أوراق من الذاكرة الموشومة: مع المناضل أحمد بنجلون (1942- 2015)

أوراق من الذاكرة الموشومة: مع المناضل أحمد بنجلون (1942- 2015)

عبد  الرحيم التوراني

        أتذكر،  كنت جالساً بجوار المناضل أحمد بنجلون في سيارته ذات اللون الأزرق الباهت. كانت السيارة تشق طريقها في أحد شوارع الدار البيضاء، بحي النخيل، غير بعيد عن المقر الرئيسي لنقابة نوبير الأموي، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.. شارع كان لا يزال يحتفظ بجزء منه مبلطاً بأحجار تعود لـفترة الحماية الفرنسية. تلك الأحجار الخشنة، التي صمدت في وجه الزمن، كانت تحت عجلات السيارة، وكأنها ترصف طريقاً لا يزال يحمل ثقل التاريخ.

كان أحمد يقود السيارة القديمة بهدوء، لكن نظراته كانت ثقيلة… فجأة، التفت إليّ بنظرة تحمل مزيجاً من الحزن والعمق، وكأنه يرى أكثر مما يراه أي منا في هذا الشارع العادي.

لا أعرف لماذا يا عبد الرحيم…؟…

بدأ أحمد بنجلون حديثه بصوت خفيض…

– … لكن في كل مرة تمر سيارتي فوق هذا الحجر، هذا الحجر الذي رصفه المستعمر ورحل، أشعر بشيء ما يشدني

تنهد بعمق، ثم أكمل بنبرة تكاد تكون اعترافاً:

– عندما أمر من هنا أتذكر شقيقي الشهيد عمر بنجلون

لقد كان عمر بنجلون رمزاً آخر، اغتيل لاحقاً في صراع دموي مع النظام، لكنه ظل دائماً جزءاً من الذاكرة الحية.

بالنسبة لأحمد، كل حجر في هذا الشارع كان شاهداً على ثمن النضال.

ثم انتقل بصره إلى كتلة الفراغ أمامه، إلى الغياب الذي لا يمكن ملؤه:

– … وأتذكر غياب المهدي بن بركة

كان المهدي بن بركة، الذي لا يزال بلا قبر، يمثّل الجرح الأعمق. بالنسبة لأحمد، كان غياب المهدي أكبر من مجرد فقدان شخص؛ كان غياباً للمشروع، غياباً للبوصلة الثورية.

تلك اللحظة كانت هي تجسيد لحقيقة اليسار المغربي: قادته مدفونون، مثل عمر في مقبرة الشهداء، أو غائبون بلا قبر مثل المهدي. لكنهم جميعاً كانوا يسيرون فوق أحجار صلبة لم يضعها النظام الذي قاتلوه، بل النظام الذي سبقهم، وكأن النضال مستمر على أرض لم يمتلكوا زمامها بالكامل بعد.

استمرت السيارة القديمة الزرقاء في السير، والأحجار الخشنة تهمس بأسماء الشهداء تحت عجلاتها، تاركة الذاكرة الثقيلة تخيم على ما تبقى من الشارع.

***

كانت لقاءاتي مع المناضل أحمد بنجلون في الدار البيضاء تشعل جذوة لم يستطع الزمن أن يخمدها. حين كان يأتي إلى المدينة لحضور جلسات تعقد في محكمة الاستئناف بشارع الجيش الملكي، محاميًا في أحد الملفات الجنائية، كان يستدعيني دائما لنلتقي ولتناول الغذاء معه في مطعم قريب من مبنى المحكمة.

كنت أحب مجالسته؛ كان عالماً من التاريخ والنضال، يتحدث عن الثورة بذات اللهجة التي يتحدث بها عن القانون. لكن ما كان يثيره ويضحكه حقاً هو غضبي البيضاوي الصريح.

كان أحمد بنجلون تضحكه لهجتي البيضاوية القحة، يجد فيها نقاء وغضباً خاماً يفتقده في دهاليز الرباط السياسية. كان يطلب مني إعادة ترديد بعض كلمات الغضب التي كنت أطلقها ضد الانتهازيين الذين سيطروا على حزب الاتحاد الاشتراكي بمساعدة مكشوفة من النظام. 

قل لي مجدداً تلك الكلمة… تلك التي وصفت بها من يتبادلون الأدوار مع الداخلية!

 كان يقولها وهو يبتسم ابتسامة حكيمة، يغمز بعينيه وكأنه يتلقى جرعة من الطاقة الثورية المفقودة.

كنت أنا أتحدث بلغة أولاد درب غلف، لغة الغضب المباشر، أتفجر في وصف أولئك الذين تركوا عمر بنجلون شهيداً والمهدي بن بركة شبحاً بلا قبر، ليصعدوا هم على أنقاض الحزب بدعم من السلطة.

كان ضحكه وطلبه لتكرار هذه الكلمات ليس مجرد تسلية؛ بل كان اختباراً للصدق. كان أحمد بنجلون يستمد من غضبي البيضاوي الشديد دليلاً على أن جذوة الرفض لم تمت في قلوب الشباب، وأن الوعي بالتلاعب السياسي لم يغبه “التشاش” الذي أصاب المشهد.

كانت تلك الجلسات، بجوار محكمة الاستئناف، هي محكمة الذاكرة، حيث كان أحمد بنجلون يضحك على ما أبكاه التاريخ، ويؤكد أن صوت الغضب هو آخر أسلحة الأوفياء. 

***

لن أنسى تلك الليلة في الرباط، عندما جلست مع المناضل أحمد بنجلون في مكتبه الهادئ بزنقة الإسكندرية. كان الوقت مساءً متأخراً، وهدوء الشارع لا يقطعه سوى صوت تقليب الصفحات. جئت لأكلمه عن مشروع كنت بصدده: إنجاز عدد خاص من مجلة “السؤال” بمناسبة الذكرى الثلاثين لاختطاف المناضل النقابي والاتحادي الكبير حسين المنوزي.

حكيت له عن بعض المواد التي كنت قد جمعتها، وكان جزء منها بمحفظتي في تلك اللحظة. كانت الأضواء خافتة، وكنت أستعرض أمامه عناوين المواد التي توثق لنضالات جيل.

ثم ذكرت له وثيقة كانت قد أسرتني، وثيقة مقتطعة من نشرة أو مجلة قديمة لا أذكر اسمها، لكن عنوانها ظل عالقاً بالذاكرة: “لمن تقرع الأجراس؟“…

طلب مني أحمد بنجلون أن أقرأها عليه.

بدأتُ أقرأ بصوت خفيض، كانت الوثيقة تتحدث عن التعذيب في معتقل “دار المقري” بضواحي الرباط، تتكلم عن قساوة التعذيب، عن فقدان الرفاق، عن تراجع الحلم. . وعن ثمن النضال…

وبمجرد أن تعمقت في الكلمات، حدث ما لم أتوقعه.

بدأ أحمد بنجلون يبكي.

لم يكن بكاءً عابراً أو حزناً خفياً. كانت دموعاً حقيقية، تنزل بغزارة على ملامحه الصلبة التي رأيتها تضحك غاضبة في الدار البيضاء.

رفع يده، لا ليوقفني، بل ليطلب مني بكلمة متهدجة:

 – واصل… واصل القراءة… لا تتوقف يا عبد الرحيم

 واصلتُ القراءة والدموع تنزل على وجهه، وكأن كل كلمة في تلك الوثيقة لم تكن مجرد تاريخ، بل كانت طعنة في قلب جيل كامل. لم يكن يبكي المنوزي وحده، بل كان يبكي المهدي بن بركة الغائب، وعمر بنجلون الشهيد، وعمر دهكون ورفاقه الذين اقتيدوا إلى منصة الإعدام فجر عيد الأضحى..

كان يبكي كل الأحلام التي ماتت بين الاعتقالات والاغتيالات والتسويات.

في تلك اللحظة، أدركت أن “لمن تقرع الأجراس” لم تكن تقرع للمنوزي، بل كانت تقرع لذلك الجيل الذي حمل عبء الأمانة الثورية ومضى، وبقيت أرواحه محتجزة بين ضحكات السكارى ودموع الأوفياء في ليالي الرباط المتأخرة.

***

انتهيتُ من القراءة، وكلمات وثيقة “لمن تقرع الأجراس” لا تزال ترن في أذني، بينما دموع أحمد بنجلون تبلل وجهه الأسمر

 في تلك اللحظة، لم أكن أتوقع أن تكون المفاجأة الكبرى قادمة من الرجل الجالس أمامي.

بسرعة لا تتناسب مع هيبته، خطف أحمد بنجلون أوراق النشرة من يدي. نظرتُ إليه في دهشة، بينما كان يمسح عينيه بكف يده.

هل تعلم بأني أنا هو كاتب هذه الكلمات والسطور؟

 سألني بصوت لم يعد متهدجًا، بل مفعمًا بقوة الذاكرة

 شرح لي أحمد بنجلون أن هذه الوثيقة لم تُكتب على طاولة مكتب، بل كُتبت في زنزانة السجن. لقد كانت صرخة احتجاج، كتبها المناضلون في أحلك ظروف القمع، ونجحوا في تسريبها لتُنشر على الرأي العام الوطني والعالمي كدليل على أن صوت المعارضة لن يُخمد. لقد كانت وثيقة “لمن تقرع الأجراس” قطعة من تاريخهم السري وليست مجرد مقال.

 بمجرد أن استعاد رباطة جأشه، طلب مني أحمد بنجلون أمراً لم يكن مفاجئاً:

لا تنشرها حتى أعيد ترتيبها وأضعها في سياقها المناسب.

لقد كان يريد أن يضمن أن يتم تقديم هذه الشهادة التاريخية بقوة تأثير أكبر. لكن، وكما هو الحال مع الكثير من وعود ذلك الجيل الذي سحقه الزمن، لم يفعل أحمد بنجلون ذلك. لقد رحل قبل أن يعيد ترتيب الكلمات التي خرجت من زنزانته. ولهذا، لم تظهر الوثيقة في العدد الخاص من مجلة “السؤال/الملف” الذي نُشر عام 2003.

 في خضم هذا المشهد العاطفي، كشفتُ لأحمد بنجلون عن اليد التي كانت وراء إرسال الوثيقة لي في المقام الأول. لم يكن مرسلها شخصية عشوائية، بل كان شقيق حسين المنوزي، أي رشيد المنوزي المقيم في فرنسا منذ عقود، منذ مغادرته السجن بعد مروره أمام واحدة من أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ المغرب المعاصر، هي “محاكمة مراكش الكبرى”، التي جرت أطوارها في عام 1971. وكان أغلب المتهمين الماثلين فيها من المنتمين لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

 لقد كان رشيد المنوزي هو الوريث الصامت لذكرى شقيقه، وهو من اختار أن يرسل لي هذه الوثيقة كجزء من أمانة التوثيق. إنها إشارة إلى أن الخيوط الحقيقية للنضال لا تزال تدار من الخارج، بعيداً عن صراعات الحزب الداخلية.

لقد أصبحت الآن حقيقة الوثيقة واضحة: هي قطعة من روح أحمد بنجلون التي نُزعت منه في السجن، لتصبح دليلاً آخر على أن تاريخ اليسار لم يمت، بل نُقل من السجون إلى المنفى 

***

لم يكن المناضل أحمد بنجلون مجرد رجل قانون أو سياسة؛ لقد كان قارئًا نهمًا ومثقفًا أصيلًا. كانت ثقافته في الأساس فرنكفونية، يستوعب الأدب الفرنسي كأهله، ويحفظ أهم الأعمال الروائية العالمية، ويغوص في الفكر الفلسفي الغربي. لكنه أدرك أن النضال يحتاج إلى لسان الشعب. لهذا، اجتهد حتى أجاد الكتابة باللغة العربية. لم يكن الأمر سهلاً، بل كان تحديًا واعيًا لتسخير الثقافة التي اكتسبها لخدمة القضية الوطنية، مخاطبًا بها جماهير الشعب المغربي. 

هذا المسار شاركه فيه شقيقه الشهيد عمر بنجلون. كان عمر يكتب افتتاحيات جريدة “المحرر”، التي كانت صوت الحركة اليسارية، ويقدمها للصحفيين في الجريدة لمراجعة لغتها العربية وتنقيحها، متواضعًا أمام تحدي الكتابة بالفصحى أو لغة الضاد.

لكن جهده لم يذهب سدى. ففي يوم من الأيام، صارحه أحد الزملاء الصحفيين بصدق:

– يا عمر، أنت تكتب بعربية واضحة وعميقة وتذهب إلى الهدف المراد، من دون تنميق وتقعير، بل أحسن من بعض المعربين الأصلاء!…

 كان هذا الاعتراف دليلاً على أن الثقافة الحقيقية ليست مجرد لغة، بل هي عمق الفكرة وصدق التعبير، وأن أبناء جيلهم كانوا قادرين على ترويض اللغة لخدمة الفكرة الثورية.

***

لقد كانت هذه الروح الثورية تتأصل في أحمد بنجلون منذ صباه.

 ذكر لي صديقي محمد برادة، الناشر والإعلامي وابن مدينة وجدة، وزميل أحمد بنجلون في الدراسة، قصة لا تُنسى عن تلك الفترة.

في مادة التاريخ، كان أحمد تلميذًا نجيبًا ومشاغبًا في آن واحد. عندما كان أستاذنا الفرنسي يشرح لنا تاريخ الثورة الفرنسية بكل أمجادها ورموزها، لم يستطع أحمد الصمت، كان المغرب حينها تحت وطأة الحماية الاستعمارية، قطع أحمد شرح الأستاذ بسؤال مباشر ومزلزل:

– ومتى تصل ثورتنا المغربية يا أستاذ؟

لقد كان هذا السؤال، الموجه إلى “ضابط فرنسي” في بذلة أستاذ، يدرسهم تاريخ الثورة الفرنسية، بمثابة إعلان مبكر عن رفض الخضوع، ورفض للإيمان بأن الثورات تقتصر على الكتب الأوروبية. كانت تلك اللحظة هي شرارة النضال التي اشتعلت في وجدة، ولم تنطفئ أبداً حتى بعد سنوات من السجن والمنفى والاغتيالات.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!