عندما يخرج النقاش عن السيطرة

أحمد لعيوني
في أجواء ودية بمقهى “الأمل” بابن أحمد، وهو مكان عادة ما يشهد نقاشات حول مواضيع متنوعة يطرحها الرواد فيما بينهم، تدور حول الأحداث الجارية، والحياة اليومية العادية والمستجدة. وكان في ذلك اليوم قد انطلق حوار بين مجموعة من الأشخاص يتعلق بموضوع حساس ومحوري، ألا وهو “إصلاح التعليم العمومي في إطار منظومة المدرسة الرائدة”.
بينما كان من المفترض أن تتبادل الأفكار بين مواطنين مسؤولين بأسلوب هادئ ورزين وحوار مفيد، لكنه في لحظة من اللحظات انتقل إلى مشهد متوتر. فقد تدخل شخص مقدما نفسه على أنه نقابي متمكن من معرفة كل شيء، مع أنه في حقيقة الأمر مجرد موظف متقاعد، ونقابي سابق، يغلب عليه التطرف. وفي هذه الحالة احتكر الكلام، وتغير مجرى النقاش من أسلوب هادئ إلى محاولة فرض رأيه بالعنف والصراخ، مدعيا أن خبرته النقابية تمنحه سلطة لا تنكر، ولا يناقشه فيها أحد. وما أن عبرت عن رأي مخالف، حتى رد علي هذا النقابي المتقاعد بوابل من الشتائم والتهديدات بشكل مسترسل، وبلسان لاذع وصوت مرتفع أثار انتباه جميع رواد المقهى التي أصبح فضاؤها حلبة صراع يصول ويجول فيه شخص واحد، مستغلا صمتي وهدوئي تفاديا لحدوث الأسوأ.
لقد تجاوز الهجوم اللفظي العنيف من طرف محاوري لمدة مستمرة فاقت حدود النقاش الديمقراطي الذي تدهور إلى الترهيب والتشهير. صدم هذا السلوك رواد المقهى، الذين رأوا فيه فرصة نقاشهم تتحول إلى مساحة للهيمنة الكلامية، واللغط المتعالي من طرف هذا الشخص. مع العلم أن الخبرة النقابية تعد ركيزة أساسية للدفاع وفهم القضايا الاجتماعية باستعمال الحوار الهادئ والمقنع، بدلا من أن تستغل كأداة للتفوق واستعراض العضلات، ومحاولة فرض وجهة النظر بالقوة.
إن ادعاء خلفية نضالية لفرض رؤية ما، مع حرمان الطرف الآخر من حق المشاركة في النقاش، ليست ديمقراطية، كما أن الإهانات والتهديد بالضرب أو البوح بالقضاء على الطرف الآخر، هي سلوكات تتجاوز الخطوط الحمراء. فهي تقوض كرامة الآخر، وتتعارض مع القيم التي تدافع عنها المواطنة والديمقراطية.
كما أن هذا الحدث من شأنه تسليط الضوء على ضرورة حماية فضاءات التجمع العامة، مثل ما وقع في “مقهى الأمل”، كمنافذ للحوار البناء المحترم. فإذا تعارضت الأفكار، يجب أن يمر ذلك في جو من اللباقة والإنصات، وإلا تحولت حرية التعبير إلى أداة للعنف.
لكن، وفي هذه الحالة تحديدا، تفاقم الاختلاف في الرأي، فبدلا من التبادل البناء، لجأ النقابي المتقادم إلى الإهانات والتهديدات بصوت مرتفع وعنيف أمام الملإ غير مبال بشعور المحاوَر.
حَوّل هذا الموقف الذي اعتبر عدوانيا لفظيا وأخلاقيا، نقاشا جماعيا إلى حالة من التوتر والترهيب. فإلى جانب الاختلاف الإيديولوجي، تُشكل الهجمات الشخصية انتهاكا لمبدأي الاحترام والاعتبار المتبادلين، وهما المبدءان الأساسيان للحوار المدني المتحضر. وأؤكد بأن هذه الهجمات تحمل في طياتها نية مبيتة، وحقدا دفينا يضمره ذلك النقابي المتقادم نحو شخصي لما لا يجهله هو بذاته عما قدمته لبلدتي الصغيرة وبكل تواضع، وخاصة منذ حصولي على التقاعد، من خلال أبحاث لكتابة تاريخ منطقتي، وإصدار على نفقتي الخاصة أربعة كتب، والمشاركة في أربعة كتب مع مجموعة من الكتاب والأكاديميين، وفي العديد من الندوات، ونشر العشرات من المقالات بجرائد ورقية ومواقع إليكترونية، كلها تشهد شهادة الحق على مساهمتي في خدمة وإشعاع جزء من وطننا الحبيب، كان التعريف به منسيا أو متناسيا. ألا يعتبر هذا العمل جزءا من المساهمة في تحفيز المسؤولين وذوي النيات الحسنة على الدفع بالمنطقة إلى الأمام، والنهوض بها ثقافيا ومدنيا واقتصاديا.
أما الشتائم والتشهير والقذف وإطلاق الكلام على عواهنه (جيبها أفمْ وكَول) فلا تغني بأي حال من الأحوال عن حقيقة الوقائع، أو تمس بمسيرتي البحثية لمصلحة هذا الجزء من الوطن. إن الاعتداء على الشرف ليس مجرد جريمة فردية، بل هو اعتداء صريح على كرامة الإنسان ذاتها، حيث يقول الله عز وجل في كتابه الحكيم “ولقد كرمنا بني آدم” الآية 70 من سورة الإسراء.
ففي خضم النقاش الذي انحرف عن مساره الطبيعي، وجدت نفسي عرضة لوابل من السب والقذف والكلام النابي. وإن الحاضرين يشهدون على التزامي بالصمت والهدوء، وامتناعي عن أي رد فعل أو انفعال قد يحسب علي. لقد كان موقفي نابعا من قناعة راسخة بأن الانجرار إلى مستوى الخصم لا يخدم النقاش، ولا يرفع من شأن الحوار، بل يكرس الانحطاط ويضيع جوهر الموضوع.
إن اختياري الصمت في مواجهة البذاءة ليس ضعفا ولا استسلاما، بل هو موقف أخلاقي يعكس رفض السقوط في الدرك نفسه الذي نهجه المعتدي. فالقوة الحقيقية لا تكمن في رفع الصوت ولا في تبادل الإهانات، وإنما في القدرة على التحكم في الذات، وحماية النقاش من الانزلاق إلى مهاترات شخصية لا جدوى منها.
واستنباطا من هذا الحادث الذي شهده رواد “مقهى الأمل”، فلم يكن النقاش حول منظومة إصلاح التعليم سوى تلك الشجرة التعيسة التي تخفى الغابة، أو محاولة حجب ضوء الشمس بالغربال، بل الوضع ينم من خلال ما مارسه المعتدي من سب وقذف وكلام فاحش، عن كشف ظاهرة اجتماعية وسيكولوجية متجدرة في الثقافة الحوارية الهشة، حيث يستبد الحِجاج بمنطق القوة الصوتية والهيمنة الرمزية.
فمثل هذا الموقف يكشف عن عجز المحاور في تمثل قيم النقاش الديمقراطي، ويترجم أزمة أوسع في بنية المجتمع الذي مازال يخلط بين الرأي والهوية، فيرى في الاختلاف تهديدا لذاته، بدل أن يعتبره إثراء للنقاش. فالمعتدي الذي يقدم نفسه كنقابي متسلط يسعى إلى فرض شرعية رمزية على التجربة أو الانتماء، لا على قوة الحجة. وهذا النمط من العنف الرمزي يراد به إقصاء الآخر، وتهميش صوته، عبر تحويل ساحة الحوار إلى حلبة إذلال. ويمكن قراءة هذا الانفجار اللفظي سيكولوجيا بوصفه تعبير عن نزعة منحرفة في الشخصية، نزعة نرجسية لا تحتمل المعارضة، وتمكن صاحبها من التماهي مع صورة “الخبير الأوحد” أو “الزعيم الأبوي” الذي لا يرد قوله. وحين يواجه برأي مخالف، ينكسر هذا البناء الهش، فيلجأ إلى الهجوم الشخصي لتعويض شعور دفين، بالتهديد عند العجز عن الإقناع. إن السب والقذف هنا ليس مجرد كلمات، بل آلية دفاعية نفسية تستعمل لتقويض الآخر وإعادة بناء التوازن الداخلي المهتز للمعتدي.
وبالمقابل، فإن التجائي للصمت والهدوء لم يكن موقفا سلبيا، بل تعبيرا عن وعي تفاديا للانحراف السلوكي. لقد كان الصمت هنا شكلا من المقاومة الراقية، يفضح هشاشة العنف اللفظي ويظهر للمحيطين أن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على الارتفاع عن مستوى الانحدار. وهو ما جعل ذوي الألباب من الحاضرين شهودا ليس فقط على وقائع لفظية، بل على مواجهة بين نموذجين من السلوك : سلوك عدواني متغطرس ينحدر إلى الفحش، وسلوك واع يترفع بالصمت فيكشف جوهر الصراع بين منطق الهيمنة ومنطق العقل. واقتداء بقول الإمام الشافعي رحمه الله:
إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير إجابته السكوت