وصية أسيدون مفتاح لغز موته؟!.. من السُّلَّمِ إلى قِمَم الأطلس..

وصية أسيدون مفتاح لغز موته؟!.. من السُّلَّمِ إلى قِمَم الأطلس..

عبد الرحيم التوراني

                   انطفأ سيون أسيدون، المناضل المغربي الفلسطيني، في صمت ثقيل لم تستطع السردية الرسمية أن تخترقه…

 هي غيمة كثيفة من الغموض تلفُّ رحيله، وشكٌ عنيد يطارد كل حرف في البلاغات المتعاقبة...

بينما كان صوت الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء يتعالى ببيانه الثاني، محاولا تسييج الحقيقة بالوقائع الطبية، كانت الحقيقة نفسها تتسلل من بين الشقوق...

بلاغٌ ثانٍ يحاول أن يغلق الملف، لكنه يفتحه على مصراعيه: “الوفاة ناتجة عن مضاعفات تعفنية لإصابة رضية على مستوى الرأس نجم عنها نزيف… وكسر على مستوى الجمجمة”.

هكذا يرجح الاستنتاج الرسمي فرضيةسقوط الهالك من السلم حينما كان يقوم بتشذيب حديقته”.

يا لها من قصة بسيطة ونظيفة.. لكنها لا تُقنع أحدا.. ولا تُسمن قصاصة خبرية جادة.

دعونا نترك بلاغات الوكيل الموقر خلف ظهورنا.. فالحقيقة ليست حبيسة تلك النصوص الباردة، بل هي في صدى اسم سيون أسيدون، رفيقنا المسجى الآن في برادات الموتى، في انتظار “تكريمه بالدفن“...

إنهم يرددون إن التعجيل بالدفن “تكريم للميت”

كأن التكريم في هذا البلد استحقاق محصور ومُنذور للموتى فقط عندما ينطفئون ويموتون ويختفون…

كأن التكريم الوحيد المسموح به للمناضلين هو سرعة الإقبار والمواراة والنسيان!

لكن أسيدون ليس ميتًا وليس جثة معدة للدفن والإخفاء

سيون أسيدون.. المعطي… لم يكن اختيار اسمه الحركي مجرد مصادفة لغوية، بل كان قصدا عميقا يحمل ثقلا رمزيا…

اختار أسيدون اسم المعطي صدى مطابقا لاسم “المهدي”، اتحادا ليس فقط في مَوْسقة اللفظ، بل في جوهر المعنى والمضمون.. في الإيمان بالقضية ومقاومة اليأس.

ويا لمكر الصدف الماكرة!

ها هو المعطي (أسيدون)، يذهب ليلتقي مع المهدي في عقد غيابه السادس… ليتحد الغموض والتآمر ورائحة حمض الأسيد برائحة سنوات الرصاص التي عاشها بالسلالم الرديئة الصنع..

ها هي “تلك الرائحة” أمامنا تذرع في الهواء من جديد.

أسيدون ليس رجلا سقط من سلم متهالك، كما تحاول الأبواق الرسمية أن تقنعنا… بل هو فكرة صعدت إلى القمة.. فكرة ترفض الاستسلام لصمت الموت، وتعد بعودة ما، أو بصحوة ما… لأن الأفكار كالجبال… لا تهوي بسقوط عابر.. بل تظل شاهدة على العهد.

جسده الآن يرقد في جليد المشرحة، لكن روحه “متوهجة متأججة على امتداد الزمن” تصرخ من الأطلس الكبير، وتطالب بتنفيذ الوصية، ليكون الدفن تكريما لا إخفاءً، شاهدًا لا نسيانًا…

فلنستمع إلى همس خفي، قد يكون الوصية الحقيقية التي لم تُكتب ولم توثق على ورق، بل طارت من بين الشفاه منذ أكثر من عقد ونصف.

***

بعث لي صديقي عمر الزغاري ليلة أمس بما يُحتمل بقوة أن يكون ذلك الصوت الأخير… إنه صوت أسيدون نفسه، حين استضافه حميد برادة على شاشة القناة الثانية (دوزيم) في برنامجه “Mais Encore”، تحديدًا في حلقة شهر فبراير 2010.

السؤال يصرخ فينا الآن.. وماذا بعد؟ماذا بعد هذا السقوط المريب؟

في ختام تلك الحلقة، وفي سياق فقرة “التسلية الصينية” الترفيهية، صدرت من أسيدون الكلمات التي تحولت اليوم من أمنية عابرة إلى وصية مُلزمة:

“Je pense finir mes derniers jours… là-haut… là-haut dans le Grand Atlas”

لقد كان يشير إلى توبقال.. القمة الشامخة، حيث يرقد الأجداد الأمازيغ…

في تلك اللحظة، كانت أمنية.. أما اليوم، وبعد هذا الرحيل الغامض الذي حاولوا أن يدفنوه تحت فرضية “السقوط من سلم”، أصبحت هذه الكلمات وصية مُقدسة.

***

تقول رسالة الواتساب المقتضبة التي بعثها لي عمر الزغاري:

(إن لم نجرؤ نحن، رفاقه ومحبوه، على ترجمة هذه الأمنية إلى وصية واجبة التنفيذ، فإن كل حديث عن كشف حقيقة ما جرى لسيون أسيدون، سيظل مجرد كلام ليل يمحوه النهار، مجرد ضجيج في قاعة المحكمة الصامتة)…

الوصية واضحة.. لا تدفنوني في الضجيج، ولا تصدقوا قصة السلم…

إن كنتم تبحثون عن روحي، ستجدونها هناك في الأطلس الكبير.

مهمتنا الآن… هي نقل جسده إلى حيث أراد أن ينهي أيامه الأخيرة، إلى هناك… حيث يرقد الأجداد الأمازيغ الأوائل

 عندها فقط، يمكن أن نبدأ حقا في البحث عن الحقيقة المدفونة خلف “المضاعفات التعفنية لإصابة رضية.

***

سيون أسيدون في ضيافة برنامج حميد برادة على قناة "دوزيم"
سيون أسيدون في ضيافة برنامج حميد برادة على قناة “دوزيم”

يا ليت.. يا ليت تلك الكلمات العابرة تتحول الليلة، ومع انعقادجلسة الوفاءفي مقر الحزب الاشتراكي الموحد بالدار البيضاء، إلى ميثاق عمل مُلزم لأصدقائه ورفاقه.

يا ليتنا نرى في أمنيته البسيطة.. ليس مجرد رغبة شخصية، بل إعلانا رمزيا ينسف السردية الباردة لـ “السقوط من سلم.

هذا المساء، السبت 8 نوفمبر 2025، نتمنى أن تكون اللحظة التي يُرفع فيها صوت أسيدون من جديد، صوت أسيدون رجل الوطن وصوت المعطي “رمز القضية الفلسطينية.. الذي قضى 12 سنة من عمره في سجون سنوات الرصاص، وقاد حركة BDS بالمغرب.

ليتنا ندرك أن الوصية ليست عن مكان الدفن، بل هي مانيفستو للإصرار على الحقيقة.

هي دعوة لرفض التفسيرات المُعلبة، وإعلان أن روح أسيدون لم تسقط من سلم، بل صعدت إلى القمة، وعلى رفاقه أن يطاردوا حقيقة الصعود لا أن يصدقوا حكاية السقوط.

الأطلس الكبير، حيث يرقد الأجداد الأمازيغ، يرمز إلى الجذور والعمق الوطني.. والوصية هي الدعوة الأخيرة لربط هذا العمق بقضية حرية الأرض والكرامة الإنسانية.

عندما اختار أسيدون قمة الجبل، اختار الثبات والوضوح والابتعاد عن ضوضاء ولغط السياسوية

 يجب أن تتحول هذه الأمنية إلىكلمة سر بين الرفاق الليلة، تُطلق شرارة البحث والتحقيق خارج الأطر الرسمية.

ليت الشعلة التي زرعها سيون أسيدون تُضاء مجددا بفعل هذه الوصية الشفاهية…

 عندها فقط، سيصبح الحديث عن كشف حقيقة ما جرى التزاما أبديا يحمله الأطلس الكبير وتشهد عليه قمة توبقال.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!