من خلف إدريس لشكر.. ومن وراء جيل Z؟

عبد الرحيم التوراني
أجلس في ركن المقهى المطل على البحر بشاطئ بعيد، أرتشف القهوة وأُقلِّب في رأسي التساؤل المُرّ الذي يربط بين ضفتين:
ما الرابط بين فزَّاعة الجمود السياسية (إدريس لشكر) وبين الجيل الجديد الذي يتسكع خلف شاشات الحواسيب والهواتف الذكية، ليطلق شرارات التمرد…؟
ما الذي يربط بين قوتين متجاذبتين.. الأولى تقف وراء “جيل زد”، والثانية تحمي ظهر لشكر وتدعمه، وبالتالي تزفه بالزغاريد عريسا حلالا للمرأة الرابعة، (عفوا للمرَّة الرابعة) فوق “عمارية” حزب الاتحاد؟
وما الخيط الناظم الذي يربط بين نقيضين ظاهريين: التمرد الاجتماعي التلقائي (جيل زد)، والجمود السياسي العتيق (الجماعة التي يمثلها لشكر)؟
اكتشفت، بسخرية سوداء مُرَّة، أن الرابط هو الرأس نفسه الذي يُدير بقسوة حبال المشهد الدرامي…
وجدتني أقف حائراً أمام مشهد موزع. أتابع على مواقع التواصل كيف تُطلق الاتهامات جزافاً بحق جيل جديد.. هو “جيل زد”، حيث يُوصف بالتمرد وبالعمالة وخدمة أجندات خفية..
ومهما كان الأمر، فقد تساءلت بسذاجة من يحسب نفسه فطنا:
– نعم، يجب علينا أن نعرف من وراء هؤلاء الشباب “المتمردين” وما هي دوافعهم الحقيقية؟
لكن الموازنة حكمتني، وطرق رأسي سؤال مضاد ومُزلزل:
– من وراء تثبيت شخصيات تقليدية وفزاعات سياسية كبرى، مثل إدريس لشكر، في واجهة الشأن العام؟
وجدت أن الطرفين إذن، هما نتاجان مختلفان (رد فعل وفعل) لـ “نظام” واحد يعاني من أزمة أخلاقية وبنيوية عميقة.
إن الذي يقف خلف “الأخ لشكر” ليس مجرد قاعدة حزبية مزيفة، بل هو تراكم مَرَضيّ للفساد والريع الذي يغذي مناصب “خدام الدولة”، في ظل سياسة اللاعقاب التي تحفظ النظام القديم..
إن استمراره هو من يخدم حقيقة أجندة خفية، تتمثل في إفراغ النضالات الشعبية والجماهيرية من مضمونها الحقيقي، وتحويل الأحزاب التاريخية إلى هياكل جوفاء، والإبقاء على الاستبداد مُقنَّعاً..
هذا ما يكشف لنا “تلك الرائحة” الفواحة، وتلك الرغبة المتأججة في الانتقام من المعارضين الحقيقيين ومن أي ذكرى للشهداء والمدافعين عن حقوق الإنسان.
إننا نعيش في مزرعة يملكها “الماضي الجامد”. هذا الماضي ليس إلا الركود السياسي المُمَنهج، وقد تحول بفعل فاعل إلى تربة مخصبة بأسمدة الفساد والريع السخي بلا كوابح وبلا حدود. يزرع في هذه التربة يومياً اليأس العميق والمُقطَّر في شرايين الشباب.
وبما أن الطبيعة تأبى الفراغ، فإن هذا اليأس لم يلبث أن تحول إلى سلوكيات “جيل زد” المتمردة…
***
الأمر ليس معقداً يا صاح.. الجمود هو الأصل، والتمرد هو رد الفعل الحتمي والمجاني الذي يقدمونه لهم على آنية من فضة.
هذا الجيل المسكين، لا يحمل حرف “Z” فوق جبينه لأنه الحرف الأخير في أبجدية عالمية، بل هو الحرف الذي يجر خلفه كل الحروف التي سبقت.. يجر عبء الأجيال التي سكتت أو أُسْكِتَتْ، التي عانت من اللاعدالة والقهر، التي ابتلعت سنوات الرصاص وهضمت عقود الاستبداد…
إن تمرد “زد” المتفجر ليس إلا صدى متأخر لمطالب أسلافه المكبوتة.
والقوى المتحكمة تظن أنها تنجح في اللعبة الآن. تبتسم بارتياح وهي ترى محاولاتها لاختراق وتشتيت وقمع “حركة زد” تسير وفق المخططات المعدة في مكاتب الأجهزة السرية والعلنية… لكن هذا لن يكون نهاية المطاف أبداً. هذا مجرد تأجيل لشرارة الانفجار الأعظم والأشد خطورة.
***
تأبيد إدريس لشكر على رأس حزب تاريخي، ليس حدثاً عفوياً، بل هو واحد من بين حماة المنظومة ورمز جمودها. هو الواجهة السياسية التي تضمن عدم المساس بأفعال رعاة المخططات التنموية الجديدة في التفقير والتجهيل.. إن وجوده الطويل يُرسخ قاعدة ذهبية: “لا تغيير، ولا محاسبة، ولا أمل“.
هذا التخليد يبعث برسالة واضحة إلى الشباب: اذهبوا إلى قوارب الموت، أو إلى تمردكم الساخر عبر الـ”زد”، لكن إياكم أن تحلموا بالإصلاح أو التغيير …
***
من يقف خلف الفزاعات السياسية هو الفساد والريع، ونظام اللاعقاب الذي يحمي “الفراقشية” وناهبي المال العام.. هو الذي يضمن تغذية تمرد الجيل القادم. إنه بوضوح صاحب الاسم الحركي الساطع تحت اللافتة السوداء المعتمة: “الحزب السري”… هذا الذي يحمي لشكر ويضمن بقاءه..
بذلك فإن لشكر هو قطعة الشطرنج التي يضعها “الحزب السري” لضمان أن نظام اللاعقاب سيظل قائماً وقادراً على حماية سياسات النهب، وسيكرس الفشل، ليضمن استمرار لعبة “الجمود هو الأصل، والتمرد هو رد الفعل الحتمي“.
“الحزب السري” هو بطل هذه المأساة… هو صانع اليأس الأساسي الذي يضمن أن الشباب سيبحثون عن “أبجدية” جديدة للتعبير، أبجدية لم تُدرج بعد في القواميس والمعاجم الرسمية.
والكارثة الكبرى هي التي ستندلع شرارتها في اليوم التالي، عندما لن يجدوا في الغد لا “الإشارات” ولا اللغة ولا اللسان الذي يمكن التفاهم به مع هذا الجيل الجديد.
ولن تفيدهم أدواتهم القديمة، لا الوعود العرقوبية الكاذبة ولا شراسة القمع التقليدي، والاعتقالات والأحكام المعدة سلفاً بمدد من السجن.. كونها ستصبح عديمة الجدوى أمام شكل جديد من الرفض والتعبير غير المألوف، ربما يكون أكثر تجريداً أو رقمية أو تشظياً، مما يجعل الحوار مستحيلاً، ويضع المتحكمين في عزلة تامة عن الواقع الاجتماعي الفعلي.
لغة ستكون حروفها وكلماتها نتاج احتداد البؤس وغلو التهميش المعمّم. حينها، سنرى أؤلئك المتحكمين، من انتقى محمد نوبير الأموي ذات يوم لفظة “قاتلة” من لغة سرفانتيس، وسماهم بـها: “المنغنطيس”، أو “الصلاكط”.. يتقافزون عاجزين، يحاولون فك شفرة تمرد لا يعرفون منه إلا أنه يُزعج نومهم الهادئ…
إن ضرورة التغيير لا مفر منها لو يعقلون… والمأساة هي أن بقاء هذه الفزاعات هو ضمان لولادة “المتطرفين الصغار الجدد”، الذين بالتأكيد، حسب عواء الذباب الإلكتروني (نعم الذباب وليس الذئاب).. هم عملاء ومرتزقة، من الذين تخرجوا من دورات تدريبية سرية في “التيك توك” و”الإنستغرام” بتمويل من شركات “الميمز” العالمية، وهدفهم المعلن هو تغيير العالم باستعمال الإيموجي المناسب في الوقت المناسب“.
ونسوا القول بأنهم مسؤولون عن نفاد بعض المواد الغذائية الأساسية من الأسواق.
لعلها أهمها مادة الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان… لا شك ولا ريب.
هامش “لساني“:
المسافة بين حرفي الزي (ز) والياء (ي) في أبجديتنا العربية بعيدة بمسافات.. فـ”الزاي” يأتي في بداية الأبجدية تقريباً، بينما “الياء” يختمها.
وهذا أيها السادة يضاعف من تجريم حركة هذا الجيل..
إن استعارة جيل التمرد لحرف “زد” الأجنبي (الذي يقابله “الزاي” في منطقتنا)، بدلاً من الالتزام بختم الأبجدية بـ “الياء” الأصيل، يثبت شيئاً واحداً: أنهم لا يريدون فقط التمرد على الفساد والجمود السياسي، بل يريدون إرباك المنظومة اللغوية بأكملها..
إنهم لا يعانون من مجرد يأس (ياء)، بل يعانون من “زلْزال” (زاي) فوضوي، وهذا ما يجعلهم أخطر.. كان عليهم أن يعبروا عن مآسيهم بـ “الياء” الهادئة التي تعني “اليأس” أو “الانتهاء”، لكنهم اختاروا “الزاي” الذي يعني “الزحف” و”الزمجرة” والتمرد العابر للأجيال والحروف…
وبما أن السخرية باتت عملتنا الوحيدة والملجأ الأخير، فلنتجند فعلاً لهذه الجبهة الجديدة..
تخيل المشهد الساخر الذي سنراه على شاشات “الماضي الجامد”، فقد تقول مذيعة القناة السفلى:
(أنظروا.. إنهم يربطون فوز منتخب شبابنا في المونديال بـ”حركة زد”.. حتى هدَّاف المونديال، الذي يبدأ اسمه بالحرف الملعون “زد” (Z)، لا يسجل هدفاً إلا ويرسم بيده علامة “زد” أمام الكاميرات…
وهنا يكمن العبث، فالطبيعي أن نقول إن الهداف ياسر الزابيري كان لا يشجع الحركة بقدر ما كان يعد بأنه سيزيدنا أهدافاً كروية أخرى، وأن إشارته مجرد وعد رياضي بسيط)…
لكن لا يا جمهور.. الفزاعات السياسية والحزب السري لن يقبلوا بهذا التفسير التافه.. سيعقدون مؤتمراً طارئاً ليؤكدوا الآتي:
إن الهدف ليس مجرد هدف.. بل هو اختراق مباشر للمشاعر الوطنية بتخطيط من “الماسونيون الكرويون” الأجانب.
حرف “زد” الذي يرسمه اللاعب الزابيري ليس “زيادة أهداف”، بل هو شعار سري لتصعيد التمرد الشبابي، لكي “يستكمل مهمته القذرة” داخل المدرجات وخارجها.
إنهم سيعلنون أن اللاعب لم يكن يشجع الرياضة بقدر ما كان ينذرنا فعلاً بالزلازل الكروية والاجتماعية القادمة، وأن “الكرة” ما هي إلا غطاء لنشر “الفوضى المنظمة” بين الجماهير.
وهكذا، حتى في لحظة المجد الكروي النادرة، يتحول كل انتصار، وكل إشارة، وكل حرف أجنبي.. إلى دليل إدانة إضافي يُستخدم لتثبيت الجمود السياسي، ورفض “الزاي” الصارخ للتمرد، والإبقاء على “الياء” الحزينة كحرفنا الوحيد المسموح به للتعبير عن المشاعر!
هامش بلا لسان:
أتذكر أن قدماء المغاربة، الذين عانوا من القهر وعقود الاستبداد، كانوا يسكتون أطفالهم بعبارة: “اقطع الزي” (كَطَّعْ الزِّي)!!! يا للهول!!! هذا يعني أن “الركود السياسي” ليس مجرد فشل حكومي، بل هو درس تربوي متجذّر في وجداننا الجمعي…
إنهم علمونا منذ الطفولة أن “الزاي” (صوت التمرد والصخب) يجب أن يُقطع ويُسكت، وأن “الياء” (اليأس والسكون) هو النهاية الأرْضَى للأبجدية…
لذا، عندما يأتي جيل “زد” اليوم محملاً بالضجيج والاحتجاج، فإن رد فعل “الحزب السري” و”المنغنطيس” ليس قمعاً سياسياً فحسب، بل هو “استرجاع تربوي” لما تعلموه وهم أطفال… إنه ما سماه وزير التعليم بـ”النجوح“…!
إنه تطبيق عملي لما تربوا عليه: “اقطعوا الزي”، واسمحوا لـ “الياء” بالبقاء في سلام! والمطلوب من شبابنا أن يقطعوا صوتهم المزعج ليصبحوا مواطنين صالحين لا يُسمع لهم صوت.
تنبيه قبل الختم:
الصدفة المُرّة أو القَدَر الساخر، هو أن شخصية مثل الهداف ياسر الزابيري تجمع بين طرفي النقيض اللغوي، إذ يبدأ اسمه بحرف الياء (ي)، وهو الحرف الأخير في أبجديتنا العربية.. رمز اليأس والسكون الذي تريده المنظومة القديمة..
فيما يبدأ لقبه بحرف الزي (ز): وهو ما يقابل حرف (Z) في الأبجدية اللاتينية.. رمز الضجيج والتمرد الذي تتبناه “حركة زد“…
إن تجسيده للحرفين في اسمه ولقبه يعني أن المعركة ليست بين “الياء” و”الزي”، بل هي معركة داخلية، داخل الجيل الواحد والاسم الواحد، بين الماضي الذي يريد أن يختم الحكاية باليأس (الياء)، وبين المستقبل الذي يصر على أن يبدأ بالزمجرة والاحتجاج (الزي).
وهذا يؤكد أن “التمرد” ليس اختراقاً خارجياً بالضرورة، بل هو النتيجة الحتمية لضغوط تراكمت داخل الهوية الوطنية ذاتها، حتى انفجرت لتجمع المتناقضات اللغوية في اسم واحد.