بمناسبة الدورة الثانية لمهرجان بغداد السينمائي (3): السينما العراقية: وقفة متأنية عند البدايات

رضا الأعرجي
سواء أكان فيلم “عليا وعصام” جيداً أو رديئاً، متميزاً أو عادياً، فالمهم بالنسبة لنا ونحن نتحدث عن السينما العراقية في بداياتها، أن نعترف بأن هذا الفيلم، بالمعنى التاريخي هو أول فيلم عراقي، وسنظل ملزمين بهذا الاعتراف دائماً.
ومند عام 1948، العام الذي شهد انتاج فيلم “عليا وعصام” وحتى الآن، لم يكن ثمة خيط يربط الإنتاج السينمائي العراقي بمعنى الينبوع والمصب، فوشائج هذا الفن الجديد والمتأخر في استخدامه في العراق، كانت في السينما المصرية، وهذا هو الأصل في الفيلم العربي، بالنسبة للعراق وسوريا ولبنان في الأقل، وكان على السينما العراقية أن تنتظر حوالي عشر سنوات من بدايتها لتتخذ اتجاهاً واضحاً ومختلفاً عن الاتجاه التقليدي المباشر للسينما المصرية، هذا الاتجاه الذي حاول النفاذ إلى القضايا الاجتماعية، واتخاذ نماذج تمثل أبرز صور الواقع العراقي.
إننا نستطيع أن نعثر بسهولة على النموذج الكامل للاتجاه التقليدي في مجموعة الأفلام الأولى: “القاهرة ـ بغداد 1949″ و”ابن الشرق 1949″ و”ليلى في العراق 1950”. كما نستطيع أن نعثر عليه بشكل أشد بروزاً في أغلب الأفلام التي انتجت بعد عام 1958، وخاصة في فترة الستينات التي شهدت لوحدها انتاج 26 فيلماً هي نصف مجموع الانتاج السينمائي الروائي حتى عام 1979.
أما أبرز نماذج الاتجاه الثاني فيتمثل في فيلمي “من المسؤول 1956” و”سعيد افندي 1957″، إذ حاول هذان الفيلمان اليتيمان في مرحلة البداية بلوغ أقصى حالة ممكنة لتجاوز مجموعة من التجارب التي وصلت إلى حد مخل في المعالجات الفكرية والفنية رغم النشاط الثقافي الذي عرفه العراق آنذاك والذي مثلته حركة الشعر الحر والتجمعات الفنية العديدة، التشكيلية والمسرحية، ذلك أن مجموعة من المنتجين العراقيين ومشاركين آخرين من مصر ولبنان توجهت إلى الجمهور الذي ظل خارج دائرة الحياة الثقافية والفنية بشكل أو آخر، وخاطبته منذ أول أفلامها.
وتبدأ المرحلة الثانية عام 1959 حيث قامت أول مؤسسة رسمية للسينما، وهي مرحلة شهدت أشكالاً متنوعة من الدعم والتوجيه السياسي، وقد بادرت “مصلحة السينما والمسرح” بعد انشائها مباشرة إلى شراء الأجهزة والمعدات السينمائية التي كانت تمتلكها “دائرة الاستعلامات الأميركية” في بغداد والتي كانت الجهة المنتجة للأفلام الاخبارية القصيرة، قبل قيام ثورة تموز 1958.
والمفارقة، أن المرحلة هذه (مرحلة القطاع العام) شهدت أوسع نشاط للقطاع الخاص الذي دخل في محاولات فردية أو عبر تجمعات فنية، ساحة الانتاج السينمائي الروائي، وكان أن قدم عدداً من أفلام الجريمة والمطاردات والأفلام الاستعراضية والغنائية (ذكريات، درب الحب، ليالي العذاب ..الخ). ولم يفلت من إنتاجات تلك المرحلة سوى فيلم “الحارس 1968” الذي كان بحق نقلة كبيرة في الموضوع والشكل، وخروجاً على أهم التقاليد المختلفة التي تربى عليها الفيلم العراقي.
وكما يبدو، فإن السينما العراقية كان مقرراً لها الانتظار طويلاً لتجد أسباب تطورها واستقرارها، فبين فيلم “الحارس” و”بيوت في ذلك الزقاق 1977″ لم تظهر سوى إنتاجات محدودة للقطاعين العام والخاص أهمها “الظامئون 1972”. أما الإنتاجات الأخرى والتي بلغت ستة أفلام فلم تزد صورة السينما العراقية إلا خواء.
لقد طبعت ظاهرة الإنتاجات التقليدية المباشرة سيرة السينما العراقية طوال ربع قرن من التعثر والتجريب حتى أصبح معها التقدير للأفلام القليلة الجادة حماسياً ومبالغاً فيه، فقد اعتبرت هذه الأفلام استثنائية بين الانتاج السينمائي العراقي و”تجارب رائدة” و”نقاط بداية” و”خطوات إلى الأمام”، وصار من المألوف في الأحكام النقدية أن تطلق على كل فيلم يتجاوز ولو بنسب ضئيلة ما سبقه هذه الأحكام مجتمعة.
إنها مشكلة الندرة والجودة بين مجموعة من الانتاجات الهابطة، كان السبب فيها تعثر القطاع العام آنذاك وعجزه في وضع خطة انتاجية كفيلة بالاستمرار، وفشله في الاستفادة من الخبرات الوطنية المؤهلة، وذلك نتيجة لغياب النظرة الجادة للسينما، وللقصور في فهم طبيعتها وخصائصها المميزة.