نهاية بلحن جنائزي.. في تشييع الاتحاد الاشتراكي…

نهاية بلحن جنائزي.. في تشييع الاتحاد الاشتراكي…

عبد الرحمان الغندور

           برغم تحذيرات إدارة الفيسبوك بإيقاف حسابي، بسبب تبليغات ذباب وبعوض ادريس لشكر على منشوراتي باعتبارها في نظرهم تحرشا واعتداء على شخص “الزعيم”… أواصل التعبير عن رأيي بدون تردد، مؤكدا أن تتويج ادريس لشكر “ملكا” على عرش الاتحاد في انتظار التوريث يعتبر جريمة في حق المغرب والمغاربة والتاريخ.

ففي ظل ضجيج يخنق أصوات الماضي، وتحت سقفٍ من التناقضات التي باتت تُشكّل نسيج الواقع السياسي المغربي الحاضر والمتآكل والمنخور، يُطوى مشهدٌ من مشاهد التاريخ الحزبي المغربي بطريقةٍ مأساوية، لا تخلو من ملامح الموت الفعلي. فالحزب الذي كان يوماً ما صرحاً شامخاً من صروح السياسة الوطنية، ومدرسةً للكفاح والنضال، يبدو اليوم وكأنه يسير في موكبٍ جنائزي طويل، تحمله مجموعةٌ من الأيادي التي نسيت، أو تناست، أن القيمة الحقيقية للوجود السياسي تكمن في روحه المتجددة، وليس في جسده المتحجر.

في قلب هذه المأساة، تبرز ظاهرة تمديد الولاية الرابعة للأمين العام، كعلامةٍ فارقة على طريق الانهيار، وكإعلانٍ صريح عن إفلاسٍ سياسي وفكري. إنها ليست مجرد نقطة في مسار طويل، بل هي القطرة التي أفاضت الكأس، والحدث الذي حوّل المسار الطبيعي للحياة الحزبية إلى مسخٍ يفتقر إلى أبسط مقومات الحيوية. فالتمديد هنا ليس تعبيراً عن حكمة جماعية، ولا انعكاساً لإرادة قاعدة عريضة، بل هو تجسيدٌ لاستحواذ نخبة ضيقة على قرار المصير، نخبة تتصرف وكأنها مالكّة للحزب ووريثة له، لا خادمة لمبادئه ووفية لتاريخه ومجددة لمشروعه الديموقراطي والتحرري.

هذه الظاهرة، في جوهرها، هي الصورة الأوضح للتسطيح الفكري الذي يعانيه المشهد السياسي المغربي عموما. فبدلاً من أن يكون الحزب ورشاً فكرياً دائم الحيوية، ينتج الأفكار ويطور البرامج، ويُغذي النقاش العمومي، نراه يتحول إلى مجرد آلة بيروقراطية تدار من خلال منطق المحسوبية والولاءات الضيقة. والعقل النقدي، الذي كان يمثل وقود الحركة الاتحادية في السابق، يُستبدل بخطابٍ تبريري أجوف، يبحث عن مبررات للبقاء بدلاً من إيجاد أسباب للتجدد. لقد تم استبدال الصراع الصحي حول الأفكار بصراعات خفية على النفوذ والمصالح، مما أفقد الحزب لياقته الفكرية وقدرته على جذب العقول الجديدة والطاقات الخلاقة.

وفي هذا السياق، يظهر الضعف السياسي جلياً، ليس ضعفاً أمام الخصوم، بل ضعفاً في مواجهة الذات. فالخوف من التغيير، والتمسك المرضي بالكرسي/الموقع، دليل على انعدام الثقة في القدرة على المنافسة في سوق الأفكار، وفي عدم قدرة هذه  “النخبة” على تقديم نفسها ككفاءات قادرة على الفوز بثقة المنخرطين في ظل منافسة شريفة. إن التمسك بالكرسي، تحت أي ذريعة، هو اعتراف ضمني بالعجز عن تجديد الخطاب والسياسات، وبالفشل في بناء جيل جديد يحمل الراية ويطور الأدوات.

الأمر الأكثر إيلاماً هو الابتعاد الصارخ عن المبادئ الديمقراطية التي طالما نادى بها الحزب، والتي من المفترض أن تكون جوهر وجوده. فالتجديد ليس شكلياً، بل هو ضرورة حياتية لاستمرار أي كيان سياسي. والتشبيب ليس حصّة تُمنح، بل هو حق للأجيال الصاعدة وضمانة لاستمرارية المشروع. والتداول على المسؤوليات ليس مجرد ممارسة إجرائية، بل هو روح الديمقراطية التي تمنع تحول القيادة إلى ملكية فردية أو عائلية. إن رفض هذه المبادئ تحت دعاوى واهية مثل “استمرارية المشروع” أو “حفظ التوازنات” هو في الحقيقة إعلانٌ عن موت الروح الديمقراطية في داخل الحزب، وتحويله إلى كيان أوليغارشي، تحكمه أقلية متحكمة بمفاتيح القرار.

وهكذا، فإن ما شاهدناه في آخر مؤتمرات الاتحاد الاشتراكي، ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو إعلانٌ عن موت الحزب بصورته التاريخية، على يد ما يمكن وصفه “بالنخبة الطفيلية”. هذه النخبة التي تتصرف وكأنها مالكة للحزب، تستخدمه كمنصة لتحقيق مصالحها الضيقة، وتستثمر رصيده التاريخي ورموزه كعملة للتداول في الأسواق السياسية. لقد أصبح الحزب، في ظل هذه الإدارة، سلعةً في سوق المساومات، حيث تُباع المبادئ وتُشترى الولاءات، وتُسترخص تضحيات الأمس على مذبح مصالح اليوم.

في هذا المشهد المُحزن، يتم تبخيس قيمة العمل السياسي نفسه، من فعل نبيل يهدف إلى خدمة الصالح العام، إلى مجرد وسيلة للارتقاء الاجتماعي والاقتصادي لفئة قليلة. وتصبح الزبونية والولاءات الشخصية المدفوعة الثمن هي اللغة السائدة، بدلاً من لغة البرامج والكفاءات والإخلاص للقضية العامة. إنه تطبيع مع الممارسات التي تقتل روح المبادرة وتقتل الإبداع، وتجعل من الحزب مكاناً للوصوليين ومنتهزي الفرص، بدلاً من أن يكون منبراً للمُخلصين والمفكرين والمناضلين.

وتبقى المفارقة الأكثر إثارة للحزن، أن كل هذا يحدث على أنقاض تاريخ حزب ملأ الدنيا وشغل الناس. حزب كان مدرسةً في النضال والتضحية، ورافداً من روافد بناء المغرب الحديث. إن الاسترخاص لتلك التضحيات الجسام التي قُدمت على مدى عقود، والاستخفاف بذلك الإرث العريق، هو الجريمة الحقيقية التي ترتكبها هذه النخبة المتحكمة. إنهم لا يقتلون الحزب في حاضره فقط، بل يقتلون ذاكرته أيضاً، ويحولون تاريخه المشرف إلى مجرد أسطورة تُروى، بينما واقعهم يشهد على انحراف المسار وانزياح البوصلة.

  قد يكون هذا المشهد مؤلماً، لكنه يظل درساً بليغاً في السياسة والتاريخ السياسي. إنه تحذير من أن البقاء ليس حتمياً، وأن التاريخ لا يرحم من يجمد في مكانه، ويظن أن المجد السابق كافٍ لضمان المستقبل. موت الاتحاد الاشتراكي، لم يكن بسبب هجوم الخصوم، بل بسبب انتحار ذاتي، نفذته أيادٍ من داخله، بدعوى المحافظة على الحياة، وهي في الحقيقة تدفن آخر أنفاسها تحت ركام المصالح الضيقة والرؤية القصيرة.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!