فلاسفة وعلماء وصوفيون ومفكرون قُتلوا بسبب رجال الدين

د. أحمد بلحاج آية وارهام
يمثل موضوع اضطهاد الفلاسفة من قبل رجال الدين حالة درامية في تاريخ الفكر الإنساني، بحيث شكل الصراع بين حرية الفكر والقيد الديني عنصرًا أساسيًا في تشكيل مسار الحضارات، وأثر في تطور العلوم والمعارف. عبر العصور، اعتمدت السلطة الدينية على التكفير والاتهام بالزندقة لتبرير قتل بعض الفلاسفة الذين تحدوا العقائد السائدة، متسببة في فقدان عقول بارزة وإيقاف مسيرة عقلية ثمينة. يُقدم هذا البحث دراسة شاملة لهذا التوتر التاريخي بين الفلسفة والدين مع التركيز على الفلاسفة الذين قتلوا أو اضطهدوا بسبب مواقفهم الفكرية.
1 – جذور الصراع بين الفلسفة والدين في العصور القديمة
إن بداية هذا الصراع تعود إلى العصور اليونانية القديمة، وكان سقراط هو النموذج الأول والأهم في فلسفة مقاومة السلطة الدينية والسياسية في الوقت ذاته. حُكم على سقراط بالإعدام عام 399 قبل الميلاد، بتهمة إنكار الآلهة الرسمية وإفساد أخلاق الشباب، وهو حكم جاء بناءً على تواطؤ بين المعسكرين السياسي والديني في أثينا(1). رفض سقراط الفرار رغم عرض ذلك عليه، مؤكدًا على تمسكه بالقيم التي آمن بها.في هذه المرحلة، كانت الفلسفة نفسها تعد تهديدًا للسلطة الدينية، إذ استخدمت المؤسسة الدينية الأساليب القانونية لإسكات من يخالفونها. محاكمة وإعدام سقراط أسس نمطًا قضائيًا ولغويًا يُجرم الفكر الفلسفي عندما يتعارض مع السلطة الدينية.
2 – هيباتيا وأثر التعصب على الفلسفة
شهد القرن الرابع الميلادي جريمة اضطهاد مفجعة ضد فيلسوفة وعالمة الرياضيات هيباتيا في الإسكندرية. فقد قتلت بوحشية على يد مجموعة مسيحية متعصبة، تهمتهم أنها تهدد هيمنة الكنيسة الفكرية والسياسية(2). كان لوفاتها أثر رمزي ووحشي على العلاقة بين العلم والفكر النقدي من جهة، والسلطة الدينية المتطرفة من جهة أخرى.التاريخ يشير إلى أن هيباتيا لم تكن فقط ضحية لعداء ديني، بل كانت أيضًا ضحية لتحالفات سياسية بين الكنيسة والسلطة المدنية التي رأت في وجودها تهديدًا.
3 – وقع الاضطهاد على الفلاسفة في العصر الإسلامي المبكر
في الحضارة الإسلامية، تعرض عدد من الفلاسفة والعلماء لاضطهاد من قبل رجال الدين الذين رأوا في فلسفتهم مخالفة لشريعة الإسلام. من أبرز الحالات وفاة ابن المقفع، الذي قتل بطريقة وحشية على يد جماعة اتهمته بالزندقة نتيجة لأفكاره التي رآها المتشددون مخالفة للدين (3).أما أبو نصر الفارابي، فقد نال شتائم التكفير والتهديد بسبب آرائه التي اعتمدت العقل والمنطق، وتبنى فلسفة تقول بحرية الفكر العقلاني في فهم الدين وشرح مبادئه، مما جعله هدفًا للاتهامات بالزندقة(4).نشأت أيضًا أزمة بين الفلاسفة ورجال الدين بسبب تناقضات في تفسير نصوص الشرع، فبرز الغزالي كواحد من المدافعين عن السلطة الدينية بتوجيه نقد لاذع للفلاسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة”، الذي أيدتهم التيارات الدينية المتشددة في اضطهاد الفلاسفة ومنع انتشار أفكارهم (5).
4 – تأثير الغزالي على الصراع
كان أبو حامد الغزالي من أبرز العلماء والفلاسفة المسلمين الذين واجهوا جدلية داخلية بين الفكر الفلسفي والدين الإسلامي. رغم أنه رجل دين وفقيه، إلا أن موقفه من الفلسفة كان صارمًا، كما ظهر جلياً في كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”. في هذا الكتاب، هاجم الغزالي الفلاسفة، معتبراً أن بعض أفكارهم تتعارض مع العقيدة الدينية، مما ساهم في زيادة حدة الصراعات بين التيارات الدينية والفلسفية(6).تعرض الغزالي لذات الهجوم من خصومه وعلماء آخرين بدوافع متعددة، لكنه تمكن من إثبات معاركه الفكرية عبر رسالة للدفاع عن نفسه عند السلطان السلجوقي، رغم اتهامات بعض رجال الدين له. مثّل هذا الصراع أحد المحطات الأساسية التي أدت إلى تراجع الفلسفة في المجتمعات الإسلامية لفترة طويلة، وتأجيج التكفير ضد المفكرين والفلاسفة.
5 – استمرار القتل بالزندقة
تعرض عدد من العلماء والفلاسفة والصوفية للاتهامات بالكفر والزندقة، وأحياناً إلى القتل بسبب آراءهم الفلسفية والعلمية. ومن بين هؤلاء:
1 – جابر بن حيان، مؤسس الكيمياء العملية، فقد اتهم بالكفر والزندقة، رغم إسهاماته العلمية الجمة.
2 – الكندي، مؤسس الفلسفة العربية الإسلامية تعرض لنقد لاذع واتهم بأنه ضال في دينه بسبب آرائه الفلسفية والعلمية (9).
3- الرازي، أحد أشهر الأطباء والفلاسفة، والذي تعرض لاتهامات بالملحدة، وحكم عليه بالقتل عملياً من قبل رجال الدين المتشددين (10).
4 – ابن سيناء، رغم عظمة مؤلفاته في الطب والفلسفة، واجه تنكيلًا وترهيبًا من بعض رجال الدين الذين رأوا عقيدته مهددة (11).
5- ابن رشد، وهو من أنقذ أفكار أرسطو في العالم الإسلامي، تعرض للنفي والعزل بسبب اعتنائه بالفلسفة، وإصراره على التطبيقات العقلانية (12).
6 – العوامل المساهمةفي الاضطهاد
لم تكن أسباب اضطهاد الفلاسفة في كثير من الأحيان مجرد قضايا دينية، بل ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالمصالح السياسية. فقد لعب الحكام دورًا محوريًا في توظيف رجال الدين ضد الفلاسفة، لتثبيت أقدامهم السياسية والسلطوية. وفي سياق هذه السياسة، تمت محاكمات عديدة للفلاسفةوالمفكرين والصوفية والمتميزين من العلماء ،توجت بالقضاء عليهم أو نفيهم. كان ذلك واضحًا في محنة ابن رشد (13).كما أن بعض رجال الدين استغلوا تصورات الشعب الدينية لتوجيه حملات ضد المفكرين، متهمين إياهم بالكفر والزندقة، وبالتالي توجيه قوى الغضب الشعبي نحوهم (14). هذا السياق ساهم في توتر العلاقة بين الفلسفة والدين، ودفع بالكثير من الفلاسفة إلى إخفاء اعمالهم الفكرية نظرا لشدة البطش،وسطوة رجال التفتيش.فعجلة الاضطهاد كان تدور بسرعة،وتبحث عن رؤوس لتطيح بها.
وهذا الصراع بين الدين والفلسفة ليس واقع الجغرافية الإسلامية فحسب،بل هو كذلك واقع الجغرافية في أوروبا والعصور الوسطى. فأوروبا في هذه العصور كانت أ كثر قسوة على الفلسفة، وعلى الفكر عامة،وأكثر تشددا،فقد استخدمت الكنيسة الكاثوليكية محاكم التفتيش بشكل موسع لاستهداف الفلاسفة والعلماء الذين خالفوا تعاليمها، ومن أشهر الذين أعدموا بهذه الطريقة: جوردانو برونو، الذي حرق بسبب معتقداته التنويرية(15). فالتعصب الديني والتمسك الصارم بالنصوص كان على أشده،كما كان سببًا في قتل وتعذيب العديد من المفكرين الذين تم وصفهم بالزنادقة والمهرطقين، وهو نمط عادى عبر العصور، وأثر بشكل عميق في ما عُرف بـ”موت الفلسفة” أو تقهقر الفكر العقلاني لفئات طويلة من الزمن.
7- قصص مأساوية
شهد التاريخ الإسلامي والأوروبي في فترات طويلة منهما مجموعة من الحوادث المؤلمة التي وقعت تحت سقف اتهامات رجال الدين للمفكرين والصوفية والفلاسفة بالزندقة والكفر والهرطقة ،مثل ابن المقفع الذي تعرض لقتل وحشي بعد اتهامه بالزندقة من قبل جماعة متشددة، حيث تمّ صلبه وتقطيع لحمه وتعذيبه حتى الموت، كما وثق ذلك ابن كثير في “البداية والنهاية”(17).والفارابي الذي – رغم مكانته العلمية الكبيرة – تعرض لمحاولات تكفير واتهامات بالإلحاد، وكان له موقف معادٕ من بعض رجال الدين لأنه فضّل الفلسفة والعقلانية على النصوص الدينية الصارمة(18).والرازي الذي اتهم بالإلحاد من قبل رجال الدين أيضاً، وواجه اضطهادًا قضى عليه، نتيجة حكم وفتاوى دينية اتهمته بالتجديف على الدين(19).وابن سينا المشهود بإسهاماته العلمية لم ينجُ هو أيضا من حملة التشويه والتنديد التي قادها رجال دين اعتبروا فلسفته خرقًا لحدود الدين(20).ونصير الدين الطوسي الذي يعتبر واحدا من أشهر الفلاسفة وعلماء الدين في التاريخ الإسلامي تعرض للاتهامات وتأليب رجال الدين ضده، ما أثر على سيرته رغم مكانته(21).والطبري حوصر لأسباب فقهية بسبب نقده لبعض التفسيرات الدينية، وفرض عليه الحصار والوصم بالكفر، مما أدى إلى موته كمداً وقهراً(22).
8- تحليل لعوامل هذا الاضطهاد
ثمة أسباب مضاعفة لاضطهاد الفلاسفة عبر عوامل متعددة؛ منها:
1- الخوف من فقدان السلطة، فرجال الدين والحكام كانوا يخشون تأثير الفلسفة على الجماهير وخاصة الشباب، حيث تهدد الأفكار العقلانية الهيمنة الدينية(23)،
2 –التعصب والجمود الفكري، فرجوع العديد من الجهات إلى نصوص دينية حرفية أدى الى رفض أي تفسير اجتهادي أو تغيير في العقيدة(24)
3- الأوضاع السياسية المضطربة، ففي فترات اختلاط الدين بالسياسة، استخدمت السلطة الدينية القضاء على المفكرين لتثبيت سلطتها(25).
9- أثر اضطهاد الفلاسفة
أدى ذلك الاضطهاد إلى تراجع الفلسفة وتأخر التطور العلمي في مناطق واسعة من العالم الإسلامي والغرب لفترات طويلة،حيث انحسر فضاء التفكير الحر ،وانكفأ الكثير من العلماء على الذات، خوفًا من النظرات الاتهامية والتهم بالكفر، ما أثر سلبًا في الحضارة الإنسانيّة(26).
خاتمة عامة
تُعد قصة اضطهاد الفلاسفة من قبل رجال الدين عبر التاريخ من أبرز تجليات الصراع بين العقل والسلطة الدينية. فخوف السلطة الدينية من حرية الفكر أدى إلى مآس إنسانية وفكرية غيّبت قدرات كثيرة للمجتمع.وإن استحضار هذه الدروس اليوم ضروري لتعزيز قيم التسامح والحرية الفكرية التي تسمح بازدهار الحضارات وتحرر الإنسان فكريًا وروحيًا.
_____________
الهوامش
1) جون هيرست، “أوروبا تاريخ موجز”، ترجمة محمد خضر، الطبعة 1، المركز الثقافي العربي، 2000م، ص 123.
(2) ويكيبيديا، “هيباتيا”، تم الاطلاع في 2025م.
(3) ابن كثير، “البداية والنهاية”، الطبعة 10، دار الفكر، دمشق، 1985م، ص 96.
(4) أبو نصر الفارابي، “آراء أهل المدينة الفاضلة”، تحقيق يوسف علي، دار الهلال، القاهرة، 1990م، ص 230.
(5) الغزالي، “تهافت الفلاسفة”، ترجمة محمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993م، ص 150.
6) أبو حامد الغزالي، “تهافت الفلاسفة”، ط3, دار الكتب العلمية، بيروت، 1993م، ص 150.
(7) أبو حامد الغزالي، “إحياء علوم الدين”، الطبعة 4، دار الفيحاء، بيروت، 2002م، ص 220.
(عبد الرحمن بدوي، “تاريخ الفلسفة الإسلامية”، دار الثقافة، القاهرة، 1963م، ص 45.
(9) الكندي، “رسائل”، تحقيق محمد أبو زهرة، دار الثقافة، القاهرة، 1989م، ص 130.
(10) الرازي، “المنهج”، طبعة بيروت، 1985م، ص 115.
(11) ابن سينا، “الشفاء”، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 2001م، ص 250.
(12) ابن رشد، “تهافت التهافت”، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م، ص 300.
(13) طلعت رضوان، “نماذج من قتل الفلاسفة في التاريخ العربي”، الحوار المتمدن، 2016م.
(14) عبد الله العثمان، “السياسة والدين في العالم الإسلامي”، دار الفكر، الرياض، 2007م، ص 175.
(15) جوردانو برونو، “رسائل”، ترجمة مصطفى الغلاييني، جامعة القاهرة، 1998م، ص 62م
(16) جان بيير، “أوروبا في العصور الوسطى”، ترجمة فؤاد الهندي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2010م، ص 110.
(17) ابن كثير، “البداية والنهاية”، الطبعة 10، دار الفكر، دمشق، 1985م، ص 96.
(18) الغزالي، “المنقذ من الضلال”، الطبعة 2، عالم الكتب، بيروت، 1992م، ص 98.
(19) الرازي، “منهج الرازي”، طبعة بيروت، 1985م، ص 115.
(20) ابن سينا، “الشفاء”، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 2001م، ص 250.
(21) نصير الدين الطوسي، “رسائل”، تحقيق عبد الله نور الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1989م، ص 180.
(22) الطبري، “تاريخ الرسل والملوك”، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 1987م، ص 200.
(23) عبد الرحمن الكواكبي، “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، دار الفكر، دمشق، 1987م، ص 345.
(24) عبد الله العثمان، “السياسة والدين في العالم الإسلامي”، دار الفكر، الرياض، 2007م، ص 175.
(25) طلعت رضوان، “نماذج من قتل الفلاسفة في التاريخ العربي”، الحوار المتمدن، 2016م
(26) سلامة موسى، “حرية الفكر وأبطالها في التاريخ”، دار الشروق، القاهرة، 1989م، ص 160..
المصادر والمراجع
1 – ابن كثير، “البداية والنهاية”، الطبعة 10، دار الفكر، دمشق، 1985م.
2 – أبو حامد الغزالي، “المنقذ من الضلال”، الطبعة 2، عالم الكتب، بيروت، 1992م.
3 – أبو حامد الغزالي، “تهافت الفلاسفة”، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993 م .
4- الرازي، “منهج الرازي”، طبعة بيروت، 1985م .
ابن سينا، “الشفاء”، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 2001م .
5 – نصير الدين الطوسي، “رسائل”، تحقيق عبد الله نور الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1989م .
6 – الطبري، “تاريخ الرسل والملوك”، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 1987م .
7 – عبد الرحمن الكواكبي، “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، دار الفكر، دمشق، 1987م.
8 – عبد الله العثمان، “السياسة والدين في العالم الإسلامي”، دار الفكر، الرياض، 2007م.
9 – طلعت رضوان، “نماذج من قتل الفلاسفة في التاريخ العربي”، الحوار المتمدن، 2016 مر.
10 – سلامة موسى، “حرية الفكر وأبطالها في التاريخ”، دار الشروق، القاهرة، 1989م.