التشاؤم الذي يسبق الخيبة
عبد الرحمان الغندور
في خضم الأجواء القاتمة التي تتسم بثقل الأزمات المتعددة والمترابطة، والانهيارات المتلاحقة والشاملة، تطفو على السطح تساؤلات مصيرية حول جدوى العملية الانتخابية المقبلة في المغرب عام 2026 وقيمتها التمثيلية والتداولية.
إن محاولة تقييم هذه الانتخابات موضوعياً تتطلب مقاربة أعماق السياق الذي سينتجها، وليس مجرد قراءة شكلية أو تقنية لما يتم التحضير له.
فالانتخابات، في أي نظام ديمقراطي يحترم نفسه، يفترض فيها أن تكون آلية لتجديد الثقة بين الحاكم والمحكوم، وأداة للمحاسبة وتداول النخب، ومنفذاً للتعبير عن الإرادة الشعبية. لكنها في الوضع الحالي المغربي، لا تعدو أن تكون سوى طقس شكلي أجوف، يُجرى في فراغ سياسي واجتماعي.
إن إضعاف الأحزاب السياسية، عمداً أو نتيجة لعوامل موضوعية، يجردها من قدرتها على تأطير المواطنين وتجميع مطالبهم وتحويلها إلى برامج سياسية فعلية. وعندما تفقد هذه الأحزاب مصداقيتها، وتذوب في خطاب رسمي واحد، أو تنشغل بصراعات غنائمية أو هامشية، فإن حقل السياسة يصبح خاوياً، وتتحول الانتخابات إلى منافسة بين وجوه متشابهة على منصة مهترئة.
الأزمة الأعمق هي أزمة ثقة. فالشعور بتخلي الدولة عن التزاماتها الاجتماعية، وتفشي الفساد ونهب المال العام، يخلقان قناعة راسخة لدى المواطن بأن الطبقة السياسية بأكملها، بمن فيهم المنتخبون، هي جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل. وهذا يؤدي إلى تلك النتيجة الحتمية: العزوف الكبير عن المشاركة حيث يصبح المقاطعون هم الأغلبية الصامتة، بينما تتحول العملية الانتخابية إلى حوار بين أقلية تشارك لأسباب زبونية أو قبلية أو مادية صرفة، ونخبة حاكمة تقدم هذه المشاركة المحدودة كشرعية مطلقة. وحتى لو جرت الانتخابات بشفافية تقنية مثالية، فإن شرعيتها السياسية والأخلاقية ستظل معيبة لأنها لم تعد تعبر عن الإرادة العامة.
أما الجدوى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الانتخابات في ظل موجة الغلاء وتصاعد الفقر، فهي مسألة أخرى مأساوية. عندما يكون هم المواطن اليومي هو تأمين قوت أسرته، فإن خطابات التغيير السياسي والوعود الانتخابية تفقد أي معنى. فتتحول السياسة إلى ترف لا يقدر عليه سوى أصحاب ” الشكارات”. أما من يناضل من أجل البقاء في مثل هذه الظروف، فستكون مشاركته في الانتخابات من باب تصويت الجياع لصاحب “الصحن المسموم” وليس لصاحب المشروع المجتمعي، مما يكرس دينامية المحسوبية والزبونية، ويغلق الباب أمام أي إصلاح حقيقي قائم على البرامج والأفكار.
غير أن النظرة الموضوعية تتطلب أيضاً عدم إغفال الجانب الآخر من المعادلة. فبالنسبة للنظام السياسي، تظل الانتخابات، حتى في أسوأ حالاتها، آلية لا غنى عنها لإدارة التعددية النسبية داخل النخب، وتوزيع موارد الريع، وإضفاء شرعية دولية ولو شكلية. إنها صمام أمان لإطلاق بعض البخار الاجتماعي وإيهام الجميع بأن هناك طريقاً للتغيير.
كما أن هناك قوى مجتمعية حقيقة، قادرة على الضغط في مجرى الأحداث، من خلال ما تعبر عنه الحركات الاحتجاجية، ومناهضة التطبيع، والنزول للشارع بكثافة حول العديد من القضايا، لكن ضعفها يكمن في تشردمها وعدم قدرتها على تحويل زخم الشارع إلى جبهة وطنية واسعة لكل الراغبين في التغيير الحقيقي عبر برنامج الحد الأدنى من التوافقات اللازمة للتعبير عن إيمان الجميع بضرورة خوض معركة التغيير بكل الأشكال الشرعية والمشروعة.
هنا يبرز التشاوم الذي يولد الخيبة، حيث لا يبدو أن الانتخابات القادمة ومخرجاتها قادرة على تحقيق المفاجأة في صورة بروز معارضة حقيقية جريئة تستثمر غضب الشارع وحركيته وخيبة الأمل، وتترجمه في مشروع قادر على خلخلة ميزان القوى. وبالتالي لن تكون الانتخابات المقبلة سوى تكريس للإحباط وتعميق القطيعة بين الدولة والمجتمع؟ فالخطر الحقيقي ليس في فشل الانتخابات، بل في نجاحها في إنتاج نفس النخب ونفس السياسات تحت غطاء ” ديمقراطي “. وهذا النجاح هو الفشل الأكبر، لأنه سيدفن آخر أمل لدى الكثيرين في إمكانية الإصلاح من الداخل.
في الختام، إن التقييم الموضوعي يخلص إلى أن الانتخابات المقبلة ستجري في وضع استثنائي من التآكل الشامل لمقومات الشرعية. قيمتها على القادم من الأيام منعدمة، ولن تكون لها جدوى تذكر أمام حجم الانهيارات إلا إذا ما اقترنت بجرأة سياسية غير مسبوقة، تعيد الاعتبار للسياسة كخدمة عمومية، وتفتح الأبواب أمام محاسبة حقيقية للفساد، وتعيد بناء الثقة عبر إجراءات ملموسة وليس خطابات طنانة. بدون ذلك، ستظل الانتخابات مجرد ديكور في مشهد يغيب عنه المواطنون الفاعلون، وتحضر فيه الدمى والظلال.
