الْكِتَابَةُ فعلٌ وُجُودِيٌّ وعِنَادٌ صَامِتٌ ضدَّ طَمْسِِِ الذَّاكِرَة
عبد الرحمان الغندور
كثيرا ما يسألني صديقاتي وأصدقائي : لماذا أكتب، وهذا جوابي وهو دون شك جواب صديقاتي المقاومات، وأصدقائي المقاومين اللواتي والذين لم يخرسهم/ن اليأس المقيت، ولا الانكسار الممنهج.
الكتابةُ عندي ليست مجردَ كلماتٍ نبعثرها على الورق، أو أحرفٍ تتراصُّ لتشكّل جُملاً فحسب، بل هي فعلٌ وجوديٌّ بالدرجة الأولى. أكتبُ لأنَّ القلمَ في يدي يشبهُ فأساً أحفرُ بها في أعماقي وفي أعماق الوجود، أبحثُ عن بقايا نفسٍ قد تبعثرت في زحامِ وضجيج الأيام، وعن فكرةٍ ضائعةٍ في دهاليزِ النسيان. هي رحلةٌ إلى الداخل والخارج، إلى تلك المساحاتِ الغامضةِ التي لا نزورها إلّا حين نجرؤ على المواجهة. فأنا حين أكتبُ، أخلقُ مسافةً قرب بيني وبين نفسي وبين العالم، مسافةً تسمحُ لي بأن أرى، وأن أُرى.
الكتابةُ عنادٌ صامتٌ/صاخب ضدَّ كلِّ ما يسعى لطمسِ هويتي. في عالمٍ يزدادُ ضجيجاً، وتغزو فيه الصورُ السريعةُ والعباراتُ الجاهزةُ عقولنا، فتصبحُ الكتابةُ عندي مقاومةً حقيقيةً. مقاومةً ضدَّ التسطيح، ضدَّ الانسياقِ وراءَ التيار، ضدَّ قبولِ الأفكارِ المُعلَّبةِ دون تمحيص. هي رفضٌ للخنوعِ والاستسلامِ لإملاءاتِ الواقعِ المر أحياناً، ولأوهامِنا أحياناً أخرى. فأنا حين أكتبُ، أقولُ لنفسي أولاً وللآخرين ثانياً: أنا هنا، لي صوتي، لي وجودي المختلف، ولن أسمحَ للصمتِ بأن يبتلعني.
الكتابة عندي، نضالٌ يوميٌّ ضدَّ شيخوخةِ الروحِ قبل الجسد. كم نخافُ على ذاكرتنا من الضياع، على لحظاتِ الفرحِ والحزنِ التي شكّلتنا أن تتبخرَ كأنْ لم تكن. فتصبحُ الكتابة وسيلةً لتحنيطِ الزمن، لحفظِ اللحظاتِ في براداتِ الكلمات. كلُّ ذكرى ندوّنها هي انتصارٌ على النسيان، كلُّ فكرةٍ نُسجّلها هي خطوةٌ نبتعدُ بها عن هاويةِ الزهايمرِ الوجودي. أن تكتبَ يعني أن تحتفظَ ببوصلتك في عالمٍ يريدُ لك أن تضيع.
في هذا العمرِ الذي يتقدّمُ بي، لا أخشى الشيبَ الذي يغزو شعري، بل أخشى أن تتكلسَ أفكاري، أن تصبحَ رؤيتي للعالمِ ضيقةً ومحدودة. الكتابةُ هي تمرينٌ يوميٌّ للعقلِ والروح، كتمارينِ العلاجِ الطبيعي التي تحاربُ تصلُّبَ المفاصل والشرايين. هي تمنحُ المرونةَ للفكر، والليونةَ للقلب. حين أكتبُ، أمارسُ نوعاً من اليوغا الذهنية، أمدُّ عضلاتِ تفكيري، وأتنفسُ بعمقٍ كي لا أختنقَ برتابةِ الحياة.
الكتابةُ شهادةُ وجود. وهذا هو جوهرُ الأمر. في اللحظةِ التي أتوقفُ فيها عن التساؤل، عن التأمل، عن التعبير، أبدأ بالانطفاء شيئاً فشيئاً. لكنَّ الكتابةَ تُشعلُ في داخلي نوراً يقاومُ الظلامَ من حولي. نورٌ قد يكونُ خافتاً أحياناً، لكنّه يكفي لأن يريني الطريق، ويكفي لأن يرى الآخرونَ من خلاله أنَّ في هذا العالمِ من لا يزالُ يحملُ مصباح ديوجين ويبحثُ عن الحقيقة.
لذلك، سأستمرُّ في الكتابة. سأكتبُ حتى لو لم يقرأْ أحدٌ ما أكتب. سأكتبُ كي لا استسلمَ للنسيان، كي أحافظَ على وعيي في عالمٍ يدفعُنا نحوَ الغفلة. سأكتبُ لأنَّ في داخلي طفلاً لا يريدُ أن يكبر، وحكيماً لا يتوقفُ عن البحث. سأكتبُ لأنَّ الورقةَ البيضاءَ هي آخرُ ساحاتِ الحريةِ المطلقة، وأنا فيها القائدُ والجندي، والمخطئ والمصيب. الكتابةُ هي أن أتركَ بصمتي على الزمن، أن أقولَ للكون: مررتُ من هنا، وكان لي صوت.
أكتب لأنّ الكتابة عندي آخر معاقل المقاومة في زمنٍ ينهش فيه الاستبدادُ إرادةَ الإنسان. فالكتابةُ فعلُ عنادٍ وجودي، ورفضٌ للاستسلام لغواية الصمت، وتمردٌ على كلّ ما من شأنه أن يحوّلني إلى كائنٍ منقادٍ وخنوع. هي تمرينٌ يوميٌ على قول “لا” حين يُجبرني العالم على قول “نعم”، وهي حربٌ ضدّ الضياع والنسيان، ضدّ أمراض الشّيخوخة التي تتربّص بالذاكرة والفكر معاً. فأنا أكتب لأثبت أنّني ما قادراً على التذكّر والمواجهة، حتى وإن بدا كلّ شيء حولي يدعو إلى اليأس.
لكنّ هذا العناد بالكتابة لا ينفصل عن حالة القهر التي نعيشها. ففي ظلّ الأجواء الخانقة، حيث تتحوّل السياسة إلى مسرحٍ للمناورات المغلقة، وتُختزل الأحلام الوطنيّة في صراعات تافهة، تصبح الكتابةُ ضرباً من التحدّي للنفس قبل الآخرين. إنّها محاولة عنيدة لاستعادة لذّة الضّوء في عتمة الاكتئاب العام. فالاستبداد لا يفسد السياسة فحسب، بل يفسد الأخلاق العامة والمزاج الخاص، ويفسد أيضا طرق التفكير ذاتها. إنّه يغتال في الإنسان رغبته في الإبداع، ويحوّله إلى كائنٍ مكسور يتساءل: ما جدوى الكلمة إن كانت لا تسمعها الآذانٌ الصمّاء؟
لا أريد أن أسقط في هذا الانكسار الذي يهدّدنا جميعاً. إنّه يشبه البكم الاختياري، حين يعجز الإنسان عن التعبير لأنّ الكلمات فقدت جدواها في فضاءٍ مسموم، فأتغلب على السقوط والانكسار بالكتابة، لأنها مثل التنفّس في غرفة مغلقة، قد لا تغيّر من واقع الحال، لكنّها تبقيك حياً. فأكتب لأنّي كغيري من الصديقات والأصدقاء المقاومين والمقاومات، أحمل على كتفيّ أعباءً لا حصر لها ذاتيا وموضوعيا، تصل بنا أحيانا إلى درجات اليأس القصوى، حين يطغى الصخبُ وتغيب المعاني، فنضطر للتوقّف أحياناً عن الكتابة. نتوقّف لأنّ المشهد يبدو وكأنّه خرج من دائرة التأثير، وصار محكوماً بمنطق القوة التافهة المسلحة بعنف الدولة من جهة، وعنف الشعبويات وقبيلة ” العياشة ” من جهة أخرى. وفي هذه اللحظات، نختار الصمت طوعاً، لأنّ الكلام قد يبدو لغوا لا طائل وراءه. لكنّ هذا الصمت ليس استسلاماً، بل هو تأمّلٌ واستجماع لقوى جديدة.
وختاما وليس انتهاء، أكتب لأنّني عنيد يرفض الاستسلام والخضوع والخنوع والتزلف والارتزاق والاستجداء. وأسعى دوما إلى توسيع هامش الديموقراطية الذي يضيقونه باستمرار، لأن في ظلّ الديمقراطية وحدها، في أجواء الحرية التي تتيح المشاركة وتحقيق الذات، تستعيد الكلمةُ قيمتها وتصبح الفكرةُ قادرةً على التأثير في مسار الأشياء والناس. عندها فقط تصبح الكتابة فعلاً حقيقياً، وليست مجرّد صرخة في وادٍ.
أكتب لأنّني أؤمن باستمرار بإشعال شمعة بدل لعن الظلام.
