ هو السفينةُ والأمواجُ والماء.

( فاصرف الخاطرَ عن ظاهرها

واطلب الباطنَ حتى تعلما ) (3)

وتظل تبحث أيها المسافر،

تمـر بجانبه دون أن تراه.

يقينا، آه، ضَـلَّـلَـكَ الـدَّليل.  )

تعليق:

(1)  من المعروف أن ابنَ حزم الأندلسي القرطبي (من علماء الأندلس في القرن الخامس الهجري. وهو شخصيةُ هذا الديوان المحورية) كان ظاهريَّ المذهب. نسبةً إلى صاحب المذهب وهو داود بن عليّ بن خلف الأصبهاني (من علماء القرن الثالث الهجري). ويدعو المذهبُ إلى الأخذ بظاهر الكتاب والسنة، والإعراضِ عن التأويل والرأي والقياس. وقد حارب علماءُ السنة هذا المذهبَ وأخملوه، حتى جاء ابنُ حزم فأحياه ودافع عنه.

(2) (نُعْم): هي صاحبة ابن حزم التي أحبها، والتي ــ كما يقول في طوق الحمامة ــ:

( فجعتني بها الأقدار.. وَسِـنِّي حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمتُ بعدها سبعةَ أشهر لا أتجرد عن ثيابي، ولا تفتر لي دمعةٌ على جمود عيني.. وعلى ذلك فوالله ما سلوتُ حتى الآن.. ولقد عَـفَّى حبي لها على كل ما قبله، وحَـرَّمَ ما كان بعده. )

وفي قول الشاعر: (أتخشى أن تلتفت فتتلاشى نعم؟، إشارةٌ إلى قصة أورفيوس مع حبيبته يريديس).

(3) البيتُ من شعر ابن عربي 

لَـبْـلاب

( اللبلابُ يَـشُـبُّ

في الجدار كله،

والجدارُ شاردٌ.. باردٌ

يحلم بدفء اللبلاب. )

تِـيـنُ البـربر

(في أحضان (الحمراء)

بستانُ صُـبَّـار.

بستانٌ صغير:

بصمةُ بـورٍ من الجنوب.

بستانٌ تَسْـفعُهُ الشمسُ

وتُهاجمُهُ الأحراشُ.

بستانٌ شائكٌ

مثل شؤون الهوية.

بستانٌ يُثمـرُ ما كان يُسميه الإنجليزُ

في القرون الوسطى:

تينُ البـربر )

 

نافذة

( الواقفُ أمام هذه

النافذة العتيقة

يسمعُ، رغم الزجاج،

ترانيمَ النافورة خافتـةً

تهمس أشجانَها في سمعِ

أَقاحٍ تُـرَصِّـعُ الأحواض.

في هذه النافذةِ العتيقةِ

روحُ أُرْغُـنٍ يحبسُ أنغامَـه

كي لا يُزعجَ الأشجارَ

المعتكفةَ في الفِـناء.

والأشجارُ المُعتكفةُ في الفِـناء

شاخصة تَـتَـطَـلَّـعُ إلى العلياء،

تحبسُ أنفاسَها

كي لا تُزعجَ الطيورَ في السـمـاء).

 

إِزْهَــار

تَـتَـفَـتَّـحُ الـرُّمَّـانةُ أمامك فجأةً:

آفاقٌ

تِـلالٌ

أدواحٌ

بساتينُ

منازلُ.

يصيرُ الغموضُ جَـلاءً

لـكِ في القـلوب يا منا.. (1)

(1) ــ إشارة إلى بيت المتنبي في مطلع إحدى قصائده:

( لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ

أقْـفَـرْتِ أنتِ، وهُـنَّ منكِ أَوَاهِـلُ )

ولحسن حلمي عذرٌ في ترخيم (منازل). وعذرُه هو أن (مَـنَا) هنا مُـنَادَى. والترخيم يليقُ بالمنادَى.

 على أن للشاعر أن يُرخِّـمَ بالمنادَى وبدونه، فقد سبق لِـلَـبيـد أن قال:

( دَرَسَ المَـنَـا.. بِ(مُـتَــالِـعٍ) فَـ(أَبَـانِ)

وَتَـقَـادَمَـتْ ب(الـحُـبْـسِ) فَـ(الـسُّـوبانِ)

 

لقـطـة

( من هذه الزاوية

تلتقطُ العدسةُ الزرقةَ المتسامية.

وفي أعلى الزاوية،

تبدو الشجرةُ

شبحاً غامـضاً،

وتبدو أوراقُها

طيوراً قَـلِـقَـةً سوداءَ

تَـتَــشَـهَّى أن تغوصَ

عمـيقـاً

في زرقة السماء).

 

ياقوت

(قِلادةُ الياقوت

على هذا المـرمـرِ

جـمـرٌ باهتٌ

مُـدْمِـنٌ في الأفول:

بعد حينٍ، يَـغْـمُـرُهُ الـرماد).

 

أسـئـلـةٌ شفوية

(كيف يسمحُ الشارعُ

المرصوفُ بالجـرانيت النبيل

لكل هذه الظلالِ بأن تتلاعبَ،

على مرأى من هذه الشجيرات

التي تلزمُ مكانَها على الرصيفِ

دون أن تتدَخَّـل؟

ولماذا يقف السورُ هناك في مكانه،

كأن الأمرَ لا يَعنيه؟

الأُصُـصُ أمامَ الأبوابِ

وعلى الشُّـرُفاتِ

وفي النوافذ.

عازفُ الكَـمانِ المُـتَـسَـوِّلُ

يَعزفُ وأمامه كلبُـه.

والعجوزُ تقف لِـتـتـصـدَّق:

أناقةُ السؤال

 في عرس الألوان.

يَغـارُ الياقوتُ

من القرميد في أعلى الـبُـرْج.

والأفنانُ الـتَّـوَّاقةُ تصبو مَـشُوقَـةً،

والسماءُ الزرقاءُ تخلع زرقـتَـها

على الظهيرة.

والشارعُ ينحرف،

ينحرفُ معه الضوءُ،

والظـلُّ يَـتبعُـه.

كلُّ هذا السكون،

كأن السكانَ كلهم غادروا

كأنهم قد رحلوا

نحو جزائـرَ مشرقةٍ

تَـتَـناثَـرُ في الـيَـمِّ الشـاسع:

كلُّ جزيرةٍ تَـدَّعي أنها

قُـدْسٌ تصلُ الأرضَ بالسماء).

 

بـاب

أربعةُ ألواحٍ بُـنِّـيَّـةٍ

من حَـوْرٍ نبيل

مُعَشَّـقَـة في الباب الصخري العتيق

كأنه منها وكأنها منه.

رُصِّـعَـتْ بمسامير التفاعيل:

فاعلاتن.. فاعلاتن.. فاعلاتن

مستفعلن.. مستفعلن

فاعلاتن.. فاعلاتن.. فاعلاتن.

المساميرُ تفاعيلُ

وعينُ المفتاحِ قُـفْـلٌ

هل كان النـجارُ وَشَّـاحاً؟

وشَّـاحاً لا يَنظمُ إلا الأعلاق؟

بابٌ لو رَأَتْـهُ (وَلَّادة)

لهجَـرَتْ قرطبة

ولَاسْـتَـوْطَـنَـتْ غرناطة).

شارك هذا الموضوع

أحمد بوزفور

قاص وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!