مجرد رأي في مغرب الغد.. انتخابات قادمة بدون أمل

عبد الرحمان الغندور
في انتظار انتخابات 2026، تخيم على الأفق السياسي في المغرب سحب كثيفة من التشاؤم واللامبالاة، حيث لم يعد الهم منصبا على من سيرتقي سدة الحكم أو من سيتحمل عبء الخسارة، فالخسارة هنا، من منظوري الشخصي، في معناها الأعمق وأبعادها الأكثر إيلاما هي خسارة الوطن نفسه، في حاضره ومستقبله . لقد تحولت تلك الأحلام الوطنية التي راودت المواطنين يوما إلى مجرد أثر بعد عين، سرقت في وضح النهار حين تم إجهاض حلم حركة 20 فبراير بدستور وُلد ميتًا، محمولًا على أمل لم يُكتب له أن يرى النور. واليوم، تتكرر المأساة بإجهاض جديد، تستهدَف فيه طموحات جيل Z عبر عمليات متكررة من التسفيه والتبخيس والتخوين، وكأن الأقدار تأبى إلا أن تكرر نفس المشهد.
هذا الإحباط لم يأت من فراغ، بل هو نتاج حصاد مرير لحقول أصابها العقم وفقر الدم، فالحقل السياسي بكل أطيافه، حكومة ومعارضة، لم يعد قادرًا على إنتاج الأمل، وغدا جثة هامدة تنخرها أمراض البنيات المتحللة وأوبئة التعفن. أما الحقل المؤسساتي بسلطاته الثلاث – التشريعية والتنفيذية والقضائية – فقد أصابه الشلل وأضناه فقر الدم، فأصبح عاجزًا عن القيام بوظيفته، محمولاً على نقالة من الوعود الزائفة.
ليس غريبًا في هذا المناخ الخانق أن ينتشر داء العزوف والاستهجان بين صفوف المواطنين والمواطنات، حتى أولئك الذين كانوا يومًا قلب الحركة السياسية النابض. لقد تحولت السياسة في أعينهم إلى مسرح للمهزلة، يمارس فيه الجميع طقوس السخرية والتهكم، أو ينغمس في سباق محموم وراء مصلحة آنية، تتطلب درجة من الخنوع والذل والسلوكيات الرديئة التي بلغت أدنى مراتب الانحطاط. هذا المشهد المأساوي لا يقتصر على الساسة وحدهم، بل يمتد ليشمل كل الأحزاب والمنظمات حيث أصبحت التصريحات والمواقف والسلوكيات مجرد أدوات في آلة الانحدار.
يدعم هذا المسار المنحدر إعلام مهترئ ومنخور، لا يرى في الوطن سوى سلعة رخيصة، يتبارى فيه إعلاميون ومحللون في بيع ذممهم وأقلامهم لمن يدفع أكثر، مغلفين ذلك بثقافة تسطيحية وتبريرية تهدف إلى تزييف الوعي وطمس الحقائق. وبهذا، لم يعد الفساد محصورًا في المال والسياسة، بل امتد ليُدَمِّر حقول الثقافة والمعرفة والفن والابداع والقيم، مما يغذي دوامة من الإهمال واللامبالاة، ويوفر التربة الخصبة لنمو نباتات سامة من التطرف والعنف، تنتشر كالنار في الهشيم، لا تفرق بين فرد ومؤسسة.
في هذا المشهد الكابوسي، ينخرط الجميع – مؤسسات دولة، وتنظيمات سياسية ونقابية وجمعوية – بانتهازية صارخة في تحقيق أولويات لا علاقة لها بمصلحة الوطن أو مواطنيه، وتكاد تشترك في تبني الأولويات التالية:
أولاً، الدفاع المستميت عن نظام الفساد القائم، وحماية اقتصاد الريع والارتشاء، وتمكين آليات الاغتناء غير المشروع وتهريب الأموال إلى خارج الحدود تحت حماية قانونية تمنع من الفضح والتبليغ.
ثانيًا، إنتاج وتعميم ثقافة الميوعة السياسية والرداءة السلوكية واللغوية، لتخريج أجيال لا تهتم سوى بالسطحي والتافه، بعيدًا عن جوهر القضايا المصيرية.
ثالثًا، التخريب المتعمد للمنظومة التعليمية العمومية، والعمل على إقصائها لصالح تعليم نخبوي فرنكو-أميريكي، يحصر فرصة التعليم الجيد في أبناء النخبة، مما يعمق الفجوة الطبقية ويقتل أي أمل في تكافؤ الفرص.
رابعًا، تحويل القضاء من سلطة مستقلة تحقق العدالة إلى أداة لضمان مصالح النخبة، إما بتكييف النصوص القانونية لتصبح دروعًا واقية لهم، أو بتعطيل النصوص العادلة التي لا تخدم أجنداتهم، أو بشراء الأحكام من قضاة انحازت ضمائرهم إلى المال والسلطة.
خامسًا، الصمت المطبق على انتهاكات حقوق الإنسان، فردية كانت أم جماعية، والتي أصبحت سمة بارزة للمشهد، رغم النصوص الدستورية التي تظل حبيسة الأدراج، نائمة في مهدها، لا تحرك ساكنًا.
هذه الأولويات ليست شتائم يطلقها الحاقدون أو العدميون، بل هي إطار استراتيجية واضحة، تترجمها الممارسة الميدانية اليومية، وتعكسها تلك الطاقة “الاستقوائية والاستئسادية” التي يمارسها الحاكمون، حيث لا تتعدى الخطابات الإصلاحية حدود الميكروفونات التي أُطلقت منها.
المغرب، في هذا المسار، يتجه بخطى ثابتة نحو منطقة الزوابع والبراكين، حيث لن تنجو من حممها طبقة أو فئة. فالقطار يسير بسرعة نحو الهاوية، وركابه، سواء كانوا على مستوى القيادة أو في عرباته المختلفة، يستعدون للهرب في أقرب محطة، قبل أن يحترق القطار بالكامل. لكنهم يغفلون أن النار والجحيم الآتيين لن يفرقا بين هارب ومقيم، فالدائرة ستشمل الجميع.
يشعر المرء أما هذا الوضع بالخجل، خجل عميق من انتمائه إلى أمة يشرع لها المفسدون، وينتخب فيها الجهلاء. خجل من هذا “البلد السعيد” الذي يغرق في الوهم. لكن هذا الخجل لا يعمى البصيرة عن رؤية الهوية المغربية الأصيلة، تلك التي تختزن في ذاكرتها رموزاً عظيمة من الشموخ والكرامة، شخصيات ومواقف لا تزال مشاعل فخر. هذه الهوية التي يتم تدميرها بشكل منهجي من قبل أناس لا قيمة لهم، جعلوا من بطونهم آلهة، وحولوا هويتهم إلى مجرد وعاء لاستهلاك الفضائل.
لا مناص من الألم، فهو استجابة طبيعية لواقع بئيس كهذا. والحزن رفيق لا يفارق النفوس اليقظة. لكن تحمل هذا الألم في صمت، والاستكانة له، هو جبن واستسلام، وهو بالضبط ما يريده التافهون ليواصلوا طغيانهم. لذلك، ليس أمام المرء سوى أن يحول هذا الألم إلى وقود للغضب، وهذا الأسى إلى تمرد، وهذا الإحساس بالعجز إلى ثورة داخلية أولاً. فالغضب، حين يكون شريفاً، قد يغير أشياء كثيرة. لقد كان الظلم والنهب والاحتقار في الماضي أموراً قاسية، لكننا واجهناها برؤوس مرفوعة. كانت المواجهة واضحة: جلاد وضحية. أما اليوم، فالجلاد الأكبر قد أوكل إلى الضحايا أنفسهم مهمة جلد ذواتهم، دفعهم بقوة نحو إدمان الرداءة، بل المطالبة بها واستجداؤها إذا قل عطاؤها، مع دفع ثمنها بكل رضا.
في هذا المشهد، لن أسمح لنفسي بأن أكون ضحية مرة أخرى. لن أكون ضحية للجلاد التافه فحسب، بل سأرفض أن أكون ضحية لصمتي، لخنوعي، لتقبلي أن أتجرع هذا الألم دون ردة فعل. فالصمت هو القيد الحقيقي. لذلك، أختار الغضب. أختار التمرد. سأواجه السفاهة أينما وجدت، وبصرف النظر عن حجم صاحبها أو منصبه. سأرفع صوتي بلعنة تخرج من أعماقي، ملعونة هي السلعة الرخيصة، وملعون من لا حياء له ولا خجل.
وفي هذا المقام، لم يعد الأمل اليوم مرتبطًا بتجنب الكارثة، فالأمر قد بلغ حده الأقصى، وأصبحت نقطة اللاعودة خلفنا. لم يبقَ سوى أن نبدأ في التفكير فيما بعد الكارثة، التي ستعلنها الانتخابات القادمة وهي تعيد انتاج نفس بنية الفساد والتفاهة وكأنها قدر محتوم ينتظره الجميع.