ترامب يخترق قلب الرباط!

ترامب يخترق قلب الرباط!

عبد الرحيم التوراني

           في غمرة الهوس الرقمي الذي اجتاح مواقع التواصل في المغرب منذ يومين، بصور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “المُعدَّلة” بذكاء اصطناعي، حيث تم إلباسه الجلباب المغربي والطربوش.. تفتق فجأة “الذكاء الخارق” لمسؤولي سلطات العاصمة الرباط، عن فكرة عبقرية لا تقل سوريالية عن صور الذكاء الاصطناعي نفسه… إطلاق اسم الرئيس الأمريكي السابع والأربعون دونالد ترامب على واحد من أكبر شرايين حي الرياض الفاخر!

لكي تكتمل الكوميديا السوداء، اكتشفنا أن الشارع المعني لم يكن يحمل اسم شهيد مقاوم، ولا شخصية ثقافية وطنية، بل كان شارع “النخيل”…

 يا له من لطف سماوي! هكذا جرى ضمان أن الاحتجاجات لن تندلع، فلم نستبدل شهيدا بزعيم أجنبي، كما حدث مع شارع الشهيد الحنصالي في الدار البيضاء، عندما سُمِّيَ باسم فيليكس هويفيت بوانيي (الرئيس السابق لجمهورية الكوديفوار)، ولم نُهِنْ قبائل بني يزناسن مجددا كما حدث باستبدال شارعهم باسم الشهيد المهدي بن بركة…

 السلامة أولا، حتى لو كانت على حساب كرامة الشوارع..

لكن المصادفة القاتلة تكمن في أن شارع ترامب، بامتداده الطويل و”تبجحه”، سيطل على شارع الشهيد المهدي بن بركة، محاذيا له.

يا له من مشهد ميتافيزيقي… هل سيقوم ترامب، وهو يطل في امتداد الاسفلت، بإلقاء التحية على شهيدنا الذي اختفى في ظروف غامضة منذ ستة عقود؟ ماذا سيقول له؟

هل سيهمس له:

  – يا ابن بركة، هل تعلم؟ لقد قررتُ أن أطلق سراح الوثائق السرية المتصلة بمصيرك المأساوي، من خزائن المخابرات المركزية، فقط لأجعل مرور ظلي في الرباط أكثر فخامة؟

أما النخيل الذي تم اقتلاعه واجتثاثه ليمر ظل “إمبراطور العالم الجديد” وسط الرباط، فها هو باقٍ على جنبات الرصيف، مقطوع الجذور، ومن بعيد يؤدي بسَعَفه الباقي التحية العسكرية المهينة لـ “النعمة” التي حلت عليه.

لكن ما المبرر الرسمي لهذه “المبادرة الكريمة”..؟

 يقولون إنها إهداء جزاءً على ما قام به الرئيس ترامب لصالح وحدة الأقاليم الصحراوية…

والزعم بأن الفضل في كسب القضية الوطنية يعود بالكامل لقرار فردي أجنبي (كترامب أو غيره) هو إساءة للوطن وتاريخه.. هذا الادعاء يُقزِّم إرادة الأمة ويُهين التاريخ المليء بكفاح الشعب المغربي والجهود الدبلوماسية الوطنية على امتداد عقود. والاعترافات الدولية هي فقط تتويج ودعم لمسار وطني راسخ، وليست سبباً جوهريا للقضية.

آخرون، بأفق أوسع، ينسبون الفضل للمجرم الآخر، قاتل الأطفال ومدمّر غزة على رؤوس أهلها…

هل تصدقون هذه الروابط السحرية؟

ربما سيتجرؤن غدا ويطالبون تسمية شارع باسم المجرم النتن، يداً بيد مع محتل، إهداءً لـ “قناعاته المستقرة“…

رقصة ترامب على إيقاع “غوغل ماب”

عندما أبلغوا ترامب بـ “هدية الشارع الرباطي”، ابتسم نصف ابتسامة باهتة، وتظاهر أمام مستشاريه بـ “عدم الفرح” لكي يحافظ على بريستيجه. ثم طلب منهم بسط خريطة “غوغل ماب” ليشاهد شارع “النخيل” وموقعه. وبتبجح لم يفارقه يوماً، صاح:

– أنا لا أحب النخيل! سجلوا هذا انتصار جديد لنا… النخيل يحيل إلى مجتمعات الصحراء والبداوة… إذن نحن انتصرنا على النخيل في عقر دارهم…

أطلق بعدها قهقة ماكرة.. ثم تساءل بامتعاض:

– ألم يكن بإمكانهم أن يكونوا كُرماء أكثر معنا… هم أهل الكرم كما يحبون أن يسمعوا…  لماذا لا يطلقوا اسمنا المبجل على مدينة أو منطقة أو جهة بأكملها؟!

 ردت عليه إيفانكا، بهمس يقطر سذاجة أمريكية:

– العالم كله لك يا دودي.. يا أبو إيفا…

*** 

جلس المستشار القريب من ترامب، بعد أن استوعب جنون رئيسه حول اجثتات النخيل، وبدأ يشرح له ببرود منطقي يتفوق على أي سحر:

 – سيدي الرئيس، قرارهم بإطلاق اسمك على شارع كان في الواقع حكمة منهم، وليس بخلا..

نظر إليه ترامب بشك:

 -حكمة؟ بل جبن.. أين المنطق في هذا؟

اسمح لي، سيدي.. (قال المستشار بهدوء) .. تخيل لو أنهم أطلقوا اسمك على مدينة بأكملها أو جهة إدارية ضخمة في المغرب

توقّف المستشار ليتأكد من تركيز ترامب، ثم تابع بلهجة قاطعة:

 – إذا أطلقوا اسمك على مدينة أو جهة كاملة، فسيترتب على ذلك منطقيا أن يُطالب كل سكان تلك المدينة بأحقيتهم في إلغاء التأشيرة للدخول إلى الولايات المتحدة، بل وسيُطالبون بامتلاك الكرين كارد (البطاقة الخضراء) بشكل فوري.. سيقولون: نحن مواطنو “مدينة ترامب”…

اتسعت عينا ترامب. فكرة أن يضطر لمنح آلاف الكرين كاردز مجانا لأشخاص لم يكلفوا أنفسهم عناء ملء استمارات الهجرة أصابته بالذعر المالي والقانوني.

صفق ترامب بيده على المكتب بقوة، وقد عاد إليه ذكاء الصفقات الذي يفضله:   

– أنت محق.. محق تماما.. لم أكن لأفكر في هذا الكابوس.. إنهم يحاولون التسلل إلينا باسمي.. كان ذلك فخا.. شارع جيد.. شارع رخيص.. شارع لا يمنح أي حقوق هجرة

نهض ترامب وهو يلوح بيديه بحماس، ويصفق للمستشار:

أحسنت التفكير، هذا هو الذكاء الاستراتيجي الحقيقي.. أبقي عيني على هذه الدول، إنهم يحاولون خداعنا بالأسماء.. سنحتفظ بالشارع، ونحافظ على حدودناوهكذا، نعمل على إنقاذ الولايات المتحدة من “غزو المهاجرين” القادمين من “مدينة ترامب”، وذلك بفضل شارع بسيط لا يزيد عن بضعة كيلومترات.

***

في بُعدٍ موازٍ، حيث يقيم الشهيد المهدي بن بركة، المناضل الذي قاوم الاستعمار والتبعية وتاه في لغز السنين المظلمة، لم يكن المهدي  غائبًا عن هذا المشهد الساخر.

لقد كان يقف، غير مرئي، عند نقطة التقاء شارعه، شارع الكفاح والغموض، بشارع “النخيل المُهَان”.. شارع ترامب الجديد…

بينما كان ترامب يرقص في مكتبه، ويصرخ بتبجح “العالم كله لي”، ويهزأ بالنخيل والمجتمعات البدوية، كان المهدي بن بركة يتلقى صدى هذه الضجة… لم يضحك المهدي، ولم يغضب. بل اكتفى بـ “الصمت المطلق”، صمت أثقل من ستة عقود من الغياب. 

في تلك اللحظة، شعر ترامب فجأة بـ “صقيع” غريب يمر عبر الغرفة الدافئة، صقيع لا يأتي من التكييف. توقف عن الرقص ونظر حوله بتشكيك.

كان المهدي بن بركة يقف عند طاولة الاجتماعات في الرباط، حيث يضع المسؤولون خرائطهم. لم يتحدث المهدي بصوته، بل تحدث بتأثير روحي أصاب عقل ترامب مباشرة.

قال المهدي:

– هذا العالم ليس لك، أيها الراقص.. إنه للفلاحين والعمال الذين قاوموا فرنسا، وللطلاب الذين حلموا بالعدالة، وللفقراء الذين ما زالوا ينتظرون ثورة “القارات الثلاث”…

ارتعد ترامب فجأة، وظن أنه سمع صوتا يتحدث عن “القارات الثلاث”. نظر إلى إيفانكا والذعر يملأ عينيه..

 – من قال هذا؟  

صرخ ترامب:

– من يتحدث عن ‘القارات الثلاث؟ هذه شيوعية قديمة!!! هل هناك ميكروفون خفي؟

تكلم المهدي ساخرا:

– ميكروفون؟ أنا لغز ستة عقود من الزمان، أيها الرئيس.. أنا وثيقة سرية لا يجرؤ عملاؤك على فتحها في خزائن الـ CIA….

وهل تعلم؟ أنت أيضا ستُنسى، وسيعود النخيل يوما ما…  وسيعود الشارع إلى صاحبه، أو سيُمنح لشخص لا يطلب الإهداء’، بل يستحقه…

 لم يستطع ترامب تحمل هذا “التأثير الشيوعي الغامض”. لم يكن يخاف من الجيوش أو الصواريخ، لكنه كان يرتعب من فكرة أن يُنسى أو أن يُمحى اسمه من خرائط “غوغل ماب”.

عاد إلى مكتبه متجاهلاً الدوار الذي أصابه.. سحب مقعده وجلس، ثم رفع رأسه وقال لمستشاريه:

– انسوا الأغنية… سجلوا ملاحظة… يجب أن نتأكد أن اسمي على هذا الشارع مُغطى بضمان مدته خمسمائة سنة… لا أريد أي نخيل أو شهيد ماركسي أن يعود ويهدد انتصاري…

ثم نظر إلى إيفانكا، التي كانت لا تزال تتأمل قيمة الشارع في “غوغل ماب”، وقال لها:

– أعيدي الجملة يا إيفانكا. إنها تريحني…

ردت إيفانكا فورا، وهي تبتسم ابتسامة باهتة:

–  العالم كله لك يا دودي.. يا أبو إيفا..

***

توقفت رقصة ترامب فجأة. العرق يتصبب منه، لكنه لم يكن عرق الجهد بل عرق السلطة المطلقة التي لا تحتمل المشاركة حتى في الأبجدية.

جلس ترامب على كرسي مكتبه وهو يلهث، ثم أشار بيده ذات الخواتم اللامعة إلى كبير مستشاريه، بلكنة قاطعة:

– اتصل بالرباط فورًا… قل لهم إنني شاهدت الخرائط.. وأن الأمر كله رائع.. لكن هناك مشكلة خطيرة في التنفيذ…

– ما هي المشكلة سيدي الرئيس؟  سأل المستشار برهبة.

– الأبجدية… الأحرف العربية!… صاح ترامب، وهو يلوح بيده وكأنه يطرد سربا من البعوض..

– لقد رأيت الصور، ورأيت مشروع لافتة شارعي.. نصفها بالإنجليزية… ونصفها الآخر بتلك النقوش الغريبة التي تتجه من اليمين إلى اليسار…

تقدم ترامب بوجهه المنتفخ نحو الهاتف، ونظر إلى المستشارين بنظرة لا تقبل النقاش:

– قولوا لسلطات الرباط… هذا شارعي.. مفهوم؟ لي الحق المطلق في التصرف فيه… أطالب بإزالة النخيل من جنبات شارعنا، وبأن يضعوا اسمي أنا بالإنجليزية هكذا..  Donald John Trump …

 لا أريد أي أحرف عربية أو أمازيغية تزاحمني حتى في شارعي… يجب أن تكون اللافتة إنجليزية فقط.. بالخط العريض، لا أريد منافسة أبجدية في مملكتي الخاصة…

– هل نفهم من ذلك، سيدي، أننا يجب أن نطلب منهم إزالة كل ما هو عربي أو أمازيغي من اللافتة؟  سأل المستشار للتأكد.

– كل شيء… حتى تلك النقاط الصغيرة التي تضعونها فوق الحروف.. كل ما لا يبدو أمريكيا خالصا يجب أن يختفي.. هذا شارع ترامب، وليس شارع الـ… ما هذا بحق الجحيم؟ انصرفوا… وتصرفوا… ونفذوا الأمر دون نقاش…

أومأت إيفانكا برأسها موافقة، وعلقت بسخرية هادئة:

– إنها مسألة تنقية بصرية وجمالية، يا أبي… الأبجدية الإنجليزية وحدها هي التي تليق بعظمة هذا الاسم.

ثم لوح بقبضة يده وصاح: MAGA..MAGA.. MAGA…

 وMAGA.. هي الكلمة التي تختصر عبارة إنجليزية، ترجمتها “لنجعل أميركا عظيمة مجددا”، يصفها الديمقراطيون بأنها تعود لحركة “متطرفة يتبنى أفرادها عقيدة شبه فاشية”.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!