الاحتفالية: البيان والتبيين والبلاغ المبين

د. عبدالكريم برشيد
فاتحة الكلام
ما هذه الحياة الدنيا التي نحياها إلا كتابة مسرحية، جادة مرة، وساخرة في أكثر المرات، وعاقلة في المسرح العاقل، ومجنونة و حمقاء في مسرح اللامعقول، هكذا يقول الاحتفالي لنفسه أولا، وهكذا يقول لكل الناس بعد ذلك.
هي الحياة كتابة مسرحية إذن، بها أحداث ووقائع، وبها شخصيات تلتقي لتفترق، وهي شخصيات لا تحضر إلا لتغيب، ولا تبدا إلا لتنتهي، وهي لا تتكلم إلا لتعبر عن حال من الأحوال، أو عن موقف من المواقف، وهل هذه الأعمار، أعمارنا التي نحيا بها وفيها إلا كتابة مسرحية أيضا؟ وقد نظن أننا نحن من يكتب هذه الكتابة، والصحيح أن نقول بأن هذه الكتابة تنكتب بنا، أما الكاتب الحقيقي فهو الوجود وهو الحياة وهو التاريخ وهو الزمان أو هو روح الزمان وهو المكان وروح اللحظة، أو هو روح الساعة التي تدور .. تدور هي دورتها الماكرة، من أجل أن نشيخ نحن، استعدادا لأن نغادر خشبة هذا المسرح، أي إلى الما وراء.. ما وراء ما نشاهده وما نسمعه وما نحسه وما معرفه وما ندركه.
وقد يكون لهذه الكتابة معنى المكتوب، ويكون لها عند عامة الناس معنى القدر، أو تكون هي يد هذا القدر الكاتب، والتي تكتب بنا ما تشاء، باللغة التي تشاء، وبالحروف التي تشاء، وفي الوقت الذي تشاء، وقد يكون لهذه الكتابة معنى السحر أيضا، وتكون بذلك كتابة ضد القوى الغيبية التي نخافها ونهرب منها.
وفي معنى الكتابة، يقول الاحتفالي في كتاب (المؤذنون في مالطة) ما يلي:
(إن الكتابة إذن ـ رسما. ومعنى ـ هي السحر الحلال، ولا يمكن ان تستقيم ـ بشكل حقيقي ـ إلا إذا استوفت جميع شروطها، وكانت رسالة وخطابا، وكان لهذا الخطاب كاتب يكتبه، وكان له قارئ يقرا حروفه وعباراته، وله أيضا، موضوع ومعاني يحملها أو تحمله،
ففي كل كتابة ـ كيفما كانت وأينما كانت ـ يسكن الكاتب ويسكن القارئ، وبينهما يمتد الصوت والصدى، وتتأسس الإشارات والعلامات، ويكون الحوار بينهما حوارا فكريا ونفسيا وروحيا، وتكون المعرفة والمكاشفة هما أساس الحروف وأساس الكلمات جوهر المعاني والعبارات).
بيانات تحتفي بالصور وبشرف الحضور
وينبغي ان نعرف، أن ما تقدمنا به بالأمس، وما نتقدم به اليوم وغدا، للحقيقة والتاريخ، من كتابات إبداعية وفكرية، هو أساسا بيانات احتفالية وعيدية، وهو إضافة فكرية وجمالية إلى كل البيانات التي صدرت من قبل، في كل العالم وفي كل الحقب التاريخية المختلفة، والتي ظلت تصدر، مغربيا و عربيا، على امتداد عقود طويلة من عمر قرنين ومن عمر ألفيتين، وهي بيانات كتبت نفسها بنفسها في لحظة صحو فكري، وكتبتها لحظتها التاريخية الجديدة، وساقتها سياقات ذاتية وموضوعية أخرى كثيرة جدا، وهي اليوم ـ كباقي كل البيانات الاحتفالية السابقة واللاحقة ـ تحتفي بالإنسان والإنسانية، وتحتفي بالحياة والحيوية، وتحتفي بالمدينة والمدنية، وتحتفي بعبقرية الإنسان المبدع والخلاق، وتحتفي بالتأسيس وبإعادة التأسيس، وهي في عمرها الجديد هذا، مازلت تؤكد على أن هذا الإنسان أساسا رؤية وموقف، أو أنه حزمة مواقف، وعلى أن هذه الاحتفالية هي موقفها المبدئي الثابت، وليس هو موقعها المتغير والمتجدد على خرائط الواقع، أو على رقعته المجتمعية، والتي قد تشبه رقعة الشطرنج، قليلا أو كثيرا، وهي بهذا بيانات للتبيين المبين، وهي في جوهرها أفكار واختيارات، وهي إشارات وتصورات، وهي اقتراحات وإيحاءات، وهي رموز وإيماءات، ودورها في الإبداع الاحتفالي وفي الفكر الاحتفالي، هو أن تدل على الفرح، وأن تحرض على الفرح، وأن تحتفي بالفرح، وبصناع الفرح، وهي في هذه البيانات تؤكد دائما على الحق في الفرح، وتحتفي بالحرية وبرموزها، وتحتفي بالأحرار في كل زمان ومكان، وتحتفي بالاستقلالية في التفكير والتدبير، وتحتفي بالاجتهاد الأدبي والفني الصادق، وبالاجتهاد والمجتهدين أيضا، وتحتفي بالإبداع والمبدعين، وبالفكر وبالمفكرين الصادقين، وهي تحتفي بالمعرفة وبالحكمة وبعشاق الحكمة أيضا، وتحتفي بالأشياء وبالأفعال وبالحالات وبكل المواقف الكائنة والممكنة، والتي تكون حقيقية وصادقة وشفافة دائما، والتي لا يخالف ظاهرها باطنها، وهي تؤكد دائما على أن الوجود هو وحده الموجود في هذا الوجود، وعلى أن العدم ليس له وجود، إلا في نفوس وعقول وأرواح العدميين وفي نفوس الظلاميين وفي حسابات العبثيين والانهزاميين والاتباعيين والهتافين المحترفين، والعاملين أيضا، لحساب الفراغ و الخواء،. وما اكثرهم في واقع، هو اليوم بعيد جدا عن الواقعية، وبعيد جدا عن الحق والحقيقة
وتؤكد هذه البيانات اليوم ـ مثلما أكدت بالأمس ـ على فعل الحضور، وعلى شرف الحضور، إيمانا منها بأن الغياب خيانة وجودية، وعلى أن تغييب من يفترض فيهم الحضور، الآن هنا، معنا، فإنه لا يمكن أن يكون إلا جريمة بشعة، جريمة ضد الإنسان وضد الإنسانية وضد الواقع والتاريخ، وضد الأخلاق المدنية، وضد الحق في الحضور وفي التعدد والاختلاف وفي التعبير الحر، وإن مثل هذا الفعل العدواني ـ في حال حدوثه ــ لا يمكن أن يكون إلا قتلا أو نوعا من أنواع القتل والاغتيال.
وإن هذه البيانات الاحتفالية، وقبل أن تقول وتكتب شيئا جديدا، وقبل أن تكلم الناس بلغة حية وجديدة، وقبل أن تبث في جسد هذا المسرح المغربي والعربي دماء جديدة، قبل كل هذا، فقد كانت فعلا جديدا، وكانت رجة وهزة، وكانت ثورة على كثير من البديهيات والمسلمات، وبالتأكيد فإن هذه الأفكار لم تأت من المريخ ولا من زحل، وهي في حقيقتها نبت هذه الأرض وعطر هذه الأرض، وهي عطاء هذه الأزمان الجديدة، وهي أيضا، فيض أرواح إنسانية صادقة، وهي فيض نفوس حية، وهي فيض عقول صناعتها التفكير والتدبير.
بيانات عنوانها الجرأة الفكرية والجمالية
ويبقى السؤال، ما الذي أتى بهذه البيانات الاحتفالية، في هذا الفضاء الجغرافي الذي يسمى المغرب، وفي ذلك الزمان السبعيني الذي كان، من ذلك القرن الماضي تحديدا؟
وما الذي جعلها بيانات ناطقة ومتكلمة، وأن تكون مهمتها ودورها، في الواقع والتاريخ معا، هو البيان والتبيين وهو البلاغ المبين؟
وما الذي أعطاها الحق من أجل أن تكون كتابات للتوضيح والتصريح والكلام البليغ والفصيح، وأن تكون ضد الغموض وضد الالتباس وضد الشك وضد الكسل العقلي وضد اقتباس حياة الآخرين، بدون وجه حق، وضد اختلاس أفكارهم، واستنساخ تجاربكم التي لا تقبل أن تتكرر مرتين، وأن تعتبر هذا اللافعل فعلا، وأن تسميه التجريب؟
وهل يجوز لنا أن نقول اليوم، بأن هذه البيانات الاحتفالية التي دشنت مسيرتها ومسارها منذ نصف قرن، قد كانت في معناها الحقيقي حوارا فكريا، وكانت دعوة للحوار أيضا، وذلك في زمن اللاحرار وفي زمن الكسل العقلي، وأنها قد كانت، في إصرارها على الجديد والتجديد، فعلا ثوريا للكشف والمكاشفة؟
وهذه البيانات، في بدايتها الأولى، كانت تحمل توقيعات المسرحيين الاحتفاليين، وكان ذلك اقتناعا منهم بأن ما يقدمونه للحقيقة والتاريخ هو مجرد آراء وأفكار، وأن هذه البيانات هي تفكير بصوت مرتفع، وانها ليست منشورات سرية، لجهات سياسية تشتغل في الخفاء.
ويتساءل الكاتب الاحتفالي في كتاب (المؤذنون في مالطة) عن أسباب لعبة التخفي في الكتابة المغربية والعربية، والتي كانت تلعب على الحبلين، أي الحبل الثقافي والحيل السياسي، ويقول:
(ولماذا يعمد الكتاب إلى الأسماء المستعارة؟ وهل في هذا التخفي شيء من نكران الذات ومن التواضع؟ أو هو الخوف من القارئ أو من الرقيب (والذي لا وجود له في مغرب الاستقلال) أو من الكتابة نفسها، وبذلك تكون الأسماء الأخرى شكلا من أشكال الهروب والتقية؟).
وأعتقد ـ شخصيا ـ أن كتابة يسكنها الخوف ليست كتابة، وقد تكون شيئا آخر يشبه الكتابة، أو يقترب منها، ولكنها ـ أبدا ـ لا يمكن أن تكون هي الكتابة.
وشيء مؤكد أن الاختفاء خلف الأسماء الأخرى، هو نوع من أنواع الغش، وهو شكل من أشكال التدليس، والتزييف، وهو طريقة غير سليمة للتهريب.. تهريب (بضاعة) مشكوك في أمرها وفي سلامتها.
إن الكتابة رسالة، ولا معنى لهذه الرسالة إن لم تكن من طرف إلى آخر، وأن تكون ربطا بين معلومين، وليس بين مجهولين، أو بين معلوم ومجهول.
صوت التاريخ في البيانات الاحتفالية التاريخية
إن هذه الاحتفالية إذن، هي أكبر وأخطر من أن تكون صوتنا نحن الاحتفاليين، وهي بالتأكيد صوت اللحظة التاريخية الحية، وهي صوت حياة مسرح ومسرح الحياة، وهي صوت الإنسان المدني في مواجهة الوحش، وهي صوت المدينة والمدنية في مواجهة همجية الغاب، وهي صوت الحياة والحيوية في مواجهة الآلة والآلية، وهي صوت الجمال في مقابل صوت القبح، وهي صوت الكائن والممكن في مواجهة صوت المحال، وهي صوت الوجود في مقابل صوت العدم والعدمية، وهي صوت الجد والجدية في مقابل صوت العبث و العبثية، وهي صوت النظام في مقابل صوت الفوضى والفوضوية، وهي صوت الفرح الاحتفالي في مقابل صوت الحزن الماساوي، وهي صوت المستقبل الآتي في مقابل صوت الماضي الذي كان.
وإن ما قام به الاحتفاليون، على امتداد خمسين سنة، كان ثورة فكرية وجمالية وأخلاقية بكل تاكيد، وفي هذه الثورة تم الانتقال من العرض والاستعراض إلى فعل الاحتفال المسرحي، وتم الانتقال من الفرقة التي تشغل على مسرحية من المسرحيات إلى الجماعة التي تؤسس فكرا، وتؤسس مسرحا، كما تم الانتقال من الفنان الفرد إلى الفنان داخل الجماعة داخل المجتمع، والانتقال من كتابة المقال النقدي إلى البيان التنظيري، وفي أحد فصول كتاب (المؤذنون في مالطة) فصل بعنوان (مواسم السياسة وسياسة المواسم) ونفس الشيء يمكن أن نقوله اليوم عن مسرح يعيش عيشا مؤقتا، يبدأ مع بداية المهرجانات الموسمية، ويموت بعد نهايته.
وهذه الاحتفالية، في حقيقتها وجوهرها، ليست نافذة في المسرح المغربي والعربي، وليست مجرد شرفة يطل منها الاحتفاليون على العالم، وليست واجهة زجاجية في مركب تجاري.
ومن المؤكد أن البيانات الأولى في الاحتفالية لم تكن هي كل الاحتفالية، ولكنها كانت بيانات تأسيسية للاحتفالية؛ تلك الاحتفالية البسيطة التي كانت في درجة البناء والتأسيس، ومعها جاءت البيانات الأخرى، والتي حملت الإضافات الفكرية والجمالية الأخرى.
وفي الوقت الذي أكد فيه الاحتفاليون على أن التاسيس هو فعل لا نهاية له، وعلى أنه لا وجود في هذه الاحتفالية إلا لأوراش فكرية مفتوحة بشكل مستمر ومتواصل، وعلى أن ما يميز هذه الاحتفالية هو أنها بداية جديدة ومتجددة في التاريخ بشكل دائم ومتواصل، وفي مقابل هذا البحث، عن الممكن الآتي مع الزمن الاتي، فقد وجدنا من لا يبحث في هذه الاحتفالية إلا عن نهايتها وعن موتها وعن أعطابها، وأن يكون السؤال الأساس لديهم هو: متى تنتهي هذه الاحتفالية؟ ومتى ينتهي عصرها؟ وذلك في مقابل سؤال متى تبدأ هذه الاحتفالية بداية أخرى، تكون فيها اكثر وضوحا، وتكون أقل غموضا، وأن تكون أكثر إقناعا وأكثر إمتاعا، وتكون أكثر قربا من هذا الإنسان، في هذا الزمان وفي هذا المكان.
وفي أي بيان جديد، كنا نقول دائما، هو بداية جديدة نحو الوصول للمسرح الاحتفالي المتجدد، وهذا هو ما جعلنا نعطي لكل بيان رقما ترتيبيا.
وفي هذه البيانات أفكار صادقة، وصاعقة أحيانا.. وقد تشيخ أجساد الاحتفاليين من حولها، ولكنها هي لا تشيخ.