رحيل قبل الرَّحيل

سعيد بوخليط
عدت من المدرسة، زوال ذاك اليوم من بداية خريف سنوات 1978، أذكر اللحظة تماما،بدا لي من بعيد مدخل منزلنا، تسوده ضوضاء وحركة غريبة غير معهودة بتاتا في محيطه، كسَّرت صمته وهو القابع في الظلام ليلا ونهارا، بحكم تواجده داخل ممرٍّ أشبه بقبوٍ.شعرت بتثاقل خطواتي، ثم زاغت لاإراديا عن أثرها المفترض.
تبيَّنت طيف جدّي من جهة أبي متكوِّما على كرسيّ، بجلاّبيته وعمامته المشدودة بكيفية لولبية على طريقة أهل الصحراء، تبقي فقط على فتحتي العينين والأنف. عرفته من الوهلة الأولى، رغم شحّ زياراته وجدَّتي لنا، بل منذ عهد بعيد، مع قدرتهما الوافرة بالطبع. لأنَّ علاقتهما بأمي، مثلما اكتشفت حينما اشتدّ عودي ووعيت بما جرى ويجري وسيجري، اتّسمت منذ البداية بالجفاء والبرود ولم تكن حسب المرغوب والمعتاد.تحديدا، لم يمتثل أبي لرغبة والدته أساسا، وكسَّر قاعدة زواج الأقارب التقليدي، فتزوَّج صدفة على نحو غير عادي، قياسا لما أراده والداه. فكان لابد، أن يؤدّي بجانب أمي جراء ذلك فاتورة عقاب أسطوري، وكأنّ لعنة ميتافيزيقية حلَّت منذئذ فوق رأسيهما تباعا، أو أنّ أبي كان على عجلة من أمره كي يغادر هذه الحياة سريعا جدا، فصادف أمي أول ما صادف، ثم صنع كل المطلوب مجتمعيا خلال رقم قياسي. دراسة، عمل، أسفار، زواج، أولاد، مرض، معاناة.. حصيلة اختزلتها عشر سنوات تقريبا، على أبعد تقدير.
ضمَّني جدّي إلى صدره، واحتضني طويلا، قبَّلني قبلتين على جبهتي شعرت حقّا بحرارة وقع دفئهما، غير أنِّي لم أبادل تحيَّته تلك بالمثل، لا أدري لماذا؟ بقيت يداي متصلِّبتين ومربوطتين عند مكانهما، بكلِّ برودة القطب الشمالي، دون لملمتهما قيد أنملة. فقط التقطت على نحو يقيني بكل سخونة براكين العالم، الجملة التالية: “كنْ رجلا يا بنيّ، البقاء لله، لقد مات والدك. ولن تصادفه بعد اليوم قط في البيت، جميعنا سيموت ذات يوم، وسنسافر إلى عالم ثان. تجلَّدْ، واهتم برعاية أمك!“.
أحسست حينها بأنّ العالم انهار فجأة بأكمله فوق جمجمتي، تداخلت لديّ في ذات الآن أحاسيس شتّى، ثم اكتسحني تيه عارم. ربما شكَّلت سنواتي السبع آنذاك، زمن طفولتي قبل رحيل أبي مظلّة كافية ضدّ أعاصير الحياة، وبعدها أصبحت عاريا تماما.
فهمت من كلام جدِّي، اختفاء أبي إلى الأبد، لكني لم أدرك حينها معنى الموت. أيّ شيء يعنيه أن نموت؟ لماذا نموت؟ لماذا أبي تحديدا؟.
ولجت البيت وأنا في غيبوبة. صعدت الأدراج. أحاول تحسُّس وجود أطرافي فلا أشعر بهما قط، مع أنّي سأبدأ منذ تلك اللحظة رحلة سيزيفية طويلة لحياة مخمورة. فهل سيتحمل جسدي الصغير متاهة دروب معتّمة بلا أمان! تقصد عيناي مسار جهة واحدة، أبحث عن أمي، وسط كل هذا الإعصار. هل ستكون في وضع مماثل لحالة جدّي؟ أم ازداد أمرها وقعا واستفحالا؟ كان المنزل مأهولا بغرباء لا أعرفهم ولا أريد أصلا التعرُّف إليهم، أحسُّ بنظرات هؤلاء تخترقني، تمزِّقني إربا من رأسي حتى أخمص أصابعي، وشفاههم تلوك نحوي جملة تعابير؛ لم أستوعب جلّه.
– ”مسكين لازال الصبيّ طريّا! فكيف به …؟”.
– “الله، الله، لا يميّز هذا الموت المصيبة بين طفل وشيخ كلّنا موتى في نهاية المطاف… ”.
– “كم ينتظرك من التَّعب أيُّها الصَّغير المسكين! وأتمنَّى أن تكون طفلا بارّا وصالحا… “.
كلمات تتقاطر صوبي من مختلف زوايا منزلنا الصغير، غير المعتاد أبدا على جَلَبة من هذا النَّوع، القابع دائما بين سكينة صمت مريب، أشعرني برعب شديد خلال لحظات كثيرة، لاسيما فترات غياب أمي، ثم انزواء أختي إلى فراشها فجأة بعد ساعات طويلة من لعبنا المشترك، وانخراطها بعد حين يسير في سبات عميق. حينها، أبقى وحيدا، أتأمّل مختلف الأشباح المنبعثة كل آن من الظُّلمة المخيفة التي تنعرج نحو الدّرج المفضي إلى الباب.
تواجد ذلك المنزل وسط ممرٍّ مظلم يربط بين زقاقين، فكان جواره مرتعا آمنا ودافئا للعشَّاق والمتحرِّشين؛ وجنَّة فيحاء بخصوص تهيئ سيناريوهات جلسات أهل المتع بمختلف ألوانها لاسيما خلال المساء. كم من مرَّة، فتحت الباب قاصدا الخارج، فأباغت جسدين ملتصقين؛ متوحِّدين تماما، لكن بمجرد انبعاث خيوط إضاءة المنزل، سرعان ما يرمي أحدهما بالآخر إلى الجهة المعاكِسة، كي يستعيد الثُّنائي المنغمس وضعية التَّناظر الحواري بدل الإباحي؛ وربما استمرَّ الوضع على ماهو عليه إن أدركا سلفا بأنّي الطِّفل إيَّاه.
أيضا، ظلمة جَسّدت ملجأ مريحا للهاربين إلى متعة التَّحليق الحلُمي، ليست بالضرورة حشيشا وشرابا، بل مجرّد تجريب على ارتشاف ومصِّ أعقاب السجائر، موقف لم يكن وقتها سهلا، فاقتضى الاختفاء وتبني أقصى درجات الحيطة والحذر، مادام تأكيد التهمة من طرف الأسرة أو الأقارب، سيجر على صاحبنا المغامر مختلف الويلات واللعنات وقد يطرده الأهل.
غير عالم هؤلاء، مع انبثاق أولى خيوط الفجر، تغمر الحيّ أصوات المتسوِّلين، جلُّهم مكفوفين، يسكنون تلك الغرف الشبيهة بثقب صغيرة تملأ الجدران، المحاذية لضريح أبي العبَّاس السبتي. من بين كلِّ الذكريات، لم تفارقني غاية الآن، وقد ابتعد الزمان كثيرا، صورة شابٍّ مجنون مقيَّد اليدين والرِّجلين باستمرار، لا يكفّ بتاتا عن قضم الخبز والتهامه التهاما، ملتصقا بجانب أمه الطاعنة في السنِّ، دائم الارتعاش والترنُّح والاهتزاز. جسم هائل جدا، أصلع، بملامح تكابد حتى آخر رمق كي تحتفظ بوسامة أصيلة، رغم تغيُّر سحنة وجهه، التي اختلطت ألوانها بركام القاذورات والأوساخ. عندما تدرك حالته مبلغا، منزعجا لأنَّه لم يتناول خبزا، ينهض مشهرا أمام المارَّة من أهل الحيِّ، جهازه التّناسلي وقد تصلَّب عوده وتمدَّد حجمه على إيقاع هذيان، بالكاد نستوعب منه ما يلي: “ألْبْنات، أَوِيلي هم الْبْنات،.. بْنْ .. بْنْ.. بْنْ”، نتحلَّق حوله ونحن نتراقص ونتقلَّب بجنون ضحكا، تنتبه أمه لفظاعة الوضع المخلِّ جدا، تصبُّ علينا لعناتها وترمينا بالحجارة، نتفرَّق مهرولين صوب كل الجهات، تلتفت إليه، تقذفه بصفعة مدوِّية: “اصْلاَيْ،مع شتائم تمسُّ أصله وفصيلته العائلية”.
ترمي ببصرها صوب أيّ قطعة خبز، كي تغلق فمه، فتعتريه سكينة مطلقة أشبه بمخدِّر تام، بحيث سرعان ما يأخذه نوم ميت، ثم يتراجع جهازه إلى مكانه ويبدأ شخيره مدوِّيا هديره.
ذات الوقائع تتكرَّر طيلة الأسبوع، لا يكسِّر رتابتها غير حيثيات معركة ضارية بين شخصين، بعد وقائع أمسية حمراء. معارك، تشكِّل فيصلها القوَّة البدنية الخالصة دون الاعتماد على لوازم تذكر، فنادرا جدا ما استعان أحدهم بسكِّين أو آلة حادّة، كما أنّ مدّتها قد تتواصل لساعات طويلة أو أيام.
أذكر مثلا أن خالي جلول خاض معركة لثلاثة أيام متتالية، بحيث يستريح ثم يعود ثانية لاستفزاز خصمه، لأسباب على منوال حسابات داحس والغبراء، وتزداد الأمور تعقيدا، في حالة انحدار المتصارعين، من جيلين مختلفين، وقتها يختلط الذاتي بالموضوعي، تحضر دواعي المروءة والعزة، ثم تتعقَّد أكثر فأكثر، إذا تصادف وصارت المعركة قضية شخصية ارتبطت بقيادي الحيّ وصراع الزعامات.
إذن، ظلمة تكتنف محيط البيت طيلة اليوم، نهاره مثل مسائه، يزيغ داخله كل قادم غريب، غير مدرك لجغرافية الموقع المجاور لضريح الولي الصوفي أبي العباس السبتي، أحد الأولياء السبع الذين اشتهرت بهم مراكش، وقد عرفوا خلال مراحل تاريخية مختلفة، بورعهم وتقواهم وكراماتهم المفارقة لثوابت العقل البشري.
ترعرعت وأختي على مختلف أجواء الطقوس الروحية والصوفية التي ترسخت عبر أجيال طويلة عند ضريح الولي: زيارة قبر ”سيدي بلعباس” كما جرت التسمية وتقبيل أركانه بوقار فائض من أربعة زوايا، جهتين عند رأسه، والثانيتين عند قدمه؛مع التمسُّح والتبرُّك بتمرير اليد على مجموع اللّحد ثم إلقاء بعض النقود داخل فوهة الصندوق الموضوع بجواره تحت مراقبة متلصِّصة لفقيه جامد أبدا عند مكانه، صيفا وشتاء يتلو القرآن في صمت، لكنه لايغفل لحظة عن ترصُّد ما يفعله القادمون. تخصّص حصيلة المداخل لجماعة المكفوفين والحمقى الذين يعيشون على عائدات رصيد الصندوق بعد فتحه كل يوم أربعاء، ريع يزداد سخاؤه حسب المواسم والمناسبات لاسيما الدينية، كشهر رمضان بالأخصّ خلال يومي الخامس عشر والسابع والعشرين. حينئذ يلاحظ ساكنة الحيّ، قدوم وفود غريبة وربما من مختلف جهات الوطن.
أساسا، يحدث يوم الأربعاء، بمناسبة أو غيرها، انقلاب كلّي، يكسِّر جملة وتفصيلا رتابة الحيّ، حينما يغدو قبلة يحجُّ إليها المراكشيون من شتّى أركان المدينة، بسبب دواعي السوق الأسبوعي، الذي اشتهر بـ “لاْرْبْعَا” (أو سوق يوم الأربعاء)، يمتدُّ فضاؤه من ضريح أبي العباس السبتي، إلى أقصى شمال حيّ آخر يدعى ”باب تاغزوت”.
أيضا، يعتبر اليوم الذي تبعث فيه السلطات الرسمية، إلى المكفوفين سيارة مكدَّسة بالخبز كما تذبح بقرة أو ثور ثم ناقة خلال مناسبة عيد المولد النبوي، وتوزع قطع اللحم على مريدي الضريح.
تأتي القوافل زرافات من كل أحياء المدينة، ليس فقط للتسوق، بل كذلك للتسلية والترويح عن النفس من خلال متابعة حلقات المهرجين، والمشعوذين، والفكاهيين، والسّحرة، والحكواتيين، والدجَّالين، وباعة الأعشاب الصحراوية، والفقهاء، ومروِّضي الثَّعابين، وقارئي القرآن، والفرق الفولكلورية، وأصحاب اللُّعب المثيرة كما الشأن مع فرقة أبناء سيدي حماد وموسى، الذين يسترعون الانتباه بقفزاتهم العجيبة اللَّولبية نحو الأعلى، الثنائية والثلاثية والرباعية، واستعراضهم البارع لحركات تماثل حركات الفنون القتالية داخل معابد الشاولين القديمة، فوق أرضية جرداء خالية تفتقد لأيّ صمّام أمان، لذلك فأدنى حركة زاغت بمليمترات طفيفة على غير القياس المفترض، تؤدّي حتما بصاحبها إلى هلاك مبين.
مشاهد بهلوانية في غاية الخطورة والمجازفة، من أجل استمالة أكبر عدد ممكن من الحضور، بالتالي إمكانية توسيع حصيلة الإيراد. حينما ينتهي العرض، يطوف رئيس الفرقة على امتداد تفاصيل حشد جوانب الحلقة، يخاطب الجمهور بلغة مسجوعة أشبه بنبرة المقامات، تتأرجح إيقاعاتها بين الكوميديا والتراجيديا، ثم المدح بما يشبه الذَّم، وكذا الذَّم بما يوهم على أنه مدح، ضمن قالب اللهجة الشعبية بكل قساوتها وحيادها.غير أن أغلبنا، في المقابل، يركِّز نظره على عضلاته اليابسة والمفتولة جدا، مع أن حجمها كان ضامرا، نستحضر معها تجسيدا حيّا لجسم بروس لي، وقد أدمنا نحن أطفال الحي أفلامه بالتكرار والتكرار، غير الممل، رغم عدم تجاوزها لأصابع اليد الواحدة، بحيث كنا لانبرح يوميا ظلمة القاعة السينمائية العريقة داخل الحيّ، الشهيرة المسماة ”مرحبا”.
بعد كلّ إعلان إشهاري لبروس لي، تبدأ حالة الطوارئ ولاتتوقّف الاستعدادات، قصد الاحتفال بالعرض الأول، تقتضي أولى خطى ذلك تدبّر ثمن التّذكرة بأيّ طريقة من الطّرق، شرعا أو اختلاسا، لايهمّ، ثم الاستعداد الجسدي والنفسي للتمكّن من مواجهة زحمة الحشود، ومدى القدرة على النفاذ صوب القاعة سالما معافى، دون اقتلاع عين أو كسر في الأنف أو تحرُّش مقصود من الخلف لاتكون دائما عواقبه عادية على المؤخِّرة. وإن حدث ودخلت ثم استويت على مقعدك، فلا تطمئن قط لحالك، فقد اشتهرت القاعة بأعداد الجرذان الهائلة، التي يحلو لها بالدرجة الأولى، التسكُّع بين أقدامنا للترويح عن نفسها؛ وربما التقطت مايمكن التقاطه من غنائم، في غمرة سواد القاعة الدامس، ثم غيبوبتنا شبه المكتملة بانسياقنا وجهة الشاشة لمتابعة مشاهد الفيلم، بالتَّعقيب والتَّصفيق والاستطراد والتأويل والانفصال والاتصال تارة همسا وفي الأغلب صراخا.
بالتأكيد تخرج الأمور عن السيطرة، فتحدث جلبة داخل القاعة، ينتقل على أثرها الصراع من الافتراضي إلى الواقعي، ونبدأ في التنافس والتباهي بإخراج نفس صرخات البطن الشهيرة عند بروس لي، من أجل سحق أي جرذ تصادف وجوده تحت قدم أحد منا، هكذا يتعالى تباري الأصوات داخل القاعة، حدّ بلوغه عنان السماء، ومدى نجاح أحدنا في الإتيان بذات معالم الصرخة قلبا وقالبا، مصحوبة بحركة تليق بالمقام، مع التفنن في لعبة تشكيل ملامح الوجه، تبعا لتجليات القوة الداخلية، ثم تحط بكلِّية جسدك على الجرذ وتأتي عليه دون هوادة، وقد تستمر ارتدادات تلك الحركة وتجلياتها، غاية التأكد بأن الحيوان الثقيل الذي أفسد الحفل، قد تمزق جسده إربا إربا، وتناثر شظايا والفضل كله يعود إلى متابعة البطل الصيني.
داخل القاعة نفسها، خلال سياقات غير هذه، ربما مع أفلام الكاراتيه وأبطال آخرين للكونغ فو. يشعر الحضور بالضجر والرتابة، إما بسبب حالة الفيلم المتردِّية، أو لأن متواليات الحكي فشلت في الاستحواذ على الألباب مثلما جرت العادة، حينها يتكسّر الصمت، بتبادل التعليقات احتجاجا، تبدأ بدائرة تداول ثنائي هامس، لكن سرعان ما ترتفع عقيرتها لتكتسي طابع حلقات نقاش مبثوثة عند مختلف أركان وزوايا السينما. نقاشات تدلي بتعليقات شفوية، من باب النقد الانطباعي الأولي لتفاصيل الفيلم، لاسيما طبيعة الضربات وكيفية تحرُّك المقاتلين خلال المواجهات، ويزداد حجم السُّخط، إذا بدا لون الدم المنبعث من فم القتيل غير أحمر تماما، يكشف بسذاجة تقنيات الخداع السينمائي. هكذا تتزايد صيحات الاستنكار: أفّ! سفلة، مجرد صباغة، أو عصير الباربا (يقصد لون فاكهة الشمندر).
لذلك، يتمّ فورا وعلى وجه السرعة، اتِّخاذ قرار جماعي، مفاده تشكيل فرق في عين المكان، والتحوُّل بالفرجة إلى واجهة السطح العريض الممتدّة أضلعه أمام الشاشة، ثم تنظيم مباريات في الكاراتيه، بالسعي إلى تطبيق ذات سرد الفيلم، لكن هذه المرة وفق ترتيب على مستوى الإخراج محكم الصُّنع، نستعيض به عن جلِّ الهفوات التي رصدناها حين متابعتنا لما كان يعرض على الشّاشة.
يخلق التّباري ”الجادّ” وليس السينمائي أعطابا وحوادث ثم ضجيجا لا يطاق، يثير حفيظة عمّال السينما من بعيد جدا، فيسرعون مدجَّجين بمختلف أنواع الهراوات ويشرعون في إخراجنا بالضّرب والرَّفس والرَّكل والشَّتم، ثم إشعال الإنارة وإنهاء العرض قبل الوقت المحدَّد.بالتأكيد، يحفظون جيدا ملامح عرَّابي المباريات داخل القاعة ورؤوس الفتنة، قصد منعهم من العودة إلى نفس السينما ثانية لفترة تطول حقبتها أو تقصر، بعد التحرّيات الدقيقة بخصوص مستويات حجم الجرم.
أيضا، داخل القاعة نفسها، وبجانب حكايات الجرذان ومباريات الكونغ فو. هناك تجربة أخرى مختلفة، لابد من ذكرها. أقصد ازدهار مواسم الاستمناء الجماعي، بمناسبة عروض أفلام البورنو أو ”لامور” (الحبّ) بلهجتنا آنذاك، التي شكلت مرتكزا ثالثا، ضمن الثالوث المقدَّس بالنسبة لأبناء الحيّ: كاراتيه، هندي، أو التاريخ والجغرافيا، مثلما دأبنا على نعتهما تفكُّها، نظرا لارتباطهما العضوي، ثم أفلام الجنس. مع ذلك، لا ينبغي أن يحلّق خيالنا حاليا بعيدا، وتوهم على الاعتقاد بأنّه بنفس ملحمية ما يتداول حاليا أو بذات زخم إمبرياليته الهائلة، بل فقط مشهد بطل وبطلة، تميّزهما غالبا قامة طويلة ونحافة أقرب إلى نتائج سوء التغذية منها إلى الأجسام الطرية والمثيرة، بتسريحتي شَعْر مدرسية تعكس رومانسية سنوات السبعينات، بناء على شعار: ”مارسوا الحبّ، ولا تمارسوا الحرب”.
نصف عاريين، يتبادلان قبلات سطحية على طريقة المراهقين المبتدئين.هنا، يتوقف المشهد، ولا يصبو نحو المبتغى المنشود بالتطلع غاية المنطقة المحظورة، حتى يكتشف الحضور ما ينبغي اكتشافه. ترى المشاهدين سكارى، كأنّ على رؤوسهم الطّير، يسود صمت مطبق، لا هسيس، لا وشوشة تنساب عبر الأفق، الجميع موصول بمختلف تفاصيل حواسّه الحيّة والميّتة نحو الشّاشة/اللذّة، لا يخترق صمت الأموات، سوى ازدياد فاضح لتواتر إيقاعات ارتفاع الاحتكاك المشتغل بالأجهزة التناسلية، مع اقتراب تحقّق الانتشاء الجنسي، حيث لايكترث أحد بوجود الجميع وغير مهتمّ بتاتا بوجود الجميع.
لحظة تتّسع أبعادها المفارِقة، إذا تصادف السياق مع زحمة نساء سوق يوم الأربعاء، فرصة لا تتكرّر كل آن، بالنسبة لشباب الحيّ، كي ينتعشوا جنسيا وسط جبرية الازدحام والتّزاحم، فيتعمّدوا، جيئة وذهابا، الالتصاق بمؤخّرات النسوة لاسيما المكتنزات القادمات للتّسوّق، منهم من يقضي وطره بسلاسة وسلام، في حين يتعثر حظّ آخر، فتتضايق من سلوكه إحداهنّ، وتقرر فضحه أمام خلق الله بالعويل والصّراخ.
مساء، ينصرف تقريبا عدد كبير من هؤلاء المتجوِّلين والمتحرِّشين إلى الحمَّام الشعبي، قصد إراحة الأجساد بكيفية أخرى وتطهيرها من مختلف الأدران والأوساخ التي علقت بها سواء داخل السينما أو بعدها.
أما نحن الصغار،فنسرع إلى المرحاض العمومي، كي نتابع،من جهة سلوكات الجرذان، ونعاين أوزانها، وإذا كان الجوُّ ساخنا نرتمي في الحوض المائي الذي يتوسّط المرحاض العمومي، وإبّان الانتعاش بطراوة الماء، نتلصّص من جهة أخرى بسخرية، على عري الكبار وبالأخص الكهول، وهم يفرغون أحشاءهم داخل بيوت صغيرة في غاية النَّتانة والقذارة ونصف مغطاة، قبل خروجهم نحو الصهريج للاغتسال على طريقة مشي البطّ بعورات وأجهزة مكشوفة للعموم…
ولجت الغرفة، كان أبي مسجّى تحيط به أمّي وجدّتي وخالي محمد.عيناه بالكاد مفتوحتان، وقد تسمّر نظره نحو السّقف. الفم مفتوح مع غرغرة حشرجة. لاحظت جدّتي تسكب قطرة عسل، لتليين فصل الروح عن الجسد مثلما فهمتُ بعد ذلك. الوقت زوالا، هكذا استمرّ صراعه الأخير من أجل البقاء، أربع ساعات تقريبا.
لاحظتُ صبيحة ذلك اليوم وأنا أهمُّ للمغادرة نحو المدرسة، بذكائي الطفولي إلحاح أبي عليّ بنظرات متكتِّمة، لم أعهدها من قبل، كأنَّه أراد اصطحابي أو إخباري بشيء ما، لكن لسانه لم يسعفه. صار حقيقة تلفُّظه شحِّيحا، يعتمد تعبيره على سيمياء وجهه، لاسيما حاجبيه وتقوُّسها الحاد حين الغضب. نظرة مختلفة تماما، تضمر مغزى معيّنا، لم أستوعبه إلا بعد سنوات، وشرعت ذاكرتي بين الفينة والثانية، تجذبني من أذني قصد استعادة الوقائع، لكن مثلما أريدها أنا.
خلال الليلة الأخيرة قبل صباح موعد الرَّحيل، هيَّأت أمّي لوجبة العشاء طبق أرز بالحليب والزبدة والعسل، أمدّته بصحن فلم يأبه، ثم عاودت الكرَّة بملعقة ممتلئة وضعتها في فمه، لكنه أزاحها جانبا بامتعاض. شرع يهذي بكلام، غير مفهوم لم نفرز منه سوى كلمة واحدة: سأسافر.
-“إلى أين وجهة سفرك؟”، بادرته أمِّي بالسُّؤال.
قابلها بنظرة فاترة، غير مهتمّ رافضا الإجابة، ثم حلّق بعينيه ماسحا مختلف تفاصيل أبعاد البيت. لاحظتُه يململ شفتيه، كأنّه في حديث خاص مع نفسه بهمسات غير مفهومة.
ملأت أمّي ملعقة أخرى معتبرة من الأرز ثم وجّهتها بحنوٍّ إلى فمه.استجاب هذه المرّة لعرضها بأريحية، فأتى على الحمولة جملة وتفصيلا.شرع يمضغ، يلوك يمنة ويسرة، لكن بدت عليه علامات العسر حين محاولته الابتلاع. اضطربت تقاسيم محياه، اتَّضح جليّا مدى صعوبة تمرير اللقمة نحو معدته.
أتأمَّل أمره باستغراب، أستشعر في دواخلي خطرا وشيكا مجهول المصدر. حالته لا تطمئن قط.
استيقظتُ صبيحة الغد، متأخِّرا عن موعد المدرسة، بخلاف المعتاد، ربما هي دقائق معدودة لكنّها تحرمني بالتأكيد من ملحمة فتح الباب، لحظة ولوج حشد التلاميذ، بكلّ اندفاعهم الصَّاخب. شكّل لديّ هذا الطّقس طيلة سنوات الطفولة بهجة يومية غير قابلة للتعويض، ومَرَحا مكتملا عقده في غمرة التَّدافع المرح والصُّراخ والقهقهات بالتَّسارع عبر مباريات الرَّكض وجهة الأقسام، والأهمّ الإفلات من العقوبة المنتظرة من طرف حارس المدرسة، إن أخلفت اللحظة المضبوطة وربَّما تعقّد الأمر ووصل إلى ضرورة إحضار أحد الأوصياء.
ارتديت بسرعة على غير هدى، تغضّ أمّي في سبات أهل الكهف، محشورة عند زاوية في الغرفة.خرجت إلى وسط البيت، وهاجسي منصبّ بثقله على إيجاد فردة حذائي. رمقت أبي مستيقظا على غير عادته، وقد صوَّب مجمل نظره نحوي، كأنّه يريد الإدلاء بشيء ما لكنّه عاجز بحيث فَقَد خلال الأيام السابقة، قدرته الطبيعية على التلفُّظ. لم أستوعب معاني تلك النظرة، بادلته ابتسامة خفيفة ثم غادرت.
حين عودتي بداية الظهيرة، اكتشفت ببساطة أبي جثّة ممدَّدة، تحت رحمة صوت فقيه يقرأ عند رأسه آيات من القرآن، حينها تجلّت واضحا بعض ألغاز نظراته خلال الصّباح. يصارع الموت بإباء، تُسمع تبعات حشرجته. الفم فاغر بارتخاء، والعينان انطفآ وميضهما.
صرخت جدّتي، في وجه خالي محمد: “هيّا أسرع! وأحضر مزيدا من العسل، يلزم سكب قطرات أخرى في حلقومه”.
أتابع المشهد، برهبة غير معهودة. في نفس الوقت أحاول فهم حركات الجيران الذين تقاطروا على منزلنا. يقيّم كل واحد منهم مثلما أتابع طبيعة الموقف بطريقته الخاصة، حسب درجات معرفته الخاصة بأبي أو فقط كونه مجرد عابر سبيل. مادامت الأعراف الاجتماعية، لاسيما مع واقعة الموت، استدعت مثل هذا الالتئام غير المبرَّر في كثير من الأحيان.
جاء أبي إلى هذا العالم ثم غادره سريعا. لم يتجاوز عمره سنّ الثلاثين ونيف، حينما راكم كل شيء: هجرة من بلدته الصحراوية الصغيرة، دراسة لتقنية البيطرة، وظيفة، زواج، أولاد، صراعات، مرض، وفاة.بالتأكيد، سرعة قياسية.
رحل أبي، وأنا طفل في سنّ السّابعة، بالتالي لا أذكر سوى اليسير من حياتي بصحبته، لكني أحفظ بقوّة تلك الوقائع الزَّهيدة، وأمسك دائما بطرواتها بين تلابيب ذاكرتي. أول ماوعيت حضور أبي، الفيزيقي والنفسي، أدركت ببداهة أنّه ليس بخير، وتشغله هواجس كونه ليس على ما يرام بتاتا. غول، يعبث بأعضائه دون رحمة.
شرع يفقد توازنه حين مشيه، يظنُّه المشاهد من الوهلة الأولى سكرانا تستغرقه عربدة شديدة، كان حيّز كتفيّ الصغيرين جدا، بمثابة عكَّاز، معتمدا علي في توجيه أبسط خطاه، كأنّه كفيف، بينما حقيقة لم يكن قادرا على التّماسك بتوازن. لم أتبيّن غاية اليوم، عِلَّة مرض أبي، وقد عجّل باختفائه نحو اللانهائي.
التأويل الجاهز لدى أمِّي، كلما استعدنا استمرار حيثيات الموضوع، جزمها أنّ أبي أصابه داء التهاب المفاصل. أحيانا أخرى، تروي رواية ثانية، مفادها حادثة سير قديمة تعرض لها خلال فترة بداية عمله صحبة مرافق له، عندما انقلبت بهما سيارة “جيب” عند منعرج خطير. صحيح أنّه نجا من الموت، لكنّه أصيب أسفل عموده الفقري إصابة ربّما لم تشكِّل عائقا كي يواصل حياته بشكل عادي، لذلك لم يبد الجدِّية المطلوبة، بخصوص تجربة من هذا القبيل. هكذا ظلّت ارتدادات أثر الضّربة، يتّسع مكمنها رويدا رويدا، غاية إنهاكه تماما.
صرت وأنا في مقتبل العمر، مرشدا لاغنى عنه، يعتمد عليّ أبي لمغادرة البيت في كل صغيرة وكبيرة، الحمَّام الشَّعبي، الحلاَّق، السُّوق… إلى أن استنفد طاقته تماما وأضحى عاجزا عن مغادرة المنزل. تتشابك خطواته لولبيا، فتفقده توازن مشيه ضمن خطِّ هدف واحد، كأنَّه في أوج عربدة. نظرات المارّة مسلَّطة نحونا، وقد اعتقدته أغلبهم مترنِّحا من السُّكر، في حين توخز آلام عظام أطرافه السفلى، وبقي الوضع على منواله إلى أن أقعده عن الحركة تماما، بحيث أنهى سنواته الثلاث الأخيرة من حياته فيما أذكر، قابعا في البيت، لم يعد يقوى على المغادرة، غاية لحظة وفاته.
لم يكن مزاجه قابلا للمساومة. أبي شخص شفّاف وصريح للغاية، يتكلّم قلبه ولسانه لغة واحدة، بذات المرجعية، لذلك واجهته مشاكل عدّة جراء افتقاده زئبقية دبلوماسية التّواصل، سواء مع رؤسائه في العمل، وأمّي أيضا.
امتهن أبي التطبيب البيطري، ضمن مجموعة خرِّيجي أول فوج في البلد، اختار أفراده هذا التخصُّص، غير المطروق آنذاك سوى نادرا قياسا لطبّ البشر. انحدرت أصوله من بيئة صحراوية، اتَّسم أهلها الأوَّلون، أقصد قبل غزوات التقنية ثم العولمة، بطبع الطيبوبة المفرطة الأقرب حد السذاجة والشفافية المثلى، مع انقلاب في لمحة طرفة عين إلى شخصية مزمجرة وساخطة كليا، حين أبسط إحساس بالجور.
غادر منطقته باكرا، قاصدا معهدا بمدينة مكناس، لدراسة تقنيات العلاج البيطري. فعلا نجح مسعاه، وصار طبيبا يهتم بصحة وسلامة الأبقار والأغنام والجياد والمعز والكلاب ومختلف الكائنات التي تدور في فلكها. منتقلا بين القرى والمناطق البدوية، دؤوبا على اللامكان. لذلك ولدت أنا في منطقة، وأختي الثانية في منطقة أخرى، وأختي الصغرى أيضا في منطقة غير السابقتين.
هذا التِّرحال الدائم، كما استوعبتُ مع مرور الأيام، تبعا لأحاديث أمّي، أثَّر بكيفية سلبية على مزاجها وبالتأكيد تحوُّل علاقتهما إلى مساحة محتقنة من الشدّ والجذب، لاسيما أن مختلف العوامل الموضوعية، حرضت على هذا الاتجاه: حداثة سنهما، افتقادهما لخبرة كبيرة بالحياة، حدّة مزاجهما، تصلّب طبعهما، تباين تامّ على مستوى انتمائهما الإثني والاجتماعي والثقافي،إلخ.
كابد أبي في علاقاته مع رؤساء العمل، لأنَّه صاحب مزاج لايعرف سبيلا إلى فنون المواربة وأساليب التمويه فمابالك بالنّفاق الاجتماعي، فأدّى تكلفة ذلك طيلة فترة انتمائه لسلك الوظيفة، إما بتدبيجهم لتقارير سيِّئة تبخِّس أداءه المهني والشخصي، مهما فعل، بل والزجّ به في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية طيلة شهور، بدعوى اضطرابه الذِّهني. حين المغادرة أجبر على اتّباع وصفة طبية، تلزمه بضرورة تناول أقراص مهدّئة، فاقمت على العكس من ذلك حالته الجسدية والنفسية.
أذكر بهذا الخصوص، تواتر زيارة شخص تعرف عليه خلال فترة استشفائه. ربما كان بدوره منتميا للجسم الطبي،هل الحيواني أم الآدمي،لاأعرف؟أتى إلى بيتنا ضمن فترات متقاربة لزيارة أبي.يجلس معه طويلا،تستغرقهما أحاديث مختلفة،لم أكن أستوعب منها حرفا واحد.لكن ما أثار انتباهي أساسا إبّانها ،تلك الحركات البهلوانية المباغتة التي يرسمها ضيف أبي دون توقّف على سيمياء وجهه حينما يتكلّم،تدفعني بعفوية طفولية إلى التّمادي في بعث قهقهات متواصلة في حضوره ،تحرج أبي حرجا شديدا،لأنّه يدرك سلفا قصدها.ولتضليل اهتمام صديقه،يرفع أبي عقيرته أو يشرع في التثاؤب مبديا رغبة مصطنعة في النوم.
أراقب بدقّة جلّ حركات وسكنات الضّيف،لاسيما طريقة نفثه أدخنة سجائره المتعاقبة،الواحدة تلو الثانية،يبعث بمهارة عجيبة خيوطا متدافعة من منخريه وفمه بطريقة بارعة، ترسم الأفق بلوحات هندسية مختلفة.عملية، يتجلّى إيقاعها حسب درجة تذوقه لنكهة سيجارته.لاتتوقّف عيناه عن ملاحقة امتدادات خيوط الدخّان الهلامية المنبعثة بين طيات أنفاسه. يصمت قليلا، يلتقط من الطاولة علبة الكبريت بتقنية لافتة ويشرع في كتابة جمل بالفرنسية،أو يؤثِّثها بخطوط أشبه بالسومرية والهيروغليفية.يشرد لثوان عديدة وقد نسي تماما حضور أبي،الذي استهواه بدوره تأمّل عميق غير مفهومة دواعيه،وقد أشعل بطريقة أرستقراطية سيجارة دون أن ينسى وضع مصفاة النيكوتين،لكنه مع ذلك ونكاية بصحته الهشة يتماهى بكنه سيجارته غاية سماع شهيقه.
تنتهي الجلسة السوريالية،ينهض ضيفنا مسرعا،دون سابق إنذار أو مقدّمات موحية،كأنّ شيئا وخزه بقوّة. يكتفي بلفظة”ciao“ثم يهرول نحو وجهة الباب،وقد خلف وراءه فوضى عارمة.شاي مسكوب على الصينية،أعقاب سجائر متراكمة بكيفية مقزِّزة، وعلبة الكبريت انمحت هويتها الأصلية،بعد أن غمرت إطارها رسوم غريبة تماما.
حالما يغادر،تحضر أمّي على الفور وهي تلعن بكل لغات العالم صداقات مستشفيات المجانين،ونتائج الاتصال بعالم الحمقى والمغفّلين.يحاول أبي التخفيف من روعها،بكلمات مطمئنة من قبيل ضرورة احترام الضّيف وواجب الضّيافة، ثم مبدأ رفع القلم عن المجنون، والمجانين كالأطفال،والأطفال أحباب الله،ولولا المجانين والحيوانات والأطفال لما سقانا الله مطرا…
تنظر إليه أمي باستخفاف،وتهمس مع نفسها بكلمات لاتكشف عن معانيها غير إيماءات وجهها.
جدّتي من أبي،لم تكن تزورنا سوى لماما،لأنّ علاقتها بابنها تعرّضت لهزّة عنيفة، جراء إقدامه الجريء على اختيار طريق زواج “ليبرالي”،وتقويضه القاعدة الجاري بها العمل داخل قبيلته،التي تفرض عليه مبدئيا الارتباط بامرأة تنتسب لنفس المنظومة العشائرية،ويستحسن أكثر انحدارها من أقرب الأقارب،يعني أبناء الأعمام أو الأخوال،غير أنّ أبي الذي غادر قريته مبكّرا،انفصل تماما عن المنظومة المتسيِّدة أو ربما لم يتمثّلها أصلا مادامت أواصر صلته بمنطقة مولده،انتهت قبل بدئها،محاولا أن يختار لنفسه طريقا مغايرا لما أراده والداه.
جلست جدّتي يوم وفاة أبي وسط الوافدين على بيتنا الصغير،ثم افترشت سجادة،وأخذت قماشا في يدها،تلوِّح به وهي ترثي سيرة وجود لم يكتمل،وفق ميلوديا تثير بنبراتها الضحك أكثر من البكاء.لم يكن السرد بالحبكة المناسبة،لكنها حاولت الإشارة في لمحة موجَزة مختلف تفاصيل رحلة أبي خلال تلك الفترة الوجيزة التي قضاها في هذه الحياة.
توقّف نبض أبي.دفن في مقبرة نفس الحيّ.
غادرنا الجميع.
دأبتُ على زيارة المقبرة لسنوات كل يوم جمعة صباحا باكرا بعد صلاة الفجر،وخلال الأيام المقدَّسة شعبيا.مرة بمفردي،مرة أخرى برفقة أختي أو جدَّتي.بعد فترة بدأت أظهر كسلا.
ذات مرة،وأنا بصدد تصفح جريدة محليّة،استرعى انتباهي خبر مفاده أنّ الشرطة تمكّنت أخيرا من إلقاء القبض،على مجهول يسرق من نفس المقبرة التي دفن فيها أبي، وللمصادفة !الشواهد الرّخامية المنقوشة المرشدة للزائرين،ثم يترك القبور مبعثرة في أسوأ حالاتها.
قرّرت الذهاب إلى هناك،حتى أطمئن على مصير قبر أبي. قصدت المكان المحدّد مستندا على توجيهات ذاكرتي القوية. لاحظت من الوهلة الأولى انقلابا كبيرا في بنية المدفن ،وقد تداخلت القبور بكيفية عشوائية جملة وتفصيلا.
نعم، متيقّن بأنّها الزّاوية التي تضمّ قبر أبي.أعدت البحث مرارا وتكرار،طويت نفس الأمتار جيئة وذهابا،غير مامرّة وأنا أعيد بتؤدة العجائز تهجّي أسماء القبور. بعد جهد جهيد، تأكّدت على وجه اليقين،أنّ شاهدة قبر أبي ضاعت وضاع معها رفاته للأبد، وأفتقد أيضا هويّته كميّت. فهل رفض موته مثلما انتشل حياته سريعا من الحياة؟
ربّما، مرَّ ذات يوم، من هنا؟
لا أدري حقيقة.